أضع هنا دراسة بعناون : بنية الحكاية في رواية وجهان لجثة واحدة للازهر بن الحبيب الصحراوي، من تونس الشقيقة.
تحكي رواية وجهان لجثة واحدة قصة الشخص الرئيسي صابر الجفناوي والتحولات التي شهدتها حياته. تبدأ الرواية على أعمال و طرق التعذيب الممارس في السجون التونسية، لنعود ونتابع تطورات حياة الشخصية المركزية صابر الجفناوي، ثم في أخر النص نتابع التحول الذي عاشه صابر الجفناوي من سجين يتجرع آلم وذل السجن إلى شخص مأزوم يمارس تنفيس عقده النفسية عبر العمل في دار الموتى والعبث بأجسادهم صحبة رفيقة مناسبة هناك.
الرواية بنيت على بناء نصي محكم وتمّ توظيف الخطاب الفنتازي المصحوب بالساخر ضم نحكاية مدينة العكاكيز وهي في الحقيقة رواية اطروحة تقدم وجهة نظر محددة ضمن الجذل الثقافي الذي تعيشه تونس.
هذه الدراسة تناولت بناء الحكاية فيها وطبيعة بنى التناقض والتضاد التي تتناوب على شخصياتها. وهي تدخل ضمن محاولتنا إعادة المركزية لفهم بناء الحكاية تمخيدا لفهم النص كله وعمل الدراسة المناسبة له. أرفقهنا الدراسة التي سبق نشرها في كتاب (أستنطاق النص الروائي) الصادر عن دائرة ثقافة الشارقة سنة 2008.م
ولا يفوتني هنا إلا أن أتذكرموقف د. عمر عبدالعزيز المدير التنفيذي للدائرة المميز وهو يحرص على أن أطلع على هذا العمل فأحضر لي نسخة منه قبل أن يتم تغليغه, شاكرا له هذا الحرص.
تحكي رواية وجهان لجثة واحدة قصة الشخص الرئيسي صابر الجفناوي والتحولات التي شهدتها حياته. تبدأ الرواية على أعمال و طرق التعذيب الممارس في السجون التونسية، لنعود ونتابع تطورات حياة الشخصية المركزية صابر الجفناوي، ثم في أخر النص نتابع التحول الذي عاشه صابر الجفناوي من سجين يتجرع آلم وذل السجن إلى شخص مأزوم يمارس تنفيس عقده النفسية عبر العمل في دار الموتى والعبث بأجسادهم صحبة رفيقة مناسبة هناك.
الرواية بنيت على بناء نصي محكم وتمّ توظيف الخطاب الفنتازي المصحوب بالساخر ضم نحكاية مدينة العكاكيز وهي في الحقيقة رواية اطروحة تقدم وجهة نظر محددة ضمن الجذل الثقافي الذي تعيشه تونس.
هذه الدراسة تناولت بناء الحكاية فيها وطبيعة بنى التناقض والتضاد التي تتناوب على شخصياتها. وهي تدخل ضمن محاولتنا إعادة المركزية لفهم بناء الحكاية تمخيدا لفهم النص كله وعمل الدراسة المناسبة له. أرفقهنا الدراسة التي سبق نشرها في كتاب (أستنطاق النص الروائي) الصادر عن دائرة ثقافة الشارقة سنة 2008.م
ولا يفوتني هنا إلا أن أتذكرموقف د. عمر عبدالعزيز المدير التنفيذي للدائرة المميز وهو يحرص على أن أطلع على هذا العمل فأحضر لي نسخة منه قبل أن يتم تغليغه, شاكرا له هذا الحرص.
بنية الحكاية في رواية "وجهان لجثة
واحدة"
للأزهر
بن الحبيب الصحراوي[1]
حكاية الرواية:
تحكي رواية "وجهان لجثة واحدة" قصة
الشاب "صابر الجفناوي"، الذي تربى في صغره في الريف التونسي، وانتقل من
الريف إلى المدينة. كما ترسم الرواية وبقوة صورة المجتمع التونسي في مرحلة آخر
السبعينات وحتى أول التسعينات، ترسم المجتمع التونسي وكل التحولات الثقافية والبنى
الأيديولوجية السائدة. يلتقي "صابر" في بداية حياته المعلم
"عمّار" الذي جاء من العاصمة مع رفاقه مبشرين بفكرهم واصطدموا بحاجز
التخلف والأمية التي يعاني منها الناس، حيث كانوا يعتقدون أنه من الممكن عن طريقهم
تغيير العالم، وبعد أن سرق "صابر" (الطفل) وابن خالته "وناس"
سرج حصانهم وحقيبتهم المحتوية على كتبهم وأوراقهم، قرر اثنان منهم العودة لمدينة
العكاكيز القصيرة الأسطورية، فيما قرر "عمّار" أن يقوم بدور المعلم، حيث
المدرسة التي بنتها الدولة كانت قد هدمتها السيول. ويرسم الراوي عبر
"عمّار" الشخصية المثالية، حيث العمل دون مصلحة سوى الرغبة في تثقيف
أولئك الأطفال وتعليمهم. في نهاية السنة الدراسية يعترف "صابر" لمعلمه
بأنه هو من سرق السرج فيسامحه، ويتحقق عبر أسطرة الراوي لهذه الشخصية الفرصة لكي
يطرح أيديولوجية بشكل غير مباشر.
في آخر السنة وفي الصباح الباكر يترك الأستاذ
"عمّار" في الفصل الذي ينام فيه كل هدايا أهل القرية مع رسالة يشكرهم
فيها. في نفس الوقت نجد ضمن رواية "وجهان لجثة واحدة" قصة مدينة
العكاكيز القصيرة بنمط يجمع بين الخطابين الساخر والعجائبي وإن كان الخطاب المسيطر
هو الخطاب الساخر.
حيث نتابع في هذه
المدينة كيف قرر أهل المدينة بعد سقوط الجبل العالي وانهياره أن يمارسوا المشي
منحنيين. تمّ ذلك عند اجتماع الناس في الموعد الذي حددته منظمة "الألسن
الطويلة" و"جمعية الأناقة والرشاقة" وجمعيات أخرى، حيث تقدم
"أحمد الشريف" وأخذ يشرح للحضور بشكل عملي فكرته التي يريد، التي تتمثل
في الانحناء الذي تستلزمه طبيعة المرحلة ويتم ذلك بلبس السترة مقلوبة والتعكز
بواسطة العكاز القصير، وتصور الرواية حكاية أهل المدينة وكيف استقبل حاكمها فرِحاً
مسروراً هذا الفعل من تلك الجمعيات وقربها إليه.
ويستمر الراوي في سرد
أحداث الصرع الذي نشأ بين هذه الجمعيات التي تعتمد فلسفة الانحناء وبين "حركة
السواعد القوية" التي انطلقت من فكر ثوري ذي جذور شيوعية، وحاولت أن تقاوم
هذه الظاهرة، فخرج دعاتها للقرى والأرياف طمعاً في كسب التأييد ولكنهم فوجئوا
بالرفض وبإشكاليات منها ما سبق حكايته ضمن حكاية "صابر" وهو طفل، هو وكل
سكان قرية أولاد حسن.
سنجد الحكاية بعد ذلك تخرج من النمط الساخر
لنجدنا مع "صابر" في المدرسة الثانوية وهو يميل شيئاً فشيئاً لرفاقه
الشيوعيين حيث الأستاذ "أيمن العكرمي" والملقب بـ"جيفارا" في
صِدام هو وتلاميذه الذين اتبعوه مع الجماعة الإسلامية. ونتابع عبر الحكاية
والاختيار الأيديولوجي الخاص موقف "صابر" وتحوله شيئاً فشيئاً للمجموعة
الشيوعية، ثم بداية اجتماعه مع رفاق الحزب.
انتقلت عائلة "صابر" من سكنها
السابق في قرية أولاد حسن إلى السكن الجديد في مدينة العكاكيز القصيرة. وتحقق
لـ"صابر" النجاح في امتحان البكالوريا وأحس بفرحة الناس به. ولكن ما قلب
فرحته هو توجيهه ليدرس في المعهد العالي للطبخ. انتقل "صابر" للعاصمة
وهناك في الجامعة استقبله رفاق الحزب وتم حصوله على سكن في شقة منزوية يسكنها بعض
أعضاء الحزب، ومن هناك بدا ينطلق في ممارسة الأعمال المنوطة به، حيث كان الشخص
المسئول عنه الذي يقوم بتوجيه حركته هو ما عُرِف بـ"الأصلع القصير".
اصطدم "صبري" بالانشقاق في الحزب وبشخصيات خاصة في السكن مثل
"عبدالرزاق" و"الأسمر" وغيرهم، وأصبح له اسم حركي هو
"منصور الوسلاتي". سيتحول "الأصلع القصير" شيئاً فشيئاً مثل
المحرك لطاقة "صبري" فهو يراقب الرفاق في الجامعات ويقوم بتبديل البريد
اليومي ضمن طقوس خاصة بغرض السرية مع الفتاة السمراء، وبعد زمن يتعرف على شخصيات جديدة
في السكن مثل "سعيد المتخاذل" و"جاكوب" و"أيت الله
تونغ".
يستمر
"صابر" في عمله كما يقوم بمراقبة رفاق الحزب في الجامعات من خلال بطاقة
العضوية في الجامعة التي كان يجهزها له مدير أعماله "الأصلع القصير".
يستعد "صابر" ليقوم بالكتابة على الحيطان تمهيداً للمظاهرة التي ستتم،
ويكتشف مع الوقت سطوة التنظيم على الأفراد الذين ينتمون له، فقيادة الحزب تتدخل
حتى في زواجهم كما يرى المزيد من التناقض، والأحقاد الشخصية بين أفراد الحزب كما
في حالة "ندى" المشرفة السابقة على نادي الشبان والعلم، التي تعاني من
اضطهاد رفيقات الحزب لها. وتنتهي حكاية "صبري" مع الحزب في المظاهرة
التي قبض عليه فيها، وهناك تبدأ عذاباته مع المحققين، حيث نجد "البهلي"
شخصية المجرم وهو يقوم بحرق أعضائه التناسلية وضربه وأخيراً الاعتداء على شرفه، كل
ذلك ضمن السجن و"صبري" وحيداً. يخرج "صبري" من سلسلة العذابات
بالتوقيع على المحضر المطلوب الذي يعترف فيه بما لم يفعل لينجو، فيحكم عليه القاضي
بالسجن لمدة سنتين، وهناك يسجن مع "صميدة" وغيرهم، ويتعرف على قصة مدينة
العكاكيز القصيرة من "صميدة" الذي يعرف أنه أحد الذين زاروا قريتهم في
الماضي.
بعد الخروج من السجن
يجد صبري والدته ميتة كما يجد والده عاجزاً وتقوم بإعالته أخته ورفيقها (الجار
الطيب) "زائد". يتعرف "صبري" على "زائد" ويمارس معه
الجلوس اليومي لشرب الخمر ويسمع قصة رحلته ملاكماً في أوربا وعودته بعد أن هربت
زوجته المالطية بابنه الوحيد.
يجد "صابر"
عملاً في تغسيل الموتى، ويتحول هذا العمل لنوع من الانتقام لكل ما حدث له فهو
يمارس طقوسه الخاصة مع كل ميت بحسب مكانته الاجتماعية، ويتعرف هناك في دار الموتى
على "نعيمة عرعور" وهي التي تقوم بتغسيل النسوة الميتات.
مع الزمن ينشأ بين
"صبري" و"نعيمة" علاقة خاصة تبدأ بانكسار الخجل ولا تتوقف.
وتنتهي الرواية على موت "زايد" (الذي أوصى بأملاكه لـ"شريفة"
وأخوها صبري إن لم يرجع ولده) وكذلك بحمل "نعيمة عرعور" من
"صبري".
"صبري"
عندما خرج من مغسلة الموتى وجد الناس يتحدثون عن احتلال العراق للكويت وشعر
بالغربة والبعد عن كل أحاديث السياسة.
وقبل الدخول ومناقشة
بنية الحكاية في رواية "وجهان لجثة واحدة" من المهم أن ننتبه لدور
العنوان الذي يمثل تمهيد للبنية الحقيقية للرواية.
العنوان:
يمثل العنوان السابق ترجمة لحلم كان يحلم به
"صابر الجفناوي" وقد حلم به ستة مرات في ثلاث سنوات من عمر سنواته
النضالية، ويتم الربط مباشرة بين العنوان وأول مقطع من مقاطع الرواية:
"بتراخٍ لا
مثيل له أجلس على كرسيّ وثير دوّار. وفوق ركبتي طبق نحاسي عليه عنقود من العنب
المسكي الشهي. ترفع أناملي حباته إلى فمي حبة حبة وعينان الحائرتان المشدوهتان على
جثتي فوق الرصيف، تهاجمها جيوش الذباب الأزرق، وتحوطها جرذان وفئران والدود الأبيض
ينهش طراوة الأمعاء والمعدة. الناس يمرون وأياديهم على أنوفهم وعيونهم لا مبالية.
أناملي ترفع حبات العنقود إلى فمي حبة حبة وعينان المشدوهتان على الرصيف. حلمت هذا
المشهد بكل عناصره ست مرات بأكملها خلال سنواتي النضالية الثلاث"[2].
إن المقطع السابق يرسم أمامنا وجود بنيتين
متناقضتين، أو وجهين متناقضين هما وجها الشخصية الذي يعيش التناقض على عدة
مستويات. كذلك على مستوى البلد نفسها حيث الجوع يواجه التخمة.
إن بنى التناقض بين المجموعة الواحدة أو على
نطاق مسيرة الفرد ستكون هي الأساس بينما سترسم لنا الرواية باستمرار ذلك التضاد
المستمر بين الشخوص. حيث حدث التضاد هو المركزي في الرواية التي بنيت عليه منذ
لحظتها الأولى.
بنى التضاد وبنى
التناقض في رواية وجهان لجثة واحدة
يبدأ التضاد في الرواية منذ الحدث الأول، حيث
تصطدم الشرطة مع الجمهور، هذا الجمهور الذي خرج من أجل فلسطين منادياً بتحريرها في
الذكرى الأربعين لاحتلالها من اليهود، هنا تستوي الدول في اضطهادها لليهود مع
اضطهاد اليهود للفلسطينيين.
شكل (1) يظهر طبيعة
العلاقة التي رسمتها الحكاية للصراع العربي الصهيوني
إننا سنجد التناقض بين السلطات المختلفة،
وكذلك بين مكونات هذه المظاهرات الجماهيرية؛ فالسلطة الغربية لا تمنع المظاهرة
بينما تمارس السلطة العربية (تونس) القمع ضد المتظاهر:
"... شاهدنا
خروج الجماهير في السويد وألمانيا وكوبا وزائير والفلبين وبلجيكا وكينيا
والأرجنتين وهي تعبر عن إدانتها لما وقع، فقلنا ونحن مجتمعون في ذلك البيت
"الأقربون أولى بالمعروف" فلا أحد سيخسر شيئاً إن تجمعنا في الشارع
واستنكرنا ما حدث وندّدنا بالمجرمين فما العيب في ذلك؟!، لا عيب أعتقد، فقد تعظم
قيمتنا في نظر الناس"[3].
هذا المقطع يعبر عن قدرة الجماهير في بلدان
غير عربية على التظاهر، وبذلك يظهر أمامنا التناقض بين السلطة في الدولة العربية
والسلطة هناك.
ثانياً:
سنجد بنية التضاد الثانية بين الجلاد والسجين، وهي أيضاً تتناظر مع بنية أخرى هي
بنية مغسلة الموتى والموتى في آخر الرواية.
لنتابع هنا جزء من
ذلك الخطاب الساخر الذي كان يرسمه الراوي وهو يصور بصمت وهدوء ذلك العالم الداخلي
المقيت، حيث "البهلي" هو المسيطر وحيث للأشياء شكل مختلف:
"أقبل علينا
البهلي متنمّراً وفي يده سلك كهربائي سميك يلوّح به في الهواء وقال مهدّداً
متوعدّاً: (وربي العظيم وربي العزيز ورحمة الوالد الذي شوى بموته كبدي إن من لا
يشارك معنا في الأنشطة الترفيهية شويت لحمه بهذا) وأشار بيده إلى السلك الكهربائي
السميك (ومنعته من الأكل والنوم أياماً).
بدأ يملي تفاصيل
الأنشطة فقال: (أنا أقول وأنتم ترددون جميعاً بعدي وبصوت واحد منسجم ومنظم كل الذي
أقوله..).
بدأ البهلي ينشد:
(ديكي ديكي أنت صديقي) ردّدنا جميعاً دون استثناء، والألم يعصر نفوسنا والنقمة
تخنقنا خنقاً ونحن نداري ذلك اتقاء شر البهلي الذي ينتقل بيننا بخفة لا مثيل لها،
ويتفرس في الشفاه، ويصغي إلى الأصوات، ثم أضاف: (أنت أنيس البيت رفيقي) فردّدنا
كما يفعل أطفال الكُتّاب: (أنت أنيس البيت رفيقي). هوى البهلي على شاب يقف أمامي
مباشرة بذلك السلك السميك لتراخيه في ترديد النشيد فنزّ الدم من رقبته وتلوث قميصه
الأصفر وتلوّى المسكين في مكانه وابتلعت صرخة تألمه أصوات المردّدين"[4]
.
إننا كما نرى مع المجموعة وهي في السجن
و"البهلي" هو المسيطر، والراوي عبر النهج الساخر الخفي والرصد الدقيق الكثيف
يرسم حِدّة هذا التضاد فنجدنا أمام هتك العرض والحرق بالنار في الأماكن الحساسة
وقلع الأظافر. سيكون رد "صابر الجفناوي" في آخر الرواية وهو يقوم بتغسيل
الجثث ويقوم في حالة شبه هستيرية بضرب أجساد الموتى من الطائفة الغنية:
"بعد أن سمعت
كل ذلك تسلّمت الجثة بحماس فيّاض وأنا أقول: (هذا يومكم الذي كنتم توعدون) أودعت
الجثة في مكانها ودبّت في داخلي فرحة عارمة واندفاع لا مثيل له وقلت لنفسي: (يجب
أن تعيد تأهيله وتأديبه يجب أن تحاكمه الليلة وتقتصّ منه وتنتصف للآخرين).
أغلقت الباب والنوافذ
عند الساعة الواحدة ليلاً وأسدلت الستائر وجذبته جذبة من الثلاجة الجماعية فكان
على الأرض... سحبته من رجله إلى أن استقر في الزاوية المعتمة... أوقفته في
الزاوية، كان وجهه باهتاً أزحت القماش الأبيض عنه فبات عارياً مثل خشبة أو مثل
حيوان ميت، نظرت إليه حدجته بنظرات ملؤها السخرية والقسوة، تقمّصت دور البهلي سيئ
الذكر. ضربت على الطاولة وقلت: (باسم الشعب نبدأ محاكمة فلان الفلاني لقد حان
الوقت لتقول فيه طلائع الشعب السرية كلمتها الفصل لقد صال وجال وبال على ذقون
الرجال وبال في نساء الرجال وامتص دماء العمال المقهورين وتعدّى على حريات الناس
وانتهك كرامتهم... إن هنشير العجل الأصفر الذي يخصب مرتين في العام كان ملكاً
لأولاد الربيع وقد اشتراه منهم كرهاً وتدليساً، واحتال عليهم حتى حصله بثمن
بخس...) كان اللثام على وجهي، وكنت مرتدياً معطفاً مثل معطف ستالين تلمع أزراره النحاسية
وأنتعل حذاءاً عسكرياً ضخماً.أخذت الحزام الجلدي الأسود الذي أتمنطق به واقتربت
منه متنمراً فجعلت أجلده وأركله في كل بقعة من جسده بشكل هستيري متهمج، حتى خارت
قواي وأسندت ظهري إلى الثلاجة من فرط الإنهاك، ثم عاودني الغضب فعدت إليه أرفسه
وأركله وأشتمه.تأخذني أحياناً بعض الشفقة فأتوقف عن تعذيبه... ينال مني التعب
والإرهاق والحنق فأفتح النافذة وأستنشق الهواء بملء رئتيّ"[5]
إننا كما نرى أمام "صابر" مع الجثث
وهو هنا وفي هذا المكان الرهيب يتحول إلى الجلاد، إنه يمارس فعل انتقامه من هؤلاء.
لنتابع طبيعة المربع الذي ينتجه هذا الوضع مع الوضع السابق.
شكل (2) يوضح طبيعة
العلاقة بين صابر و رموز السلطة في كل الحكاية
إن
"البهلي" وكل السجانين في السجن السياسي يتناظرون مع "صابر"
غاسل الموتى، بينما يتناظر "صابر" القديم السجين في استسلامه مع المسئول
الميت.
ثالثاً: البنية
الثالثة هي
تلك التي تأسست من خلال الخطاب العجائبي والساخر معاً حيث نجد قصة سقوط الجبل في
مدينة العكاكيز القصيرة:
"أصيب سكان
المدينة بذهول شديد لما شاهدوا الانهيار الرهيب ورأوا بأم أعينهم القمة الشامخة
الذاهبة بعيداً في السماء مكدسة في المستنقعات وممرغة بالأتربة والأوحال فقد انهار
الجبل العالي الذي يحصّن المدينة من الجهة الغربية من تلقاء نفسه وبصفة مفاجئة في
تلك الليلة الصيفية المجنونة.
إنه تآكل من الداخل
وأثّرت فيه الرياح الهوجاء والثورات البركانية المتعاقبة والرجات الأرضية القوية
والسيول الجارفة..[6]".
الحدث السابق سيكون سبباً رئيسياً لما طرأ في
المدينة من تحولات، ولا يخفى على أن موضوع سقوط الجبل الذي كان يحمي مجموعات من
السكان من هجمات الريح ليس إلا حدثاً رمزياً يحقق به الكاتب ما يريده من إيحاء؛
فالجبل هو القوة التي كانت تحمي تلك الجماعة المتأففة. سنجد الريح هنا تقوم
بممارسة فعلها الذي سيتسبب في التحولات التالية التي حدثت للناس:
"أحدثت
الرياح القوية تغيرات عميقة في حياة الناس وأثار الواقع الجديد الذي وُجدت عليه
المدينة نفسها جدلاً محدوداً في أوساط السكان، لكنه سرعان ما اتسع وعمّ، فقد كره
أغلب الناس الوضع العادي في سيرهم على طرقات مدينة فقدت حصنها الحامي وأضحت نهباً
للرياح العنيفة القاسية التي تجتاحها من كل الجهات، وتعوي داخل أنهجها وأزقتها
وشوارعها الضيّقة كما تعوي الذئاب الجائعة وتزمجر، وتدوّي كدبابات غارقة في الوحل.
المحير في الأمر أن
هذه الرياح المعادية للسكان أضحت تصدم الناس بعضهم بعضاً فتقذف بهذا أمام العربات
المتجولة في الطرقات وترمي بذاك على الجدران وبتلك على الواجهات البلورية للمحلات"[7].
فالريح كما نرى تحولت لكائن أسطوري يرمي
بالناس ويقلق عيشهم، وستتحول هذه الريح لطاقة تدفع التنظيمات والجمعيات الهامة في
البلد لكي تمارس الانحناء. فبعد أن مارس "أحمد الشريف" مع الرئيس الشرفي
لجمعية "الأناقة والرشاقة والسلام" عملية الاتكاء على عكاز قصير فإن
أتباع الشريف من جمعية "الألسن الطويلة" وكذلك أعضاء جمعية
"الأناقة" قرروا المضي في تعكّزهم:
"تقدم أحمد الشريف
إلى حيث يراه الناس وبحركة استعراضية رشيقة خلع سترته وقلب بطنها ظهراً ولبسها
مقلوبة، ثم التقط ملفاً كان موضوعاً على ظهر الشاحنة وعكازاً خشبياً قصيراً لوّح
به في الفضاء بشكل استعراضي، وأحكم وضع النظارة على عينيه ومرر يده على ربطة عنقه،
فشخصت العيون وفُتحت الأفواه... تأبّط الملف بإحكام وتوكأ على العكاز القصير
فانحنت قامته بشكل عجيب وجعل يمشي منحنياً متعكزاً فوق الشاحنة والملف تحت إبطه
وربطة عنقه تتدلى"[8].
كما أنهم يتنافسون (اتباعاً لوعيهم) في الحصول
على العكاكيز، بحيث أصبحوا قريبين من الكلاب، لنتابع هذا المقطع لهؤلاء وهم يصطفون
أمام دكان صانع العكاكيز:
"قال ذلك
ودخل دكانه فلاكوا ألسنتهم في أفواههم، وابتلعوا ريقهم في حلوقهم، وتبادلوا نظرات
الحسرة والكمد، وخضعوا للأمر الواقع فاصطفوا.
كان أغلب الذين
تحصلوا على عكاكيزهم في ذلك اليوم قد طالبوا بتقصيرها إلى حدود نصف المتر وما إن
تم لهم ما أرادوا حتى انطلقوا إلى بيوتهم متوكئين على عكاكيزهم وكانت الرياح التي
تهب بقوة في ذلك الحين عاجزة نسبياً عن زحزحتهم أو التطويح بهم بعيداً أو دفعهم
للتصادم أو للارتطام بالجدران أو بالواجهات البلورية. أما البقية التي لم يحالفها الحظ
ولم تتحصل على عكاكيزها في ذلك اليوم فقد اضطرت للعودة إلى دكان صانع العكاكيز
مساء وخلال الأيام الموالية"[9].
ثم نجد موقف الحاكم الذي كان سعيداً بكل هذه
التحولات في المواقف، حيث أصبحت هذه الجماعة مسالمة ومتقلبة لحكمه وراضية بقوله.
وهنا نتابع في هذا المقطع كيف يقنع الحاكم
أتباعه بفلسفته في التعامل مع هؤلاء المتعكزين:
"إن
المتعكّزين – أيها الأخوة– بهذه الطقوس التي يجسمونها في الشوارع والطرقات يتبرءون
من ماضيهم المشاكس، وكأني بهم يقولون أثناء سيرهم وهم يتعكزون: (نحن دواب أيها
السادة وهذه ظهورنا جاهزة للركوب فتفضلوا..) سكت دقيقة ثم أعلن نهاية الاجتماع
المغلق.
صفّق أنصاره ومعاونوه
طويلاً ووقفوا احتراماً لعبقريته وعقله، وقال قائلهم متأثراً بما سمع: (اعذرنا
لجهلنا واعف عنّا وأغفر لنا زلاتنا فأنت معلمنا وسيدنا، منا الخطأ والجحود ومنك
التقويم والصفح..) وخُتم الاجتماع بالترديد الجماعي للنشيد الوطني"[10].
كما نجد ظهور جماعة جديدة مضادة لهؤلاء
المتعكزين ولانبطاحهم للحاكم خاصة بعد أن مارس الحاكم حل المجالس التعاضدية في تسع
وتسعين بالمئة من الضيعات الخصبة المحيطة بالمدينة، وكذلك بعد قيامه ببيع أغلب
المعدات الميكانيكية التابعة لها، وبدأت هذه الحركة نشاطها، وقامت بتوزيع المناشير
وغيرها المضادة للحاكم والموضحة لانحطاط جماعة العكاكيز القصيرة:
"في مثل هذه
الظروف المليئة بالأسئلة والحيرة والشك والتململ وهبوب الرياح العاصفة بشكل ما حق
على كامل البلاد لمدة يومين متتاليين، أصدرت مجموعة ثورية تسمي نفسها (حركة
السواعد القوية) منشوراً في ثلاث صفحات كتب بآلة كاتبة ووزّع في الهزيع الأخير من
الليل في أغلب أحياء المدينة وبيوتها وعلى مراكز النفوذ والقرار في المدينة، أما
السؤال الذي أفزع الحاكم وأضرم النار في عقله، هو كيف يمكن لهذا المنشور السري
المعادي له أن يصل إلى غرفة نومه؟ فقد وجده صباحاً تحت باب غرفة النوم مما جعله
يحصر شكه في أنصاره متهماً إياهم بتشجيع هذه الحركة المعارضة الفتية لتحدّ من نفوذ
المتعكزين في البلاد ومن التأثير في علاقته الشخصية والسياسية بهم.
أعاد الحاكم قراءة
المنشور ثلاث مرات ومما جاء فيه نذكر ما يلي: (رفاقنا أيها العمال والفلاحون
والمثقفون الثوريون أيها الملتزمون بقضايا شعبنا العادلة، جماهير شعبنا إننا نفتح
أعينكم اليوم على ذلة المتعكزين وحقارتهم وعمالتهم للحاكم ومتاجرتهم بمصالح الشعب.
لقد رأيتموهم كيف يسيرون في الشوارع ورؤوسهم مطأطأة وقاماتهم منحنية ومؤخراتهم
مرفوعة، إضافة إلى أنهم يلبسون قمصانهم مقلوبة وبنطلوناتهم مقلوبة ومعاطفهم
مقلوبة، وكأنهم بذلك يتبرءون من تاريخهم السابق ومن ماضيهم النضالي...
إنهم يعمقون الميوعة
في صفوف جماهير شعبنا ويؤسسون لبدع جديدة على شاكلة بدع المشعوذين والدجالين
والسحرة كما أنهم تحالفوا مع الحاكم لنسف ما أنجزتموه بسواعدكم وعقولكم ودمائكم
منذ عشرات السنين ولمصادرة مستقبلكم ومستقبل أولادكم)"[11]
وبذلك بدأ الصراع
الرمزي في هذه المدينة الرمزية التي تبدو حتى الآن أسطورية. ولكن الراوي وخلفه
الكاتب حريصان على توضيح مصداقية هذه الأحداث وواقعيتها عبر ربطها بما حدث له
سابقاً:
"أيعقل أن أسلك
دروب المهالك والمآسي منذ يفاعتي؟ وأسأل نفسي أكان هذا الذي حدث ليحدث لو لم أسرق
الزنبيل بما فيه؟!! أهذه عاقبة من يسرق الكتب؟!! أهذه عاقبة من يقرأ الكتب ويعشق
الحرية على صفحات الكتب ويهيم بالعدالة على صفحات الكتب، ويعشق الكرامة والشموخ في
وجوه الناس ومشية الناس وكلام الناس؟.
أيعقل
أن تكون يا صميدة رفيق الغرباء الذين جاؤوا إلى قريتنا فسرقت لجامهم الفضي
وزنبيلهم بما فيه من كتب وملصقات ووثائق. رحت أتذكر ما حدث وقتها وأعتصر ذاكرتي
فإذا هي صافية قوية تمدني بالتفاصيل والجزئيات الدقيقة، وإذا باللغز الذي تأبّى
على الحل لأعوام طويلة يمنحني صميدة مفاتيحه دفعة واحدة"[12].
هنا يحدثنا (الراوي/ الشخصية) عن تذكره لأولئك
الرجال الذين قدموا لقريته دعاة ضد الحاكم الذي ينتمي لهم "صميدة" رفيقه
في السجن وهم الثائرون على حاكم مدينة العكاكيز القصيرة بحيث يصبح هذا الربط بين
العجائبي في مدينة العكاكيز القصيرة والواقعي في قصة القرية وسرقة اللجام الفضي
ليلاً على الرغبة في إسقاط القصة العجائبية على الواقع ورغبة في جعل طاقة الفعل
مربوطة بالجماعة التي يدافع عنها الراوي والكاتب وبتحليل البنية السابقة نجد ما
يلي:
شكل (3) توضيحي لبنية
الحكاية في الحكاية الأسطورية السابقة
إن البنية الوحيدة للتضاد هي التي تتحقق بين
الحاكم ورفاق "صميدة" من "حركة السواعد القوية".
رابعاً: القرية بين
بنيتي التناقض والتضاد
سنجد في الفصل الثالث (سارق الانتماء) قصة
"صابر" وابن خاله "وناس" مع الرجال القادمين من مدينة
العكاكيز القصيرة.
نجد في هذا الفصل
معاناة أهل القرية بعد أن صرنا في الفضاء المفتوح بدل الفضاء المغلق الذي اتسم به
الفصل الأول والثاني (فضاء السجن). في الفضاءات المفتوحة سنجد الصراعات الداخلية
على مستوى الأسر القريبة، حيث الفقر والتخلف يرسم خارطة التعاطي السوداء بين
المجموعة، فـ"صابر" يتناقض مع ابن خاله "وناس" بينما باستمرار
هناك حالة تضاد بين أمه وبين زوجة خاله وتحضر الجدة كمركز أو ثقل يوقف هذا الصراع،
كما في الجبل في مدينة العكاكيز القصيرة.
بينما ستتأسس بنية
التضاد الواضحة عندما قرر "عمّار" أحد الثلاثة القادمين للقرية العودة
والقيام بتعليم الأطفال، فهو هنا يواجه الدولة باعتبار سلاحها الجهل والقمع، وهو
فعل فصل وفي نفس الوقت يمارس فعل الوصل مع الناس بحيث أصبح بعد فترة مقرباً جداً
من القلوب، وإذا كانت العلاقة في البداية بين "عمّار" وأهل البلد علاقة
تناقض فإنها ستتبدل فيما بعد، كذلك علاقة "صابر" (كمثال عن أهل البلد)
كانت علاقته به في البداية علاقة تناقض يشوبه الفصل الناتج عن عدم الثقة ثم ستتحول
لعلاقة وصل خاصة في نهاية الرواية.
في المقطع التالي نجد تعبيراً عن التناقض بين
الثلاثة وأهل القرية:
"(هذه
أعظم مهزلة عشتها في حياتي... حكاية فارغة كل الذي نفعله.. فماذا يعني توزيع الكتب
على الأميين والجهلة؟ وماذا يعني إهداء الورد للحمير والبغال؟ أنا متأكد أنهم
سيجعلونها بعد حين وقوداً للكوانين والمواقد، لا يوجد تواصل بيننا وبينهم، إننا
نقفز على المراحل قفز المجانين، يجب على القيادة التفكير في خطة بديلة إن رغبت في
استمرارنا ونجاحنا). رد عليه راكب الجواد الأدهم وكأنه يتعمد إثارته واستفزازه،
فقال كالمترنم: (سنحررك أيها الريف من قيودك وسيكون رعاتك وفلاحوك الفقراء جمهور
الثورة الساحق وجيشها الذي لا يغلب)"[13].
وهو يؤكد هذا الواقع، حيث يبحث الناس هناك عن
لقمة العيش بعيد عن أوهام الجماعة القادمة من المدينة. ونجد هنا "صابر"
مع "ونّاس" يسرقون لجام حصان أحد أفراد المجموعة، إن العلاقة بهذا الشكل
علاقة فصل وتناقض. سنختار "عمّار" عندما نتحدث عن المجموعة باعتباره
بتحوله وعودته قد مارس الوصل مع القرية.
بنية الحدث في
البداية
شكل (4) يوضح بنية
العلاقة بين عمار وأهل القرية في البداية
بينما سنجد التبدل
الحاصل على بنية الحكاية بعد عودة "عمار" مدرّساً بعد أن فقدوا الفصل
الوحيد الذي بنته الدولة في الفيضان الذي حدث ذلك العام
"اعترضه بعض
الرجال مسلّمين مرحّبين وقابله بعضهم الآخر بنوع من البرود، فأحس بوجود أسئلة تشي
بها نظرات العيون وتطفو على قسمات الوجوه، فآثر الإجابة عن تلك الأسئلة غير
المعلنة، فقال وهو يقترب من باب الحانوت: (والله أرجعني إليكم الماء والملح الذي
أكلته معكم وأرجعني إلى بلدتكم مصير أولادكم المحزن والمفتت للقلب وإني رأيت في
نفسي قدرة على حل هذه المشكلة البسيطة إن ساعدتموني على ذلك وقبلتم رأيي فسأتولى
تدريس أولادكم بنفسي).بدت علامات الفرح على وجوه بعضهم وسارع بعضهم الآخر إلى
مساعدة (عمّار) في إنزال الزنبيل والكيسين من فوقه"[14].
إن هذا الموقف سيتحول لِقِمّة المودة خاصةً في
اللحظات الأخيرة عندما اكتشف أولئك الناس مقاصد "عمّار" الطيبة
"في غرّة
جويلية أفاق صالح بن رمضان صباحاً فوجد كل البضائع مكدّسة في ذلك الكوخ ولا أثر
لعمّار أو جواده الأدهم، وقد كتب على السبورة بخط عريض قرأناه نحن تلاميذ السنة
الرابعة:
أحبكم كثيراً
عمّار
(و- ط-د)"[15].
ونجد اعتراف
"صابر" لمعلمه "عمّار" بسرقته للجام الجواد. هنا يبدو نجاح
الراوي وخلفه الكاتب عبر الصور الدرامية التي صاحبت "عمّار" في أسطرة
الشخصية النمطية للمناضل، وهو بالطبع ما لن يكون بذات القوة في بقية الرواية، حيث
تفوح هنا وهناك عالياً رائحة الأيديولوجيا ضمن الحكايا معبرة عن خلفيات الراوي
والكاتب وراءه التي هزمتها قوة السجن وتركْ الرفاق وتخليهم عن "صابر"
التعيس.
هنا نجد المقطع المذكور
حيث "صابر" يعترف بالسرقة
"تلاحقت
أسئلة عمّار وهو يمسك بكتفي: (ما بك؟ أمريض أم مظلوم؟ ما الذي أصابك يا عزيزي؟)
فأجبت بتلعثم والخجل يكاد يقتلني: (أنا الذي..). (أنت الذي..!!). (أنا الذي سرقت
خُرجك ولجامك يا سيدي..). اندهش عمّار وعاد بذاكرته إلى أول قدومه إلى البلدة وإلى
حادثة السرقة التي تعرضوا لها. تابعت أقول له متوسّلاً: (سامحني يا سيدي سامحني
سأرد لك هذا المساء لجامك وخُرجك بكل ما فيه). ضحك ضحكاً عالياً وجعل يضغط على
كتفي ويرجني ويقول لي هامساً: (سامحتك.. بسيطة يا عزيزي.. سامحتك خذ اللجام هدية
اعتبره هدية)"[16].
إن البنية السابقة
تتحول من خلال الوصل الحاصل بين "عمّار" والتلميذ "صابر" كما
يلي
شكل (5) يوضح طبيعة العلاقة الجديدة بين عمار وباقي أهل
القرية
بذلك نجد أسس تحول
"صابر" واضحة، وكذلك الناس.
خامساً:بنية الصراع
الحزبي زمن البكالوريا:
سنجد أنفسنا مع "صابر" في دراسته
الثانوية وهو يتعرف على عالم المدرسة ويجد أمامه الصراع الحاصل بين التيار الديني
الذي يمتلك أنصاراً أكبر وبين التيار الشيوعي.
ويبدو
"صابر" منذ البداية متوافقاً مع الشيوعيين، كما سنتابعه وهو يرسم
(الراوي) صورة خاصة نمطية للجماعات الإسلامية وذلك تجاوباً مع وعي شخصيته الرئيسية
الشيوعي:
"لما خرجنا
من القاعة أسرع نحونا تلاميذ ملتحون وتلميذات محجّبات وجعلوا يستجوبون التلاميذ
ويستفسرونهم عن تصرفات جيفارا وأقواله وعن كل حركاته وسكناته في هذه الحصة الأولى.
اقتربت مني تلميذة محجّبة لها شعيرات سود في خديها ولحيتها وجعلت تقول لي ناصحة
محذّرة: (إنه كافر بالله والرسول وبكل الأديان يفسد عقول الشبان والشابات بأفكاره
الفاسدة والسامة، ويعتبر نبينا الأمي صلى الله عليه وسلم مؤلف القرآن وواضع
الشريعة..). قلت مستغرباً: (هو يقول إن الرسول ألّف القرآن؟!!) فردّت بحماس:
(طبعاً.. طبعاً بل يقول إن الله غير موجود، وإن الكون خُلق صدفة..) فقلت باندهاش:
(هذا إنسان غريب عجيب!! كافر بالله!!؟)"[17].
بينما سنجد صورة مختلفة للشيوعي وردّه، هنا
نتابع حديث أحد هؤلاء وهو يدافع عن الأستاذ الملقّب بـ"جيفارا"
"فجأة علا
صوت شاب نحيف وهو على عنق زميل له، فاشرأبت نحوه الأعناق وسرق الانتباه من ذلك
الخطيب الأول وجعل يقول مستنكراً: (أيها الزملاء التلاميذ هذا سلوك خبيث وممارسات
سياسية جبانة يمارسها تلاميذ التيار الديني. إن الإيمان أمر شخصي والكفر أمر شخصي
والأستاذ المحترم أيمن العكرمي يحمل فكراً بديلاً ومشروعاً سياسياً واقتصادياً
واجتماعياً بديلاً ومن يختلف معه أو يعاديه فهو يعادي هذا الفكر الجديد والمشروع
الفكري الجديد المغاير، فكفّوا عن تشويهه والإساءة إلى شخصه وأدعوكم أمام كل
التلاميذ إلى مناقشة ما يحمله من أفكار ثورية تحمل السعادة للناس..)"[18].
كما سنجد تأمل صابر وهو في السجن في ماضيه وفي
تحوله شيئاً فشيئاً لفرد من أفراد تلك الجماعة هو و"صالح الشواشي" و"علي
الرومبتاك" و"سلمى" وغيرهم
"بعد أشهر من
انضمامي الرسمي إلى المجموعة قال لي صالح الشواشي وكنا منفردين: (إن الرفاق في
القيادة معجبون بحماسك وبتقدمك في ممارسة العملية الثورية، ولذلك رُشّحت لحضور
اجتماع سرّي مساء السبت ويوم الأحد وسيكون ذلك نهاية هذا الأسبوع).
تضايقت في بادئ الأمر
لكني قبلت المشاركة معتبراً ذلك من قبيل التقدير لجهودي ومثابرتي. كنت مقيماً في
المبيت التابع للمعهد، لذلك لم أر حرجاً في قضاء ليلة الأحد خارج المبيت أو خارج
المنزل"[19]
إننا كما نرى أمام
بنية الصراع بين الدولة من جهة، والحزب الشيوعي والتناقض بين الحزب الشيوعي والحزب
الإسلامي. سنتابع في ضوء كل ذلك بنية الحدث وموقف "صابر الجفناوي" من كل
ذلك.
شكل (6) يوضح طبيعة
العلاقة بين الدولة والأحزاب
مع تحول "صابر" للجامعة وتعيينه في
المعهد الأعلى لعلوم الفندقة، وإحساسه بالتناقض الذي سيصيبه لو استمر في المعهد
المذكور، نجده يتعرف على رفاق جدد ويتابع بأم عينه التناقض الحاصل بين رفاقه
الحزبيين، فبنية التناقض هي البنية الأساسية ضمن هذا الفضاء المفتوح، حيث السكن
مكان اللقاء بينما المدينة كلها فضاء للحركة وللعمل. بينما كانت بنية التضاد واضحة
في الفضاء المغلق المدرسة الثانوية الجديدة بعد أن ترك مدرسة "ماطر".
التضاد نفسه بين الإسلاميين والشيوعيين سيتحول لتناظر في بعض الأحيان مثلما يحدث
في المظاهرات.
شكل (7) يوضح طبيعة موقف
المجموعة من المظاهرة
إن المظاهرة ستكون الموضع الذي يفضح خلافات
رفاق الحزب والسوس الذي ينخر بنية العلاقة بينهم:
"خيّم بعض
الصمت لم يمزّقه سوى عبدالرزاق وهو يقول كالساخر: (أنا لا أشارك في مسيرة شعاراتها
(خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سيعود) أو (شامير يا بطل أشبعتنا بالعطل). لن أشارك
ولن أذهب معك) ثم قال الأصلع القصير: (حفاظاً على الوحدة التنظيمية نؤجل النقاش في
هذه القضايا إلى الأسبوع القادم ونستغل ما تبقى من هذا اليوم لدعوة أصدقائنا
وزملائنا وأقاربنا لإنجاح هذه المسيرة الداعمة لنضال شعبنا في فلسطين..)"[20].
إن المقطع السابق يفصح عن طبيعة العلاقة
المتناقضة بين المجموعة الواحدة (الشيوعيون)، هذه العلاقة يغلفها الشك وعدم الثقة
والتجسس على بعضهم البعض، حيث كان "صابر" يمارس باستمرار دور الجاسوس
على رفاق الحزب من طلاب الجامعات المختلفة:
"كنت أحياناً
أشعر بالاغتراب والضياع والتلاشي فأنا موزع بين كل تلك الأنشطة المكثفة فأنقم على
قصر قامتي وقبح منظري وكبر رأسي، وأعتبر أن كل ذلك جعل مني كائناً سوداوياً لا
يمكن أن يعيش إلا في الظلام والسرية والسير في الأزقة الضيقة، كائناً لا تلائمه
الأضواء ولعل الأمر الذي ملأ قلبي مرارة هو أن الأصلع القصير صارحني مؤخراً بأنه
يتوجب عليّ أن أظل كائناً سرياً بامتياز داخل الأجزاء الجامعية، أراقب حركات
الرفاق وسكناتهم وأسجل أقوالهم وأفعالهم دون أن يتفطنوا إلى ذلك أو يعلموا بوجودي،
ومن مهامي تقويم أي اعوجاج أراه وسد أي نقص أجده أمامي لنشعرهم بأن عيون التنظيم
تراهم ولا يرونها وأن أياديه تنجز ما يعجزون عن إنجازه. أيّة قذارة هذه التي أتحول
من خلالها مراقباً لرفاقي أتجسس عليهم، وأسجل حركة أنفاسهم في حين أن جاكوب هذا
الشاب الأسمر المطارد يحظى بكل تقدير وتبجيل في الداخل والخارج"[21].
إننا كما نرى أمام بنية من التناقض الكبير؛
جعلت الشخصية يشعر بالتمزق والحيرة والضياع. إن بنية التناقض السابقة تتناسب مع
الفضاء المفتوح الذي يتحرك فيه "صابر".
بنية التضاد بعد
السجن:-
بعد خروج "صابر" من السجن وتحوله
للفضاء المفتوح سيجد أمامه بنية من التناقضات تغلف كل شيء، يبدأ هذا التناقض بينه
وبين أخته وبينه وبين "زايد" صديقها وبينه وبين والده وبين رفاق العمل،
بينما عندما يستمر في العمل وتصبح مغسلة الموتى سجنه المفتوح في أوقات محددة،
سيبدأ الشعور من جديد بالتضاد مع فواعل أخرى ويبدأ فعل التناظر أيضاً. حيث يصبح
انتقامه ممكناً من الموتى، فيصبح جلادهم كما يبدأ التناقض بينه وبين "نعيمة
عرعور" مُغسِّلة النسوة الميتات في التلاشي حتى يصلا للعلاقة الجسدية.
إن "صابر" ضمن هذا المكان المغلق
يمارس فعل انتقامه من رموز الدولة وتوطيد العلاقة مع الرفيقة "نعيمة
عرعور":
"أضحت علاقتي
بنعيمة عرعور حميمية جداً، إذ ما المدى الذي يمكن أن تبلغه علاقة رجل وامرأة
يقضيان أغلب الوقت مع الموت والموتى ويتحسران على الماضي الآفل، هي تتحسر على
جمالها الذي خبا وزواجها الذي فشل وأنا أقرع سنّي على مستقبلي الذي احترق.كانت
تدخن بنهم وكأنها تريد أن تعجّل موتها وتتمنى أحياناً تجرّع السم والعلقم على أن
تعيش هذه العيشة، وكنت أجاريها في التدخين وإدمان الخمرة مع زايد كل مساء. لكننا
الآن تغيّرنا كثيراً وقد بدأ ذلك قبل أسبوعين فقط استبدلنا رماد الشتاء بأزهار
الربيع، فصرنا أكثر اهتماماً بنفسينا وأكثر إقبالاً على الحياة، ذلك أننا اكتشفنا
معاً مسكناً جديداً لآلامنا ولعبة مسلية نمارسها معاً فتجعلنا سعيدين إلى حد ما
ومختلفين لدقائق معدودة"[22].
بحيث تصبح بينة التناقض السابقة بنية تناظر
شكل (8) يوضح بنية
الحكاية في نهاية الرواية
إن "صابر" يتحول هنا لسلطة أخرى
تمارس القتل، وتتحول في آخر أحداث الرواية إلى علاقة أكثر ارتباطاً؛ فبموت رفيق
أخته يكتشف حمل "نعيمة عرعور" سفاحاً منه نتيجة للعلاقة التي نشأت
بينهما.
خلاصة
كما رأينا سابقاً يتميز ضمن هذه الرواية كل
فضاء مكاني بوضع محدد؛ فـ"صابر" في السجن يعيش التضاد بينما في القرية
في سنين الطفولة هناك بنية التناقض التي تتحول بدخول "عمّار" لبنية
تضاد، كذلك مدينة العكاكيز القصيرة وهي الفضاء المفتوح تتميز ببنية التناقض بين
المتعكزين وغير المتعكزين ولكن ظهور طائفة السواعد القوية يحقق ظهور بنية التضاد،
كما مع "صابر" في المدرسة الثانوية حيث السكن والفضاء الكلي مغلق نجدنا
أمام بنية التضاد، بينما في الجامعة والسكن المفتوح للجميع نجد أمامنا بنية
التناقض، والأمر نفسه عند خروج "صابر" من السجن فهو يرى حقيقة التناقض
القائم بينما عندما يعمل في المكان المغلق يبدأ فعل التضاد بينه وبين ماضيه
والسلطة وكل إرثه الثقافي.
[1]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة/ دائرة الثقافة والإعلام بحومة الشارقة /ط،1/2007.م
[2]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:7
[3]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:8
[4]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:64-65
[5]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:429-431
[6]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:83-84
[7]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:87-88
[8]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:91
[9]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:93
[10]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:120-121
[11]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:133-134
[12]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:154
[13]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:171
[15]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:212
[16]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:211-212
[17]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:216-217
[18]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:220
[19]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:233
[20]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:393
[21]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:335-336
[22]الأزهر بن الحبيب
الصحراوي/ وجهان لجثة واحدة /ص:465