سرديات
الأجناس و تفكيك النص
محاولة
لتجنيس كتاب (غربة النهر) لخليفة الفاخري
مقدمة عن الكاتب
تبدو
للناظر بتمعن حالة الكاتب خليفة الفاخري استثنائية على كافة المستويات، سواء من
حيث الزخم أم من حيث المدة الزمنية التي كتب فيها الرجل، ففي زمن قدره أقل من أربع
سنوات يبدأ في (1966.م) وينتهى في بداية(1970.م) انهال سيل خليفة الفاخري الإبداعي
ليشكل تجربة خاصة جدا ضمن رصيد القصة الليبية الحديثة التي لا زالت آنذاك في طول
التشكل.
ثم توقف ...
عاد
خليفة الفاخري للكتابة في أواخر الثمانينات حتى بداية التسعينات، فكتب عِدة نصوص
ضمنَّها لكتابه "بيع الريح للمراكب" .
من
حيث الزخم نجد لخليفة الفاخري ثلاثة كتب روحها العامة كلها سردية وتتميز بثراء
التجربة وعمق الرؤية والقدرة المميزة على التصوير، وستكون دراستنا هنا ضمن تطبيق [1]
لرؤية نظرية لازلنا نشتغل على تشذيبها واستكمال حدودها ووضعها ومستواها[2]،
ونجازف بتسميتها سرديات الأجناس التي يتم فيها تحليل النصوص من بعد نوعي وجنسي،
واخترنا لذلك كتاب غربة النهر[3]
لأسباب خاصة لعل أهمها حالة اندراج أكثر من نوع ضمن غالب نصوص الكتاب، وكذلك
لرغبتنا في مناقشة كلمة (مقالات) التي وجدناها على غلاف الكتاب.
عن
القصة عند خليفة الفاخري
كتب
خليفة الفاخري القصة بمفهومها السائد زمن الكتابة (أواخر الستينات من القرن
الماضي) وعلى الرغم من كون القصة في ذلك الزمن كانت تعاني في ليبيا مما تعانيه أي
بداية إلا أن اغلب ما نراه من أعمال الكاتب كان خاليا من عيوب المباشرة والسطحية
والترهل، بل كان لدى راويه القدرة المميزة على الدخول للشخصيات وطرح رؤيتها، بحيث
صار راويه أقرب ما يكون للفيلسوف وخرج بذلك بالقصة من روحها السردية الخالصة إلى
السردية المختلطة بروح التأمل الذي كان يتقن تحقيقه عبر وضع شخصيات خاصة في أوضاع
حرجة، بحيث يصبح وضع الشخصية الآني مناسبا لانطلاق تلك الروح التأملية، ولخروج ما
يراه الكاتب بشكل غير مباشر بل وقاس في بعض الأحيان، ولعل ما ساهم في تحقق ذلك تلك
القدرة الهائلة للكاتب على التصوير الذي أتقنه على مستوى الصورة الحواسية[4]
وكذلك على مستوى الصورة المكونة من كم من أشياء كثيفة- ذات بعد تناصي- كما كتب
خليفة الفاخري العديد من النصوص التي كانت مادتها يختلط فيها السرد بلغة المقال
وعلى الرغم من وجود لغة المقال تلك إلا أن الكاتب كما نرى حافظ على قدر من السرد
ضمن لغة المقال. مع مزج كل ذلك بالصورة الرائعة التي تأتي عاكسة غالبا بشكل غير
مباشر ما تهجس به ذوات الشخصيات أو الكاتب خلفهم.
كانت
شخصيات خليفة غالبا الشخصيات المهمشة والشعبية والسطحية تلك التي تعاني من الألم
والقلق وأحيانا التمرد ولكن تناوله لها لم يكن رومانسيا حالماً بل كان غالبا على
العكس من ذلك نجدنا مع استمرار الألم والقسوة، كما كان واضحا ضمن نصوص الفاخري تلك
الروح الوطنية وذلك الحب لكل أبناء الوطن فتنوعت بذلك شخصياته بين الشمال والجنوب،
كما كانت حاوية من حيث القيم للعديد من القيم الرائعة والجميلة التي كانت تعبر عن
أصالة ذاته ونقاء روحه، ولم تعان شخصيات خليفة الكاتب من الطبيعة الأحادية
(خير/شر) التي كانت تسود شخصيات البنية النصية السائدة زمن الكتابة، بل على العكس
من ذلك لعل احد أهم مصادر قوة كتابة خليفة الفخري هو تلون شخصياته بألوان متعددة
وطبائع مختلفة، فهناك الخيِّر والشرير و هناك من هم أنصاف أخيار وأنصاف أشرار، وهو
إذ يحقق تشخيص هذه الشخصيات، فإنما يختاره من الواقع المجاور والقريب. وعلى الرغم
مما يبدو من موقف قصص خليفة الفاخري من التخلف الاجتماعي ومن تمسك الناس ببعض قيم
الجهل والشرك في عقائدها، وكذلك ظهور الشخصية المعاقرة للخمر أو الزانية، إلا أن
هذا لا يعكس موقفا من الدين ذاته، فشخوصه ورواته في عموم مواقفهم كانوا يمتلكون
روحا محبة للدين تظهر بجلاء عندما يحاجج أو يتحدث أحدهم عن قيمة عميقة.
تحركت الشخصيات ضمن الزمن الآني أو الحاضر وكانت
هموم أبطاله هي الهموم اليومية لإنسان هذا الوطن، وتوزعت بين الهم الوطني والوجودي
الذاتي والاجتماعي، وكان الرجل جريئا وقويا في انتقاده لمظاهر التبعية السياسية،
وما يعانيه الليبيون من مشاكل في العمل في شركات النفط، وغيرها من السلبيات التي
يتعارض فيها صوته مع صوت النظام سواء ذلك السياسي أو الاجتماعي أو الطبقي، وتحرك
شخوص خليفة الفاخري في فضاء بنغازي غالبا مع انفتاح للحركة من الحين للأخر لخارج
ليبيا وكل المدن الليبية.
كتاب غربة النهر
كُتِبَ
في الصفحة الداخلية من الكتاب (مقالات). كما نجد تنويهاً من الكاتب يقول
فيه "هذه مجموعة من مقالات نشرت منذ زمن في صحيفة (الحقيقة)..."[5]
إننا
كما نرى أمام ما وصفه الكاتب بمجموعة من المقالات. وهو يؤكد بذلك أن ما
أمامنا ليس قصصاً. وما يبدو لي أن خليفة
الفاخري أراد أن يحمي نفسه من تصورات المحدودين زمن كتابته، ذلك أننا لا زلنا
نعاني من عدم القدرة على استيعاب حقيقة انفتاح السرد ليستوعب أجناساً أخرى كالتأمل
الذي هو من روح المقال التأملي على الرغم من أن السردية في النصوص السابقة حاضرة بقوة،
بل أن بعض النصوص تتمثل فيها القصة القصيرة بشكل كبير.
1)
المقال / يتحقق في النص الأول من نصوص كتاب غربة النهر ما يمكن (دون توجس من
أي خطأ يرتكب) وصفه بالمقال حيث نص (التجربة) يمثل نمط كتابة المقال الواضح -
البين الفارق- بينه وبين النص القصصي ويمكننا اعتباره ضمن جنس المقال من خلال
محورين، الأول المادة التي يحتويها والتي تتمثل في خلاصة تجربة تقدم بطريقة علمية
بعيدا عن السردية.
أما
المحور الثاني فهو نمط الخطاب حيث نحن هنا أمام خطاب يتضمن كلاماً مباشراً محدداً
عن مفهوم التجربة (سابق الذكر) وعبر متكلم علوي هو (الكاتب) ونبدأ منذ اللحظة
الأولى في النص نتلقى نمط خطابه العلمي بطريقة غير قابلة للجدل وليس في خطابها أي
انفتاح تأويلي.
المقال
المخلوط بالسرد (نارك ولاعة يا بلادي)
يختلط
في نص نارك ولاعة يا بلادي نمطان من الكتابة، حيث نجدنا مع الخطاب السردي للقصة
النمطية ثم نتحول لخطاب المقال الصحفي بحيث يندمج ضمن هذا النص السردي مع كتابة
المقال ويصبح السرد مجرد مدخل لتحقيق كتابة المقال الصحفي الذي يتناول من عِدة
مستويات العلاقة بين المواطن الليبي (زمن الكتابة في أواخر الستينات) وبين وسائل
الإعلام سواء على المستوى الرسمي أو المستوى الشعبي، كما نجد ضمن لغة المقال موقف
الكاتب فيما يبدو من الكثير من الأخطاء الاجتماعية كانتشار الخمور وتحولها لمصدر
للمتعة كذلك النمط الخاص من الاحتفال والموسيقى في الإذاعة وطبيعة الشخصيات
المشتغلة بذلك والعديد من القضايا الأخرى، لنتابع هنا كيف تمّ الدخول المباشر وطرح
رؤية من قضية أخلاقية واجتماعية وقبل ذلك كله دينية، حيث في البداية نحن مع السرد
ثم (في المقطع (أ) ثم ننتقل للغة المقال في (ب) التي تختلف في خطابها وموضعها وطريقة
اشتغالها
"(أ)
ونزعت من قلبي ذلك الناي، والجنيات الممتلئات بالحماقة والنزق، وشرعت أتلمس طريقي
مع بقية الرفاق بقدمين مغمضتين تماما، وأرنو إلى ا\لأصدقاء الذين زرعهم الشيان
بنفسه في المقاهي مثل حزم الصبار، منصتا إلى حديثهم الموصول عن إباحة الخمر في
طرابلس ومنعه في بنغازي !!
(ب)
فيا سادتي الكبار هل ثمة طريقة أخرى للشعور بالانطلاق غير تلك الزجاجة الحارقة
ولفافة الحشيش المبتلة بالبصاق؟
وهل
ثمة وسيلة أخرى لتوعيتنا غير برامج إذاعتنا المبجلة ؟ وهل تتوقعون أن تلد أنديتنا
الفاضلة جيلا صالحاً متكاملاً ذات يوم؟." [6]
سنجد
بنفس النمط ولكن بطريقة مختلفة بعض الشيء، نص (الحمار ذو الأجراس)[7]
حيث نتابع لغة المقال الخالصة غالبا والتي تندرج ضمنها روح السرد قليلا ، كما نجد
بطريقة يتم فيه الامتزاج بطريقة متميزة ومنذ البداية نص (أعطنا تجربة)[8]،
حيث يتم الامتزاج منذ لحظة الأولى للسرد وليس عن طريق تتالي نوعين داخل نص واحد
كما حدث في نص نارك ولاعة يا بلادي.
المقال
المخلوط بالخطاب الساخر
سنجد
ضمن كتاب غربة النهر أكثر من نص بنفس النمط المذكور سابقاً، مع بعض الاختلاف كنص
جارتي العزيزة حيث برغم أن الخطاب يبدو ذا ظاهر سردي إلا أن الكاتب شيئا فشيئا
يبرز معبرا عن رؤيته الخاصة في قضية محددة هي قضية غلاء المهور وهي قضية اجتماعية
وينطلق من مخاطبة الجارة العجوز ليحكي عن حكايات شهرزاد ويعود لنجده في مرحلة ما
يتكلم بشكل مباشر عن القضية المذكورة
"فالزواج
لدينا مجرد قمار !
قمار
يعتمد على مدى ما يتحمله المرء من إذلال وابتزاز، فيما تواجهه مثل حبل المشنقة
ديونه المتبقية على كتفيه كلما فكر شعر ببركان يغلي في أعماقه."[9]
لنتابع
هنا الخطاب الساخر الذي يتم توظيفه لتحقيق القصد من المقال والذي يبدأ من العنوان
(أسواق العار) ويستمر مغلفا كل خطاب كاتب المقال
"حسنا
..
أنت
أجمل..
أنت
أطول..
أنت
متكاملة على نحو ساحر.. وتساوين وزنك ذهبا !
لكنك
في الواقع لست سوى وعاء من الفخار..وعاء منتصب فوق مائدة البيت بلا ذوق"[10]
وبهذا
يتضح أمامنا كيف تمّ خلط لغة المقال المبني على الدقة والانتقاد المباشر مع لغة
الخطاب الساخر الذي يقترب من السرد بشكل من الأشكال.
النص
السردي مع الخطاب الساخر/ قصة أحاديث المدينة نموذجاً
سنجد
في النص التالي (أحاديث المدينة) أن الكتابة تندرج ضمن الكتابة السردية ولكن ينفتح
الكاتب هنا بتجربته ليوظف تقنيتين متميزيتين هما الصيغة التي يستخدم فيها ضمير
المخاطب في مخاطبة من الراوي للمروي له، أما الثانية فهي من خلال نمط الخطاب
الساخر الذي نجده حاضرا بقوة حيث منذ الصفحة الأولى نجدنا مع ذلك النمط من الخطاب
الساخر[11]
"
حياتك عجيبة..أنت يا سيدي، حياتك عجيبة، وقلبك واهن النبض، وعيناك تكادان أن
تنطفئا، وعودك مثل مسمار قارب عتيق.. وجيوبك بها ثقوب!
وفيما
تجلس أمام دكانك المكتظ بصناديق الخضروات والذباب، يتبدى السوق مثل سرداب محفور في
جوف مقبرة، ذلك السوق ومتاجره الهرمة..."[12]
ويستمر
الراوي بنفس النمط من الخطاب الساخر موجها أمامنا خطابه (نحن المروي لهم) للمخاطب
المجهول أو شخصيته النمطية التي اختارها ليرسم هول تعاستها.
يتحرك الراوي في رصده لعوالم تلك الشخصية
المخاطبة وفق نظام من الرصد ينطلق من جزئيات محيطة بها ليشكل عالمها ومحيطها
الاجتماعي والثقافي ويصنع لها فضاءها الحقيقي الذي تعيش فيها لحظاتها الذابلة.
فهو
يحدثه عن ابنته المطلقة وعن زوجته وعن الرفاق في السوق وأحاديثهم و التفاهات التي
يتناولونها والتباين الحاد بين قضايا حواراتهم التي محورها القضايا الكبرى كحرب
فيتنام وغيرها واقع معيشة أسرهم حيث تعيش زوجة
(المخاطب) تحث ضنك الفقر والتخلف الذي يدفعها للمزيد من طقوس استجداء قبر (الولي)
للتخلص من ربيبتها المطلقة وأولادها الأربعة.
من
زاوية الرؤية في هذا النص سنجد تفاعل الراوي مع الشخصية والانطلاق من وعيها كقناة
يتم عبرها رسم الصور.
فالصور تعبر بدقة عن ذلك الوعي. لنتابع هنا
نمطية الرؤية التي تطرح "كل ذلك، يا سيدي، يذر قلب المرء مثل قطعة قديد
متيبسة، ويدع حاجبيه معقودين ببعضهما على الدوام (...) مثل برغوثة!"[13]
بينما
نجد الصورة هنا ليست الصورة الغالبة على نصوص الفاخري باعتبار انتماء هذا الخطاب
للخطاب الساخر الذي لم يكن خطابه الدائم. التأمل ضمن النص السابق نجده يتحقق عبر
رصد الراوي الكلي لحياة الشخصية، إنه تأمل ناتج من خطاب ساخر ويطرح رؤية خاصة في
حياة الشخصية وموقف من العمر وكيفية تبديده بطريقة غير مباشرة كما هو معتاد في
حالات توظيف الخطاب الساخر.
الخطاب السردي للقصة مخلوطا بالخطاب الشعري و
تقنيات السيرة الذاتية "مدينة بلا قمر"
يبدو
نص "مدينة بلا قمر" بحكم التقنيات الخاصة المستخدمة فيه قريبا من نمط
كتابة السيرة الشخصية المختصرة، ولست أعنى بالطبع سيرة الكاتب "خليفة
الفاخري" ولكن سيرة الراوي أو الشخصية الوهمية التي عبرَّت تلك الكلمات التي
صيغت بنمط الخطاب المعروض[14]
عن وعيها ونجدنا مع السيرة كما أسلفنا من خلال عِدة مؤشرات، منها الكلام بضمير
المتكلم، ثم التغطية السريعة لأزمنة طويلة أو لعمر من خلال تقنيتي التلخيص
والتواتر[15]
الزمنيتين.
كما
نجدنا نشعر بالبعد (السيري) أو خطاب السيرة من خلال الموضوع نفسه الذي يرسمه
الراوي ونجده يتسم بالذاتية والإفصاح عن خلاصة تجربة بحيث تصبح هذه التجربة ذات
خصوصية واختلاف وتعبر عن ذات.
ونجد
من زاوية أخرى أن الراوي قد وظف الخطاب الشعري (الرومانسي) ممزوج بالسيرة سابقة
الذكر، ليتم تقديم الشخصية بشكل غير مباشر، وليمتلك الخطاب تعبيريته الخاصة
ولتمتلك الشخصية نمطيتها الخاصة أيضا.
وبالبحث
هنا عن الرؤية نجدها تعبِّر بشكل مباشر عن الشخصية الخاصة، وتأتي مختلفة بالطبع عن
الكثير من الشخصيات الأخرى التي شخصَّها "خليفة الفاخري" في نصوصه
الأخرى، حيث نجدنا مع الشخصية الرومانسية المتألمة وتأتي في نمط من الخطاب سيري ممتزج
–كما أسلفنا - بالرؤية والتعبير عن الذات.
"ماذا
أحكي ؟
فلقد كانت في قلبي سبع كلمات وحزمة أشواق دافئة،
وجناحا نورس كلي البياض مثل لجة، وزاوية صغيرة يتثاءب في عتمتها الفراغ، و آهة
تتسلل عبر صدري باتصال."[16]
لنتابع
فعل التصوير ولنعلم أن الرؤية تأتي بطريقة غير مباشرة عبر قناة المتكلم (صيغة
الخطاب المعروض) ونلاحظ أن القناة ذات لون غير معتاد مما جعل من الخطاب (مختلف
وغير عادي) وعبَّر عن شخصية خاصة تبدو خامة جاهزة لينطلق منها الراوي ومن بعد
تأملي ويرسم فجاعة ما يراه ويشعر به
كفنان، والشخصية هنا مثال نمطي للشخصية الرومانسية المتألمة والحالمة في الوقت
نفسه. سنجد هنا أن الصورة تتشكل (على مستوى حاسة البصر غالبا ولكن اللمس أيضا يكون
حاضرا ليكمل باقي كيان تلك الشخصية المراد تشخيصها، لنتابع هنا كيف تتشكل الصورة
المذكورة وكيفية فعلها ونمط اللفظ المستخدم لإنشائها وطبيعة التناول بواسطة
الكلمات التي تتناص مع عوالم خاصة.
"لقد
أحببت مدينتنا ذات يوم ، وطوفت في كل دروبها على نحو مسعور، إلى أن تمزق
حذائي..وقدماي كذلك. ولكنى لم أتوقف قط ، وشرع بصري يتمسح كقطة ودودة بوجوه
الآخرين بحثا عن عينين سوداوين مثل عشين لأنفض فيهما تعبي، وأستريح.
وامتلأت
رأسي بأغبرة الطريق..ورئتاي..
وإذ
بدأت الشمس المتوهجة تحفر جبيني، ظل قلبي قاحلا تماما كحقل نسيته الغيمات الرمادية
منذ زمن بعيد، وصدىء حلمه بالمطر"[17].
ونلحظ
من المقطع السابق الصور التي يتم تشخيصها والتي ترسم أمامنا كما أسلفنا وعي تلك
الشخصية حيث ألمها لا ينتهي وهي ودودة كقط، تبحث عن العش والهناء والسعادة، ويتحقق
كما نرى ضمن الصور السابقة ذات البعد البصري (حاسة البصر) حضور اللمس كما أسلفنا
عبر أفعال الشخصية وتمنياتها العميقة البعيدة (تمزق الحذاء فيه لمس، كذلك تمسح
البصر كقط، ملمس العش ودفئه، وأغبرة الطريق التي تلامس الرأس وتملأ الرئتين،
والشمس التي تمارس فعل الحفر (أو اللمس العنيف) للجبين. الصدأ أيضا في القلب له
إيحاء (وليس حضور لمسي).
الخطاب
السردي مع خطاب الأسطرة العكسية/ قصة (هذا كل ما هناك) نموذجا
نقصد
بالأسطرة ذلك التفخيم أو التعظيم من الراوي لإحدى الشخصيات في ذاتها أو في قيمها
الثقافية والاجتماعية أو للفضاء الروائي أو لزمن ما أو حدث ما، ونجد من أهم رموز
هذا الاشتغال عربيا (إبراهيم الكوني) الذي قام في اغلب أعماله بأسطرة قبائل
الطوارق وقيمهم ومكوناتهم الاجتماعية ورؤيتهم للأشياء.
بينما نقصد بالأسطرة العكسية الفعل العكسي لما
تحدثنا عنه سابقا فهو تسفيل وازدراء وامتهان لشخصية ما، أو قيمة ما، وهو بذلك نمط
من السخرية ولكنها حادة وشديدة ومن الممكن أن ننسبها لما يعرف بالسخرية السوداء.
سنجد منذ البداية القاص يعطينا نبذة عن الموضوع
لكي يجعل من علوية إدراكه منطقية، حيث نجد في عتبة سابقة لنص ما يلي :
"أتيح
لي أن أشاهد أحد رؤساء التحرير وهو يحاول الرد على مقال احد الكتاب وهذا تقرير عما
يحدث" [18]
إننا
كما نرى أمام عتبة أولى يضع فيها الكاتب أمامنا منذ البداية سر قدرته على الاطلاع
العلوي على تلك الشخصية، وهو إذ يحاججنا بهذا الشكل، يجعلنا غير قادرين على اتهامه
بالمباشرة والسيطرة على الشخصية، ولا نملك إلا التسليم له ومتابعة ما سيلي من سرد
"(أ)
رئيس التحرير ممتلئ غيظاً..ممتلئ حماقة وغيظاً مثل ديك مستثار، فلقد ظل طوال
أسبوعين يلتقط الكلمات الحاقدة في صدره،
تمهيدا لنحتها في صورة مقال قاتل للرد على ما كتب عنه..
(ب)
كان جالسا في مكتبه مغتماً، يأكل أعماقه كضبع مصاب، فيما كانت قطرات العرق تتحدر
من فوق قبة رأسه ..وتتقاطر من ذقنه على نحو رتيب"[19]
نلحظ
من خلال النظر في المقطع السابق كيف تم في (أ) إعطاء صورة بانورامية عن وضع رئيس التحرير
ثم نجد الراوي في (ب) يبدأ في رسم الصور التي تجعنا نتفاعل معه في النظر سلبيا
للشخصية حيث الصورة التشبيهية الناتجة عن وصفه التي تنتهي به كضبع مصاب ثم صورة
الرتابة التي تغلف انزلاق العرق فوق جبهته كلها تدفعنا كمروي لهم للتفاعل معه ضد
تلك الشخصية.
إن
وتيرة انفعال الشخصية تتزايد أمامنا، حيث فيما يمارس الراوي عبر التقنيات السردية
المميزة طرح رؤيته أمامنا نجد تصاعد حِدة الشخصية وارتفاع النسق الدرامي، وفي
الوقت نفسه نجدنا أمام حوارات منقولة سواء من الطرف الأخر الذي ينتوى رئيس التحرير
مهاجمته أو من عمق رئيس التحرير المهتاج نفسه. لنتابع هذا المقطع الذي يتم إنشاءه
بسلاسة سردية
"-
لقد قال إنني أواصل المدح ببلاهة، حسناً، سأريه كيف أستطيع أن أشتم المرء حتى
يمسخه الله قملة ..سيرى !..
كذلك
قال بصوت مرتفع، خابطاً المكتب بقبضته..ثم هدأ قليلاً بعدئذ، وأنشأ يردد..."[20]
إن
المقطع السابق كما نرى يعكس أمامنا رؤية الطرف الأخر ويزيد من رسم بلاهة الشخصية
وبذلك نجدنا أمام موقف سلبي فيه تحامل من الراوي على الشخصية، هذا الموقف كما
رأينا يتم (عبر عدة مستويات) وهو ما يحقق الخلل في العلاقة التقليدية بين الراوي و
الشخصية والتي كانت تتم عن طريق علاقة غير واضحة تتميز بالأحادية في التعاطي
والمباشرة.
سنجد
المزيد من الأخبار التي تعكس لنا نمط الشخصية كتطليقه لزوجته بسبب دخولها مرتين
عليه وهو يكتب، وكذلك منعه للجميع من الدخول، ولكن كل ذلك يعد من طرق السخرية
التقليدية، ولعل ما نراه متميزا ومتقدما عن المرحلة التي كان خليفة الفاخري ينتمي
لها هو في طريقته في التصوير التي تعكس أحيانا بشكل غير مباشر وفي رمزية موقفا من
الشخصية ساخرًا حاد السخرية، لنتابع هنا أخر النص بعد أن تمّ عن طريق غير مباشر من
خلال (رئيس التحرير ) تصوير الشخصية المعادية، لنتابع كيف يرسم الراوي لنا الشخصية
بعد أن أنهى مطولته التي كتبها في شتيمة الشخصية ويتوهم أنه يعرض (الشخصية
المضادة) للخطر بالحديث عن الاستعمار
"إن
الآلاف المؤلفة البريئة التي حصدها الاستعمار بمنجله ظلماً وطغيانا-آه- أراها الآن
تشير إليك بإصبع الاتهام ، وتقول لك بصوت واحد
ياخائن، اتفو"!!
ولاح
انه محتد إلى أقصى حد إذ أخذ يصر على أسنانه، ويضيق على عينيه حتى أصبحتا مثل
جرحين قديمين، موصلاً حاجبيه الكثيفين ببعضهما.."[21]
إن الصورة كما نرى تحقق ما لا يحققه الحديث
المباشر للشخصية وتظهر أمامنا خسته وهوانه وهو ما أراد الكاتب تحقيقه.
سنجد
الصورة الأخيرة في النص التي ترسم الشخصية كدُبٍّ ضخم مليء بالشعر وتكمل مسألة
الأسطرة العكسية بحيث تحقق أمامنا المزيد من سفالة الشخصية ونجدنا بذلك أمام خروج
الراوي من جلباب الراوي التقليدي (الذي علاقته بالشخصية أحادية) للانزياح نحو الموقف
المضمر والخاص من الشخصيات، لنتابع كيف تمّ التصوير ولنركز على رمزية الضوء
والظلام في تلك الصور التالية
"وولجت
أشعة الشمس من النافذة، وانعكس ضوؤها فوق مؤخرة رأسه..ثم استشعر حرارة تتوهج على
عنقه فخلع قمصيه .. وبدا كتفاه الضخمان غارقين في الشعر مثل كتفي دب هائل..
واكتظ
الجدار المواجه بالظلال .. وتطلع أمامه في بله ، مستغرقا في حلم دافئ طويل ..وإذ
أحرقت الشمس ظهره بعدئد، نهض بتذمر وأسدل ستارة النافذة حتى اختنق الضوء، ثم شرع
يتثاءب بعمق إلى أن دمعت عيناه..وغاب في نوم غامر !!"[22]
إن الضوء كما رأينا يفضح تلك الذات بحيث يصبح
بشعره وضخامة كتفيه مثل دب هائل ثم بعد أن أسدل الستارة اختنق الضوء وضاع في نوم
عميق غامر وبدا بذلك في غاية البلاهة.
حيث
يصبح الضوء فاضحا لتلك الذات المهمشة مِن قبل الراوي، ويصح الظلام هو الموضع
المفضل لاستكمال الراوي طقوس إبراز تفاهتها و فضح خستها. هنا نحن أمام ما أسميناه
بالأسطرة العكسية بشكل غير مباشر عبر كل أنماط الصيغة السردية المستخدمة، حيث
نجدنا أمام توظيف المعروض الذاتي (حوار الشخصية الداخلي) والمنقول عن الشخصية
الأخرى والخطاب المسرود مع الصورة التي تأتي لتدعم قوة وبشكل غير مباشر هذا
الفعل
القصة
المغموسة بقليل من روح السيرة و المقال
تمثل
قصة بنغازي العجوز نمطا من أنماط السرد الذي يداعبه قليلا شيئا من السيرة، حيث يحيلنا
ضمير المخاطبة وزمن الحكاية إلى مرحلة هامة من عمر شخصية ما (ليس من الضروري أن
نركز على من يكون ) هذه الشخصية التي يتم توجيه الخطاب لها تكون بؤرة لفعل الراوي
الذي يستهدف ويعلن عن حالة الموت الذي يعم المدينة عبر المقابر وعبر غياب كل لحن
جميل وما يزيد من الشعور بحضور روح المقال هنا هو ذلك العنوان الذي عنون به النص
وهو (بنغازي العجوز) الذي يحيلنا كما هو معروف في السرديات لرؤية الكاتب[23]،
وبهذا يتعاضد مستوى الحكاية[24]
عبر الفضاء المكاني الذي تم اختياره والزمن والحدث مع المستوى النصي من خلال
العتبة لتحقيق رؤية خاصة وتوجيه ما يشبه البكاء بحثا عن الفضاء النقي ويتم لتحقيق
ذلك توظيف جزء من سيرة شخصية ضمن خطاب تميز بالصور لمعبرة عن حالة الشخصية
وبالتأطير والترهين[25].
لنتابع هنا مدخل النص
"(أ)
تعال...
قبل
أن ينطفئ نبض قلبك، تعال إلي ..
فأنا
أعرف أن عينيك قد ارتوتا تماما .. وان مدينتنا بها عشر مقابر!!
مدينتنا
القميئة المتسخة بها عشر مقابر.. ومستنقعات معشبة .. وألف زقاق، فماذا يبكيك
(ب)
لقد تمنيت طول الوقت أن تجد ثغرة في جدار زنزانتك الصلدة.."[26]
إننا
كما نرى في (أ) أمام السرد الذي يختلط فيه البعد الذاتي للسرد، وصورة تعبر عن رؤية
تنتمي لخطاب القصة، ومن زاوية أخرى يمثل حضور المدينة كمصدر قلق اشتغال قريب من
لغة المقال، باعتبار أن خطاب المقال يركز من حيث الموضوع على قيمة ما ويرصدها عبر
الدوران عليها من عدة جوانب، بينما سنجد البعد (السيري) في المقطع (ب) حيث نجد عبر
التواتر الزمني صورة مرحلة من عمر الشخصية.
ويمر
أمامنا هذا التبادل المستمر بين المكونات الثلاثة وإن كان المسيطر هو السرد فيبقى
بذلك لهذا النص على الرغم من انحرافه النوعي الخفيف التماهي مع جنس القصة القصيرة.
السرد النمطي الممزوج بالعجائبي (مع روح المقال)
-على مستوى الحكاية- في نص الموت الكريه
نقصد
بالعجائبي كل ما لا يمكن تحققه في الواقع من الأحداث، حيث سنجد التداخل في قصة
الموت الكريه بين السرد والخطاب العجائبي ويحدث هذا على مستوى الحكاية، بينما يمثل
توجيه الخطاب وروح السرد شيئا من جنس المقال باعتبار أنه هناك قيمة ما مندسة ضمن
ذلك الخطاب. سنجد خطاب الشخصية والتعبير عن الهامشية والبساطة مدخلا مميزا لهذه
القصة.
"أنا
رجل بسيط مثل بساطة الأوراق في الشجر .. وقد كنت ماسح أحذية –أعني قبل أن أموت-
ولم تعد ثمة مائدة في مقهى إلا وأقعيت عندها مثل جرو ودود لألمع لكم أحذيتكم
المغبرة أبدا .." [27]
إننا
بهذا الشكل ندخل منذ البداية للحكاية العجائبية حيث الراوي هنا رجل ميت. وبمضي عبر
هذه الحكاية باعتباره ميتا في سرد نتاج خبراته وتجاربه التعيسة مع الناس أو لمجتمع
في الفضاء المكاني المحيط به (بنغازي).
سنجد
من نفس الزاوية أحلام الرجل قبل الموت، كما نجد صورة الحساب الذي تعرض له عند
دخوله للقبر. وتبدو الشمس والسماء الصافية
النقية باعتبارها هي العنصر الأكثر ابتعادا عن ذلك الغارق في الظلمة، يبدو الهاجس
الأكبر لهذا الشخصية ضمن وضعه العجائبي هذا.
ونجد
من الخطاب نفس الصور التي تتمتع بروح من السخرية الخاصة والخفية جدا من المجتمع
ومن الشخصية أو من الوضع الواقع عليها لنتابع هنا هذه الصورة
"كان
القبر مغلقا تماما مثل عضة كلب ! وكان ثمة حصاة ناتئة تحت كتفي ظلت تقلق ضجعتى على
نحو موصول دون ان أستطيع نزعها .."[28]
سنجد
بدايات روح المقال في الظهور ضمن السرد عندما تضح لنا ملامح القضية التي يدور
حولها السرد وهي قضية القمامة الموجدة في مقبرة (سيدي حسين) ببنغازي والتي يتواجد
بها ذلك الراوي مقيما في رقدته الأبدية.
"
(أ) لقد ساهمت في نظافة مدينتكم على نحو ما ولم يتبادر على ذهني أبدا أنكم
ستسعملون قبري مجرد صندوق للقمامة !!
(ب)
وفيما يرتفع عواء الكلاب الضالة عبر القبور والأعشاب الهرمة (...) يقبل ذلك الرجل
السكير الذي يسكن في البيت المواجه ويقذف بزجاجته الفارغة وسط المقبرة .. ثم يتطلع
إلينا من فوق الجدار المهترئ ويبصق فوقنا بحقد مفرط "[29]
إننا
كما نرى أمام الراوي في (أ) وهو يدور حول نقطة محددة، هي تلويث مقبرة ما، وهو ما
ينتمي بلا شك لخطاب المقال، ولكن هذا الموضوع لا يستمر فنجدنا من جديد في مقطع (ب) ضمن الصور الخاصة التي تتميز بروح
سخرية خفية مع الوضع العجائبي الذي أنتجه الحدث وهو موت الراوي ثم محادثته لنا
مطورا تلك الأزمة.
خطاب سرد الأعماق المشوهة والخطاب التأملي
ضمن إطار المقال :
يتميز
نص غربة النهر النص الأخير (من كتاب غربة النهر) بالشخصية المتأزمة التي تمارس
سردها في قالب مقال ولكن روح السرد والصور المعبرة عن حالة الألم تطغى لنجدنا في
السرد الذي من الممكن أن نغامر بوصفه سرد الأعماق المشوهة، لنتابع هنا الراوي الذي
بدأ يتحدث بروح المقال كيف رسم صورة تعبر عن ذات خاصة من خلال مصفاة التشويه التي
تسم هذا الخطاب النوعي الخاص حيث نحن لسنا مع الرؤية العادية أو الساخرة و المضخمة
المؤسطرة لقيمة ما ولسنا كذلك مع العجائبي أو الغرائبي نحن هنا مع ذات تتألم
والخطاب بهذا النمط موجود في الرواية العالمية بينما هنا نحن مع القدرة الهائلة
على التصوير والتي تميز خليفة الفاخري، لنتابع هذه الصورة
"ماذا
تجدي الكلمات ؟
هنا،
في بلادنا المتزنة جدا حد الموت. ماذا تجدي الكلمات النابضة المد التي بحّ صوتها
فوق الجباه الصلدة في المقاهي، وعبر الأرصفة الميتة، والساحات المتثائبة، والمقابر
المليئة بحزم الصبار، والقمامة ..والكلاب الضالة !"[30]
إن
البداية هنا على الرغم من الصور شديدة التعبير عن الألم، إلا أننا ندور حول قضية
أو هم مع روح التساؤل وهو ما يضعنا ضمن إطار المقال وكتابته، ولكن مع مضي رحلة
السرد وتهاطل الصور الشديدة نشعر تلقائيا بالتحول من كتابة المقال لحالة ذات تبوح
وتعبر في قالب سردي عما تراه ضمن نفس إطار المقال. حيث نجدنا مع تشكل الصور مع
حوار الذات لشخصية ما غير محددة يحدثها بعلوية خطابية ويخرج من المباشرة التي من
الممكن الوقوع فيها هنا من خلال انتقاء صورة محتوية على كم كبير من أشياء تؤثث
بسرعة الإطار المناسب لتلك الحالة وتنطلق تلك الحوارية معه الذي يبعد أن يكون
العمق الداخلي للراوي مع التذكير بحضور كم كبير من التقنيات السردية هنا منها
التواتر ضمن مستوى الجملة وكذلك ترهين أو ربط حدث بأخر وغيرها من التقنيات التي تساهم في رفع الحالة
الدرامية للخطاب السردي
"فيا
سيدي
أنت
الآن تدرك هذا على نحو اليقين مثلما أدركت ذات يوم ...[31]
ثم
نتابع هنا تحول الصورة لتصبح تعبيرا عن قلق (عمق ذلك الراوي) الناسج للخطاب
"...وقبل
أن يطفئ اليأس آخر أنفاسك، انطلقت في رحلات موبوءة عبر جثث السكارى والحانات
الوضيعة المختنقة بروائح التبغ الرخيص، والشراب الحارق، والنكات السمجة،والأغاني
الحادة الزعيق، والشجار، وباعة السجق، والجوارب والسميط، و أوراق "اليانصيب"، والأمطار،
والشتاء البارد الأسود الأنف، والعجائز الملطخات بالأصباغ، المستندات على عواميد
الضوء الواهن على أكتاف الطرق في أخر الليل..."[32]
وتستمر
ذات الصور المعبرة عن القلق وعن الألم وعن نزف تلك الذات لتتماهى مع ذلك النمط من
السرد والذي ينتج خطابا مشوها قلقا لغرض توصيل رؤية ما أو تأمل خاص أو تعبير عن
وضع معين وقد اجتمعت أغلب تلك الضرورات في النص المذكور فكان القاص عبر روح راويه
النازفة ( وحيلة التماهي ظاهريا مع الشخصية التي يصورها ويكلمها) قام برسم تحولاته
وتحولات ما يراه مع المحافظة على نفس الآلم المرصود، ولكن بدل أن يكون ذاتيا محضا
يخص الشخصية، صار إحساسا بألم الجماعة حيث قام بالبدء والانطلاق في تصوير أوضاع
الشعب وألم المجتمع ومشاكل تلك اللحظات التي كان يعيشها زمن الكتابة
"...كان
في مقدورك أن ترى الأطفال يقطعون الأميال سيراً على الأقدام تحت المطر"[33]
ثم نجد بعد مسافة وعندما وصل للجنوب التعبير عن
الصورة هناك بواسطة تلك الذات المتألمة المأزومة .
"يا
إلهي !
ويستمر
تأمل الراوي في شخصية الكاتب والتحولات الحاصلة عليها من جهة وفي المجتمع عبر وعي
ذلك الكاتب من جهة أخرى، وبينما يتحقق التأمل في الشخصية من خلال مستوى الحكاية
حيث نتابع طبيعة التحولات التي تعيشها ذاته من زاوية لأخرى، كما نجد التحول من
فضاء إلى آخر حيث انتقلنا من الهم الشخصي الذي يتم تصويره من خلال الراوي المتماهي
مع الذات المتألمة الذي كان يطرح آلمها فحقق ما قصدنا به خطاب الذات المشوهة،
فإننا من زاوية أخرى نجد استمرار ذات التألم عبر تصوير عوالم وأوضاع مجتمع القصة ،
فكان هذا التضافر بين تأمل على مستوى الحكاية وخطاب الأعماق المشوهة مع إطار
المقال ظاهريا، مع الصور غاية في التعبير والإبراز التي تعتمد استراتيجية رصد أشياء
ذات بعد (تناصي) خاص، وتمتلك حمولة وقيمة أكبر من ظاهرها اللفظي لتحقق ثراء تأمليا
وروعة في التصوير وقيم في مفهوم الكتابة قدمت طريقة غير مباشرة على الرغم من
الإطار العام هو إطار المقال.
أخيرا
:
ليس
هذا هو كل ما يمكن أن يقال عن خليفة الفاخري، ففي جانب فن التصوير نجد لدى الفاخري
القدرة على رسم صور خاصة متميزة أحيانا بالرصد إلي عبر الحواس وأحيانا أخرى بالرصد
الانتقائي لأشياء ذات بعد دلالي، كما نجد فن التأطير والترهين للسرد وهو من
التقنيات الرئيسية التي تعتمد عليها الخطابات الروائية الحديثة، كما نجد التلاعب
بالأنواع والأجناس وفن الانتقال من نوع لأخر أو من جنس لأخر وهو ما جعل
نصوصه-القديمة- على الرغم من المسافة الزمنية التي بيننا وبينها – منذ ستينات
القرن الماضي- لا زالت منبعا حقيقيا لكل من يريد تعلم فن الكتابة القصصية، وفن
العبور من الراوي لذات شخصياته وإبراز ما يندس في أعماقها دون الوقوع في المباشرة
أو السطحية ولكن بفن ودربة لا يمتلكها الكثيرون من الذين تمرسوا طويلا في الكتابة
السردية من العرب.
كان
كل هذا الفن في التصوير والقدرة على طرح رؤى وقيم الشخصيات العميقة وكافة
الاشتغالات على المستوى النصي (من عناوين خاصة مميزة وعتبات) أداة الكاتب خليفة
الفاخري لطرح رؤيته العميقة في كافة ما يحيط به، فنجده ينتقل في من تأمل عميق
لرؤية في السياسة أو الدين أو الحياة الاجتماعية في ليبيا ذلك الزمن، ونلمس عبر
ذلك كله حِدة تألم الفنان الكامن في ذاته مما يراه من اعوجاج وتخلف وجهل وطبائع
إنسانية خاصة ويعبر كل ذلك عن تلك الرغبة الصادقة الدفينة (لديه) في جعل ليبيا أعظم
الأوطان.
(غفر ألله له).
[2] ننطلق هنا من سرديات
الأجناس التي نمارس عبرها فعل قراءة النص من خلال
مكوناته الجنسية والنوعية، ونقصد
بالمستوى، مستويات العمل السردي الثلاثة، النص، الخطاب، الحكاية. وسريات الأجناس
عبر عن توسيع لأشتغال السرديات ولكن من ذات القاعدة السردية والتي تتعاطى مع النص
كما أسلفنا عبر عدة مستويات.
[3] خليفة
الفاخري/غربة النهر/الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان/ط:1/1994.م
[4] نقصد بالصورة الحواسية تلك
التي تشتغل على حاسة ما من الحواس الخمس للمزيد، راجع
عبد الحكيم المالكي/آفاق جديدة
في الرواية العربية/ منشورات دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة/ط،1/2006.م /
الفصل السادس.
[5]
خليفة الفاخري/غربة النهر/الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع
والإعلان/ط:1/1994.م
[6] خليفة
الفاخري/غربة النهر/ص، 43،44
[11]
الخطاب ساخر بحسب رؤيتنا ضمن ما نعرفِّه بسرديات الأجناس هو نمط
من الخطاب المتعالي وسابق عن الكتابة السردية وهو حاضر في أجناس أخرى كثيرة وهو
كخطاب نوعي يخرق النمطية التقليدية للخطاب الروائي النمطي.
[12]
خليفة الفاخري/غربة النهر/ص،21
[13]
خليفة الفاخري/غربة النهر/ص،21
[14]
يقصد في السرديات بصيغة الخطاب المعروض تلك الصيغة التي يتحقق
فيها الخطاب بواسطة الحوار، الذي قد يكون ذاتيا (مونولوج) فتسمى الصيغة بالمعروض
الذاتي أو خارجيا (حوار) وتسمى بالمعروض الذاتي المباشر وغير المباشر.
[15]
التلخيص هو نمط الخطاب الذي يكون فيه زمن الخطاب أصغر بكثير من
زمن الحكاية، حيث يتم فيه تلخيص حكاية طويلة الزمن في عدة سطور، بينما يقصد
بالتواتر هو سرد الحدث بصيغة دالة على تكرار حدوثه وهي تقنية يتم بواسطتها مع
التلخيص رسم سريع لمرحلة طويلة من عمر شخصية أو مجتمع سردي.
[16]
خليفة الفاخري/غربة النهر/ص،31
[23] يدخل العنوان وكافة
العتبات الخارجية ضمن مستوى النص والذي يعتبر تعبيرا من الكاتب عن رؤية خاصة توجه أفق الدلالة.
[24] مستوى الحكاية هو أحد
مستويات التعاطي مع النص، وفيه ننظر للمادة السردية مكونة من
(حدث،شخصية،زمان،مكان) في صورتها الخطية قبل أن يتم تخطيبها.
[25] التأطير و فن إحضار العلامات الزمانية و المكانية -ظروف زمان ومكان
ومحددات جهة وغيرها- مع الحدث والشخصية
عند تشكيل الجملة السردية وهو من التقنيات المستخدمة بقوة في الرواية والقصة
الحديثة، بينما الترهين هو ترابط أحد مكونات
(مستوى الحكاية (حدث، شخصية، زمان، مكان) مع ذات المكون أو مع
مكون آخر بحيث يشكل هذا الفعل شدا للمروي له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق