الاثنين، يوليو 03، 2017

دراسة لقصة العجين للقاص احمد يوسف عقيلة

  
القصة القصيرة بين جمالية العنونة وسينمائية القص والحكاية
كتابة احمد يوسف عقيلة نموذجا

نص العجين لأحمد يوسف عقيلة[1]:
تتميز كتابة احمد يوسف عقيلة بالنظام النصي المميز، وهو من كتّاب القصة القلائل في بلادنا الذين يعون دور القسيم النصي أو النظام في خلق بنية إيقاعية خفية داخل النص كما يتميز بالقدرة على التصوير الدقيق لمقاطع منتخبة يعكس من خلالها راويه وعي شخصيات خاصة جدا.
  هنا عبر نص العجين  يقدم لنا احمد عقيلة كقراء رؤية فلسفية عميقة يتم عبرها رؤية العالم وهو يتشكل، ضمن نسق متوازي من الأفعال، تقوم بها مجموعة من الكائنات، كما يقدم لنا هامشية الحياة دون مباشرة ودون تنظير علني وإنما بواسطة عدسة الرؤية التي ترصد تساوي الجعل وروثه مع الإنسان وعجينه مع العنكبوت وشبكته.
بنية الحكاية في النص :
منذ البداية يشعر المتلقي انه أمام نص منظم من حيث بنية الحدث فيه ومن حيث الفواعل ونمط ظهورها وطبيعة إنبناء الفضاء المكاني، ولهذا سيكون هذا الجانب هو المدخل الأول لقراءتنا لهذا النص، أي إننا سننطلق لمتابعة هذا النص في البداية من خلال مستوى مكونات الحكاية: (أحداث، فواعل، زمان، مكان) أما في المستوى الثاني وبعد تفتيت بنية هذا النص عبر مكوناته الحكائية فإننا سنتابع تعاضد تفاعل تلك المكونات لتحقيق دعوى نصية خاصة وعبر كل ذلك سننتبه من الحين للأخر للتقنيات الخطابية خاصة في جانب العلاقة بين الراوي والمادة التي يرويها و الذي سيعيننا بلا شك على تفهم حقيقة الدعوى النصية المندسة داخل هذا النسيج الجميل. 
مكونات الحكاية بحسب ظهورها في النص:(احداث وفواعل):
1)  الحدث:الضباب ينقشع والغابة تظهر والكلب ينهض ويتغربل نافضاً عنه الندى، وتستيقظ عزيزة تحرك الرماد وتشعل النار . بينما الفواعل كما يلي : الضباب الراكد، الغابة، الديك، الكلب، عزيزة، الجمر، لسان اللهب، دخان أزرق خفيف .
2)  الحدث: الجعل يدور حول روث البقرة ويبدأ في صنع كرة الروث . بينما الفواعل كما يلي: الجعل، كرة الروث، الزبل الطري.
3)   الحدث: في الزاوية العليا من البراكة العنكبوت يشرع في نسج خيوطه مبتدئاً في السقف. بينما الفواعل كما يلي: الزاوية القصية من البراكة، العنكبوت وخيوطه والسقف.
4)     الحدث: عزيزة تضع براد الشاي على النار وتحضر العدة اللازمة لعمل العجين. بينما الفواعل كما يلي: عزيزة و براد الشاي وعدة العجين( رقعة الدقيق، الغربال القصعة الخميرة الملح  والسَّخَّان، صوت غليان الشاي).
5)  الحدث: معالم كرة الروث تبدأ في الظهور والجعل مستمر في تبليلها ،يقتطع من جوف الزبل الطري ..يعجن.. حريصاً على استدارة أطرافها، بينما الفواعل كما يلي: الجعل، كرة الروث، الزبل الطري.
6)  الحدث: العنكبوت في الركن الأعلى ينسج في صمت ،يرسي الدعائم الأساسية، يشكل النسيج من الداخل، حريصاً على منحه الارتخاء المناسب . بينما الفواعل كما يلي: العنكبوت، الدعائم الأساسية للنسيج.
7)   الحدث: عزيزة تكور عجينتها تطبطب عليها وتغطيها بدثار سميك.    ينتهي الجعل من صنع عجينته ..يحس بالرضا..يرفع أرجله الخلفية ويدحرج كرته.   العنكبوت يتربع وسط الشبكة ويختبر متانة النسيج . بينما الفواعل كما يلي: عزيزة والعجينة والدثار السميك والجعل وكرته والعنكبوت وشبكته.
8)  الحدث: عزيزة ترقب طفلها الذي يبول مبللاً فخديه وهو يحاول الجلوس وسط الغربال، وعزيزة تقهقه من الطفل وهو يتعثر ويسقط في شبكة الغربال، تحتضنه وهي تقبل مكان الألم.
 القطيطة تعترض طريق الجعل والجعل يمضي في دحرجته غير مكترث بدهشة القط.
 في تلك اللحظة تقع حشرة مجنحة في شبكة العنكبوت . بينما الفواعل كما يلي: طفل عزيزة والبول والغربال والجعل وكرته و القطيطة، و الحشرة المجنحة والشبكة والعنكبوت.
نتائج من تحليل الفواعل والأحداث في (ا، ب) : من المجموعتين أ ، ب ، نلحظ أننا أمام تقسيم نصي وانتظام لظهور ثلاثة من الفواعل المركزيين على طول النص :
1)  عزيزة والتي تمثل المستوى الأول من مستويات الفواعل الحاضرة في النص ، إن عزيزة تحضر هي و العالم المحيط بها، في المقطع(1) حيث  الفضاء الطبيعي (الغابة) والديك والكلب وتبدأ ممارساتها اليومية من خلال إشعالها للنار، ثم نعود لعزيزة بعد مقطعين في المقطع (4) حيث تبدأ في عمل عجينها الخاص بها ونجد أمامنا كل مكونات عمل العجين الإنسي، ثم يستعرض الراوي أمامنا وبدقة متناهية أفعال عزيزة في العجن. 
2)   الجعل والذي يظهر لنا في المقطع الثاني ويبدأ هو الأرض في ممارسة أعماله اليومية المتمثلة في تجهيز عجينته- هو أيضا ً- من الروث، ثم يظهر في المقطع الخامس، وهو يشدب ويدير جرم كرته المصنوعة من روث البقر، أننا كما نرى هنا لم نتحدث حتى الآن عن الراوي المتفاعل وبقوة مع الحدث والذي يحكي لنا الأشياء بدقة وموضوعية متفاعلاً مع هِمَة تلك الكائنات والتي يرصد لنا فعلها بموضوعية يدعيها أمامنا- لتحقيق إبراز عوالم تلك الفواعل المنسحقة الجعل والعنكبوت- والمتعالية -الإنسان- متجاورة كتحقيق لفلسفة تمثل الدعوى النصية المركزية لهذا النص .
3)  المجموعة الثالثة والتي تمثل حضور الفاعل المركزي الثالث في النص منفرداً هذا الفاعل المركزي هو العنكبوت، حيث حضر في المقطع الثالث والمقطع السادس، في المقطع الثالث كان العنكبوت في سقف البراكة يقوم باستكشاف المكان ثم يشرع في عمل شبكته، ونلاحظ وجود تركيز من عدسة السرد على مواضع تواجد تلك الفواعل، فهنا مع العنكبوت نجد تحديداً لتموضع حركته فهو في الزاوي العليا من السقف عند التقاء الجدارين مع السقف، في رقم (6) نجد العنكبوت أمامنا ينسج في صمت دون أن يلحظه أحد .
4)  المجموعة الرابعة من المقاطع هي في المقطعين (7) ، (8) حضرت فيهما الفواعل الثلاثة السابقة عبر توزيع الرؤية من الراوي من فاعل لأخر وبنظام جميل.
ففي رقم (7) نجد عزيزة تعد عجينتها وتنتهي منها، ونجد الجعل ينتهي من صنع عجينته ويبدأ في دحرجة وليمته، ونجد العنكبوت يتربع في وسط الشبكة ويمد أذرعه ليختبر متانة نسيجها.
أما في (8) فنجد عزيزة مع ولدها الذي يتبول مخرجاً فضلات لا تختلف كثيراً عن تلك التي كان يدحرجها الجعل ويسقط في وسط الغربال على شبكة للدقيق لا تبعد من حيث حقيقتها من شبكة العنكبوت، عزيزة الضاحكة تزيح أبنها، والجعل تعترضه القطيطة وهو يواصل مسيره غير مكترث بها رغم استغرابها، ويستقبل العنكبوت في شبكته أول طرائده .

نتائج التقسيم السابق :
 أننا كما نرى أمام نظام من التقسيم للحدث تقوم به مجموعة من الفوعل تشكل في مجملها نسيجاً أشبه بالعنكبوتي وفي وسط هذا النظام الكتابي المميز نجد أمامنا ترميزات مثل التي شاهدناها في المقطع الثامن والتي تتمثل في تشابه فعل أبن عزيزة بباقي بفعل الفاعلين الآخرين ( الجعل والعنكبوت ) وهو ما يحيلنا من خلال هذا النظام للدعوى المركزية للنص والتي تدور في النص الإنساني .
ج )المكان في القصة ومن خلال ممارسة الراوي لروايته :
     الراوي وهو يصف المكان غارق في التفاعل مع تلك الكائنات فهو يمارس وصفها بموضوعية كما انه يرسم كلاً من تلك الفواعل المركزية الأربعة عبر مجموعة من الفواعل الإضافية كما سبق أن أسلفنا في نظام ظهور الفواعل وكذلك عبر رسم مكونات الفضاء المكاني التي تتحرك فيه الشخصية حيث تظهر عزيزة ويسبقها الفضاء المكاني الذي تعيش فيه مكوناً من الغابة، والضباب المنقشع ثم تظهر الفواعل المؤثتة لذلك لفضاء والمكونة من الكلب والديك وعندما تتحرك عزيزة تتجه لعالمها المراد النار والدفء، إن صورة النار التي تتحرك وتصاعد دخان ازرق في أكوام اللهب، إن كل ذلك تأثيت لعالم عزيزة الذي يتشكل أمامنا .
كما نجد الجعل وسط العالم الغريب الذي يتحرك فيه حول روث البقرة ، انه يمارس بحثه الذائب عن مراداته هناك،  كما نجد العنكبوت في ملتقى الجدارين بسقف "البراكة" وهو يتحرك يؤسس عالمه في صمته هناك وفي ظل قيام الراوي برسم فضائه المكاني بالكامل يمارس هو أفعاله المعتادة.
د) الزمن المستخدم لهذه الحكاية من خلال رواية الراوي :
     الجانب الزمني للحكاية يتحدد من خلال طرح الصباح كزمن محدد للأفعال وباستثناء ذلك لا يوجد زمن محدد عدا الصباح كتحديد للحدث، إننا بذلك أمام صباح عادي غير محدد، وهو ما يحقق ما نشعر به أننا أمام عمل متكرر، عمل مستمر ويومي، فعزيزة كل يوم تقوم بعجن عجينها وإيقاد نارها ووضع الشاي فوقه، كذلك الجعل نفسه يمارس كل يوم أعماله المعتادة والعنكبوت نفسه يمارس كل يوم صيده .
ثانياً: طبيعة الراوي وعلاقته بالفواعل وعالمها الذي يصيغه لها والدعوى النصية المنتجة :
1)  نرى من خلال النص أن الراوي متفاعلاً تفاعلاً كاملاً مع تلك الكائنات بالتساوي، إنه يطرح أمامنا بموضوعية غريبة- كل ما تقوم به عزيزة متوازياً مع كل ما يقوم به الجعل متوازياً مع كل نشاطات العنكبوت، إنه يطرح أمامنا كذلك انهماك تلك الفواعل من خلال توظيفه للغة مهنية مع المجموعة كلها:
فعزيزة تحرك الرماد وتخرج جذوة مدفونة من نار البارحة وتضع فوقها عيدان رقيقة، ثم تقوم في (4) بغربلة الدقيق وهي تهتز مع الغربال وتستمتع بصوت غليان الشاي.
والجعل يدور فوق الروث يتشممه ويصعد فوقه ويتحسسه يعثر فيه على أكثر الأماكن طراوة ويثقبه ويبدأ في صنع كرته، بينما الجعل مثل عزيزة يستمتع وهو يبلل كرة الروث بلعابه في(5) ويشتغل حريصاً على استدارة أطرافها(كرته).
بينما العنكبوت يدور في الزاوية القصية مستكشفاً المكان ثم يشرع في نسج خيوطه ثم في (6)
ينسج في صمت، يرسي الدعائم الأساسية، يشكل النسيج الداخلي .
إن كل اللغة السابقة تعكساً تفعلً كاملاً ومتوزناً من الراوي مع فواعله ومع يعكس طبيعة الدعوى النصية الرئيسية لتي نحن بصددها .
 الدعوى النصية :
أو ما نراه نتاجاً لهذا النظام النصي المميز وهذا التلاحم الجميل بين الفواعل و الراوي عبر لغة مختارة وواعية، إن كل ذلك يعكس رؤى الكاتب لهذه الكائنات متساوية، إن خلفها رؤية تساوي بين كل الكائنات، لغة فيها انتباه للمهمش والعادي والبسيط واللامنظور لغة وحكاية فيها اهتمام بتلك الكائنات الواهية والمتناهية في الصغر، كما أن الحياة تبدو كنسيج العنكبوت وكعجين عزيزة وككرة الجعل ،إنها مجموعة من تلك الكائنات المتضافرة، نقلها لنا الراوي عبر دهشة فطرية غريبة ساهم في ذلك كله التقسيم النصي و انتظام حضور الفواعل داخل النص وكذلك طبيعة للغة المستخدمة، إننا مع عالم عزيزة والجعل و العنكبوت أمام شبكة حياتية معقدة تنسجه يد مبدعة عبر تعاقد الكتابة الجميل بين القارئ والكاتب. ولعل براعة أحمد عقيلة تكمن في قدرته على ألتقاط مواضع مختلفة يعبر من خلال تأزم أوضاع فواعلها عن رؤى ذات بعد إنساني أو وجودي كلي.
 كما في نص صقيع في مجموعة (عناكب الزاوية العليا)[2] حيث نجدنا مع الجليد والصمت وحركة الذئاب في الجبل ونزعة الراوي للتماهي معها هناك في الجبل حيث الوحدة والجلي واللون الأبيض. ويتحقق كل ذلك عبر توظيف العدسة الراصدة ذات البعد السينمائي بحيث يصبح عالم الصقيع من خلال التتالي النصي متجسدا بشكل ما أمام المروي لهم.




[1] احمد يوسف عقيلة /مجموعة غناء الصراصير/قصة العجين.
[2] احمد يوسف عقيلة /مجموعة عناكب الزاوية العلي/قصة الصقيع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق