لأستاذ الأديب محمد بن سيف الرحبي من دولة عمان الشقيقة، يشغل حاليا رئاسة تحرير مجلة التكوين العمانية وهي مجلة ثقافية عامة. كتب في مجالات الرواية والقصة القصيرة والمسرح والنصوص السيرية المفتوحة.
كتبت حول روايته رحلة أبو زيد العماني دراستين ضمنتهما كتابي أستنطاق النص الروائي، أحد الدراستين تناولت فيها البنية السوسيونصية في الرواية والدراسة الثانية حول تداخل الأنواع والأجناس في رواية رحلة إبوزيد العماني.أرفق الدراستين هنا وأضع تعريفا سريعا بإصدارات الأستاذ الرحبي.
في مجال الرواية
(رحلة أبوزيد العماني)،ط.1، صدرت عن دائرة الإعلام بالشارقة 2001
(رحلة أبوزيد العماني)، ط.2، صدرت عن بيت الغشام للنشر والترجمة، 2013
(الخشت)، رواية، صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات بعمّان، 2008
(السيد مرَّ مِن هنا)، رواية، صدرت عن مؤسسة الانتشار العربي ببيروت.
( أسمها هند) رواية عن بيت الغشام للنشر والترجمة، 2016
(وفازت رواية رحلة أبو زيد العماني بجائزة الشارقة للإبداع العربي في فرع
الرواية، وفازت رواية (الخشت) بجائزة جمعية الكتاب العمانيين في فرع
الرواية)
في مجال القصة:
(شبوابات المدينة) قصص، صدر في مسقط،
(ما قالته الريح)، قصص صدر عن دار الشروق، القاهرة،
(أغشية الرمل)، قصص صدر عن دار أزمنة بالأردن،
و(وقال الحاوي)، قصص، صدرت عن دار الانتشار العربي ببيروت،
(فازت مجموعته ما قالته الريح بجائزة النادي الثقافي للإبداع القصصي، كما فازت بجائزة أفضل إصدار في الأسبوع الثقافي العماني)
وفي مجالات نصية متنوعة:
(حكايا المدن)، سرد عن المكان، صدرت في مسقط عن وزارة الإعلام،
(شذى الأمكنة)، رحلات صحفية، صدرت في مسقط،
(بوح سلمى) وقد ترجم هذا الإصدار إلى الروسية، ينتمي إلى سرد المكان، وقد صدر عن دار الانتشار العربي ببيروت
(بوح الأربعين)، ما يشبه السيرة، صدرت عن دار الانتشار العربي ببيروت
(احتمالات)، مقالات ونصوص، صدرت في مسقط،
في مجال المسرح:
(مرثية وحش)، وقد مثلت عمان في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي.
(سعادة المدير العام)، و(السهم)، و(أمنيات الحلم الأخيرة)، و(واا إصلاحاه)، و(ممنوع من النشر)، و(إنسان استراتيجي)
صورة روايته (رحلة أبوزيد العماني)
الفصل السابع
البنية السوسيونصية في رواية رحلة
أبوزيد العماني
لمحمد بن سيف الرحبي[1]
حكاية الرواية
تحكي رواية "رحلة أبي زيد العماني"
قصة الجيل الجديد في سلطنة عمان وتأثير التغيرات الاجتماعية والسياسية في هذا
الجيل.
بطل الرواية شاب
عماني من أسرة فقيرة ومتدنية في مستواها الاجتماعي الذي يعيش رفضه لهذا الوضع
الطبقي (بشكل غير مباشر) والمتمثل في دونية مستوى عائلته.
هذا الشاب أُغرِم
بفتاة من طبقة أعلى اجتماعياً وأسرة غنية. تبدأ الرواية عبر اللغة الشعرية ونجدنا
ضمن هذه اللغة الرائعة أمام (وهم) العلاقة بين الذكر والأنثى. تتوهج الأنثى وتسقط
في براثن الذكر، وبعد أن يجتاز معها المحظورات تبدأ الأزمة، حيث تكتشف
"منى" أن صديقها "خالد" من طبقة أدنى اجتماعياً، كما يبدي
أمامها لامبالاته بمشكلتها.
في الفصل الثاني
ينتقل الراوي بالرؤية من عالم "خالد"، ليضعنا مع "منى" في أزمتها
التي تعيشها، حيث تعاني من فقد عذريتها وخوفها من المستقبل القريب وتتذكر تلك
القصص المرعبة التي تحدث في المجتمع عند اكتشاف فتاة مثلها. بينما سنجد أمامنا
الشك الذي يملأ البيت حيث الأم تشك باستمرار في الزوج وأخوها يعيش مغامراته
الخاصة، وتحاول أن تبث شكواها لصديقتها ولكن ما الحل؟. تنتقل لعالمها الخاص وتحاول
عبر الرسم أن تمتلك هدوءها ولكن النزف الداخلي لا يتوقف فتخرجه في صورة ألوان
ترسمها بالفرشاة داخل إطار اللوحة فتتحول اللوحة بذلك فضاء للتأمل مفتوح وتتحول
الريشة لصوت معبر بلا لغة عن تخوم الألم الذي تعيشه.
في الفصل الثالث
ينتقل الراوي ليجاور "خالد" في إقامته في الإسكندرية، بمصر يتعرف
"خالد" في مصر على الدكتور "أمجد" المشرف على رسالته وعلى
الزميلة "هالة" المصرية، كما يتعرف على بنات الهوى، حيث
"ولاء" المصرية التي التقطها تبيح جسدها مقابل المال.
بعد زمن يتعرف
"خالد" على "عبدالله" العماني المنتمي لجماعة (الأخوان
المسلمين) وعلى بعض رفاقه، ومع نصائحهم وزياراتهم المتكررة يجد "خالد"
نفسه في قلب الجماعة وبتوقيعه على تأسيس الجمعية الخيرية للتعاون ومساعدة المسلمين
يكون "خالد" من حيث لا يدري عضواً في الجماعة، وهكذا يتوقف عن تفاهات
الجسد وعن كل ما يعيق توجهه لربه وبدل الكتب الفلسفية والعلمانية سيصبح اهتمامه
بكتب "سيد قطب" و"حسن البنا" وغيرهم من أئمة جماعة الأخوان
المسلمين.
يعود
"خالد" بعد زمن لبلده عمان ويبدأ ممارسة الدعوة مع أهله ولكن الدولة
تفاجئه هو ورفاقه ويتم وضعه في السجن.
في الفصل الرابع
ينتقل الراوي لـ"منى"، رفيقة "خالد" القديمة، نجدها هنا زوجة
لموظف ناجح ووالدة لطفلة صغيرة، وعلى الرغم من تخلصها من أزمة (العذرية) التي
فقدتها قبل الزواج، إلا أن زوجها ما زال يمتلك كماً من الأسئلة لا يُعدّ. في هذا
الفصل "منى" تتابع سجن صديقها القديم بعد أن قرأت اسمه في أحد الصحف،
تستغرب انضمامه لهذا الحزب الديني، هو الذي كان يفلسف باستمرار الجسد، ولكن والدته
تخبرها عن تحوله بعد العودة من مصر. تستمر متابعة ما تجده من أخبار المساجين
والجماعة الدينية في عمان. وأخيراً بعد شهور من السجن يصدر عفو من السلطان بمناسبة
عيد البلاد.
الفصل الخامس نجده
عبر الشخصية "خالد" ويرسم لنا الراوي فيه فترة الخروج ولقاء الأهل
والرفاق القدامى وغيرهم، ثم يعود بنا عبر الاسترجاع الزمني ليرسم ما حصل لهم في
السجن. تنتهي الرواية على "خالد" وهو يعيش لحظة ألم بين طريق الله
والدين الذي اختاره والفرح (الزواج) الذي انتواه وبين فرحة رفاقه القدامى به
وأحاديثهم التي يشعر بها ترده لعوالم كان قد تركها قبل توبته.
بنية الحكاية في
الرواية:-
تتأسس رواية (رحلة أبوزيد العماني) من مجموعة
من الأوضاع المنسجمة التي تتبدل مباشرة بعد وقوع حدث المركزي، فتأخذ تلك الأشياء
والأوضاع لوناً جديداً بنية جديدة.
محور السقوط
هنا نتابع بنية الفصل الأول والثاني قبل وقوع
حادث (فقدان منى لعذريتها) يتشكل كما سنتابع بعدها تلك البنية بعد الحادث. حيث
"منى" فتاة من أسرة عريقة تتفاعل مع شاب تعرفت عليه (خالد) وهو من أسرة
وضعها الاجتماعي متدني تنشأ بينهما علاقة ويحلم باستمرار ذلك المطحون بالوصول لتلك
البعيدة، فتتأسس أمامنا الشكل المبدئي الأول للعاقة بين الشخصيات الفاعلة في حكاية
الرواية:
شكل(7-1) يوضح طبيعة
العلاقة الاجتماعية بين خالد ومنى وأسرتيهما قبل السقوط
إن هذه البنية ستقلب
أوضاعها بحيث تصبح "منى" واقعة في أسر ذلك الرجل.
لنتابع هنا عبر اللغة
الشعرية التي وسمت بدايات الرواية كيف يرسم ذلك خالد شعوره بالقوة ويتذكر التاريخ
الطويل من الذل الذي عاشه أهله:
"وحدي الملك
الآن.
أنا.. على عرشي أقف.
أحمل عشقي سيفاً وأدخل
به المدائن التي رفضتني.
أجوس في الديار بحثاً
عن الغائب في أعماق كل تاريخي.
وفرسي جامح.
وأنا الخيال أنفخ
أبواب النصر في كل الأوهام التي عاشرتها منذ أن وعيت على رؤية أجدادي يقبلون
الأيادي، ويسعون في خلف القوم، ويدورون في تجمعات العشائر يصبون القهوة، والسوط
يقتات من جلودهم"[2].
وينتج عن هذا الوضع
الجديد شكل جديد لطبيعة العلاقة بينه وبين منى :

شكل(7-2) يوضح طبيعة
العلاقة بعد سقوط منى في وحل الجسد
إن "منى" وقد سقطت في وحل فقدان
الشرف ستجد نفسها في ذِلة استجداء "خالد"، وتجد نفسها أمامه هو الخارج
من جحر الدونية العميقة الذي وسَم أسرته قروناً مقابل أسرة "منى".
محور الصعود اجتماعيا
ونفسياً
هنا نجد "خالد" في مصر، يصلها بوعي
خاص ورؤية خاصة وهناك من خلال علاقته برفاقه الجدد تتبدل أحواله فنتابع البنية
التالية:
شكل(7-3) يوضح طبيعة العلاقة بين خالد والفواعل المكونين
لمجتمعه الجديد
إن كما نرى أمام "خالد" في مرحلة
تعرّفه على الرفاق العمانيين وقبل تحوله للتدين، لا نجد ضمن محور التناظر معه إلا
"ولاء" تلك الفتاة التي اشترى جسدها بالمال بينما يشعر دائماً ببعد
"هالة" لما في موضوع بحثه من إسراف وغلوّ في الجسدية، كذلك يتناقض مع
"عبد الله" وكافة رفاقه من المتدينين نتيجة لابتعاده عن الدين، كما تعيش
"ولاء" حالة تضاد مع المتدينين الذين يرفضون سلوكها، وكذلك حالة دونية
أمام "هالة" طالبة الماجستير في الجامعة.
بعد أن يحدث التحول
ويتوجه "خالد" نحو "عبد الله" والرفاق من أهل الجماعة، سنجده
قد تحول نحوهم أصبح هو ذاته في علاقة تضاد مع "ولاء" ومستمر في علاقة
التناقض مع "هالة".
لنتابع المقطع التالي
حيث هنا نجد "خالد" وقد خرج من دوامة الجسد ولكنه يقع أول ما يقع في أسر
الجماعة ورؤيتها وعدم القدرة على مناقشة ما يسمعه:
"عينا
عبدالله وهما تتابعانني، وصوته الذي يطلب مني أن لا أسأل كثيراً، لأن المهمة صعبة
واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، لا أنكر هذا الفيض الإيماني الذي غرسه في
داخلي، لكن كلمة التغيير ملتبسة في أعماقي (.......)يطل عبدالله مرة أخرى: سيكون
لدعوتنا شأن كبير"[3].
إننا هنا أمام تحول "عبدالله" لمركز
علوي و"خالد" لمركز سفلي في العلاقة، بدل علاقة التناقض التي كانت
بينهما في البداية. إن التأمل هنا يركز على ذات "خالد" وما يحصل له وعلى
صورة "عبدالله" مسيطراً وموجِّهاً. كما أن "خالد" يترك عالم
الجسد المحرم (جسد ولاء) ويصبح الخطاب التأملي سائراً في ركاب تحول الشخصية.
شكل (7-4) يوضح طبيعة
وضع خالد بعد انضمامه للجماعة في إطار عالمه في مصر
إن العلاقات ضمن
الحكاية كما رأينا تنقسم لمستويين مستوى سيميائي منطقي وهو يشتغل بحسب مكونات
المربع السيميائي، ومستوى آخر تراتبي بحسب المستويات (علو/ دنو).
محور الاتزان:
بعد السقوط في دركات الجسد والخروج من المتاهة
بالدين، نجد "خالد" أمام حالتين؛ حالة دخول للسجن متهماً بتهم خطيرة ثم
حالة الخروج من السجن ومن خلالهما تحدث تحولات على ذاته كما سنرى.
شكل (7-5) يوضح وضع
خالد بعد تحوله من بنية مجتمعه العماني
كما رأينا في البنية السابقة، في الوقت الذي
يعيش فيه "خالد" زمن عودته من مصر انتماءه وطاعته للتنظيم فإنه لا يضاد
الدولة كما تمارس الجماعة؛ وإنما يتناقض معها في أشياء كما يتناقض مع الأصدقاء
القدامى، بينما يتناظر أصدقاؤه القدامى مع الدولة.
بنية علاقة خالد مع مجتمعه
بعد الخروج من السجن:
بعد خروج خالد من
السجن وهو يجهز نفسه في آخر الرواية للقاء
الرفاق وممارسة طقوس زفافه أو فرحه، نجده ينسى ذكر الجماعة ولكن دون موقف واضح
منها، كذلك الدولة، كذلك الأصدقاء؛ إذ أن الراوي أنهى الرواية على وضع مفتوح.
شكل(7-6) يوضح طبيعة
العلاقة بين خالد وكافة علاقاته بعد الخروج من السجن
وباستثناء العلاقة
بين الجماعة الدينية والدولة التي هي علاقة تضاد وكذلك العلاقة بين أصدقاء
"خالد" القدامى والدولة التي هي علاقة تناظر وهي مستمرة، بينما يبدو
"خالد" في لحظة خاصة مفتوحة على كل الاحتمالات.
الدراسة الثانية
رحلة ابوزيد العماني لمحمد الرحبي
تداخل الأنواع والأجناس في رواية رحلة
إبوزيد العماني
لمحمد بن سيف الرحبي
مدخل
سبق أن فصّلنا في
حكاية الرواية وبنية حكايتها من وجهة سوسيونصية، وهنا نتابع كيفية اشتغال الأجناس
والأنواع المتداخلة ضمن نسق الرواية ومدى الانحراف النوعي أو الجنسي الحاصل على
الرواية.
الخطاب التأملي وجنس الشعر ضمن خطاب الرواية:-
يدخل الخطاب التأملي وكذلك جنس الشعر ضمن
الرواية ويخضعا لشروط ومتطلبات اللحظة الدرامية وبالطبع لشروط النوع الروائي. وقبل
أن ننهمك في تحليل هذه التداخلات ودورها في بناء النص، سننتبه لقضية العنوان الذي
يبدو إشكالياً على مستوى تجنيس النص.
العنوان والانحراف الذي يوحي به:
نجد في المناص الرئيسي إيحاءًا خاصاً على
مستوى التجنيس، حيث (رحلة أبوزيد العماني) تتناص مع اسم "أبوزيد
الهلالي" والسيرة الهلالية التي تنتمي لنوع السيرة الشعبية، وهو من أنواع
السرود المختلفة عن الرواية بشكل ما، كما أن كلمة رحلة تتقاطع مع أدب الرحلات وهو
أدب يختلف عن السرد بحكم اشتراطات تعاقدية أولية مختلفة. ولكن مع العودة للاشتغال
في الرواية لا نجد حضور مفهوم السيرة الشعبية ولا أدب الرحلات، مما يجعلنا ندرك أن
الهدف الذي يبدو قد وُظِّف من أجله العنوان هو وضع القارئ في سياق شخصية نمطية
للبطل، عمانية الجنسية والهموم، وهو بالفعل ما وجدناه أمامنا في الرواية.
مدخل الرواية بين الخطاب التأملي وشعر النثر (التعاقد على النمط):
تبدأ الرواية منذ
البداية مع الراوي وهو يشتغل على بعده الذاتي، حيث يحدثنا عن المكان الأول وعن
بدايات الأشياء ويرسم لنا بهدوء صورة الوجه العميق، محققاً بتلك اللغة الشعرية
أبعاد ما سيشتغل عليه فيما يلي:
"صخب على
زاوية القلب، وصخب في كل الزوايا التي ارتكبنا خطيئتها منذ أن أعلنا القطيعة مع
الذين نحبهم.
في المكان الأول الذي
كناه، وكان لنا وبنا، عرفنا للمرة الأولى أن نقرأ القصيدة بكراً وأهازيج من الفرح
المختفي في أعماق الذات..
كبرت القصيدة، وكبر
العمر في دفاترنا، أيقنا أن القصيدة التي أضعناها هي ذاكرتنا التي باغتتنا حيث
التبست بأثواب الغموض وبتنا كأننا لا نعرفها، وكأننا لم نكتبها معاً، ولم نغلف
الصمت بكل الحكايا التي كتبناها معاً، وكأننا لم نفرح معاً، ولم نشرب أمواج العين
المالحة معاً.
أيها المدى الذي ينبت
في السحيق من أيامنا..
تعبنا من الترحال يا
سيدي، وشواطئنا لا ضفاف لها..
آمنا
أن الفراق حق، وأن اللعبة التي لا نملكها حق، وأن الغياب الذي كان، هو شرط الحياة
الأساسي، وأن الضياع ضروري كما هي الحياة، وأن المتاهة جزء من حاضرنا لكننا لا
نعترف أنها ماضينا أيضاً، أيها الليل الذي لا فجر له: تاهت الأقدام.. فقدت آثارها
على الرمل، والرمل منشفة الصيف الحارقة، فكيف لنا القدرة على تخطي ما لا يتخطى،
وعلى النوم داخل مستطيلات الجحيم؟!" [4].
هنا الراوي يحدث
المروي لهم بصيغة الحب والمودة: "تعبنا من الترحال يا سيدي...".
إننا أمام أسطرة تلك الذات في نفس الوقت الذي
يتم فيه حشد لكل الذكريات، والراوي بذلك يضعنا عبر شعرية البكاء (ضمن نسيج سردي)
مع تأمله المستمر في الماضي وفي (القصيدة/ العمر) وفي أزمنة البدء والبراءة،
ويتحقق عبر هذا التضافر بين الروح الشعرية للراوي التي ليست إلا الشعر (منبثّاً
ضمن السرد) مع تأملات ذاتٍ مشروخة. يتحقق التعاقد على استقبال الوجع والاستعداد له
فيما يلي من خطاب هذا النص بينه وبين المروي لهم.
التأمل في العلاقة مع الأنثى قبل السقوط:
سنجد في المقطع النمطي التالي صورة لتفاعل
(الراوي/ الشخصية) قبل السقوط، هنا يتأمل الشاعر في ذات معشوقته وتصبح هي العالم
كله:
"يا نوارتي،
يا أيقونتي، يا عالمي الذي أعيشه: كيف ينسحب العالم من أمامي، وأنا الورقة التي
تتقاذفها الرياح بحثاً عن حلم مفقود؟! لا أحلم بشيء أكثر منك، وأنت كل الأشياء
التي أريدها، أحلم بك عيناً وسمعاً، وقلباً يتولى صياغة العالم وردة أعثر فيها على
اللون، والرائحة التي أشتهيها.
يرعبني العالم حين تكونين
بجانبي فلا أريد إلا أنت، لأنني أحس بعظمة الدفء، وعندما تنسحبين أفتقد اللون
الأبيض في هذه السماوات المفتوحة أمامي، كيف أغزلك قميص يعقوب أضعه أمام عيني
فيرتد إليّ بصري؟ هذا هو الرحيل – عمري– مخضب بدمي، ودمي هو ماء وردك الذي لقنته
قلبي ليل نهار كي لا يبقى متذكراً إلا إياك"[5].
هنا نحن أمام التوله بالأنثى، يتحول الشاعر
لورقة تتقاذفها الرياح ويتحول الحلم سمعياً وبصرياً وعميقاً لصياغة العالم في حجم
أوهامه ومشاعره؛ فيتناص بقصة مع قصة (نبي الله يعقوب عليه السلام) والثوب ويصبح
الدم المخضب بالثوب دمها ودمه في اختلاط لحظته، وتصبح هي المُتذَكَّر الأوحد.
لنتابع هنا قبل السقوط صورة الفوارق الاجتماعية عبر الرمز والتأمل في الذات واللغة
الشعرية:
"من غيمة إلى
أخرى أقفز جذلاً من هذه المدن التي أطل عليها، أنا المدني من الأرض الخصبة، من
الأراضي العالية التي تطل علينا عبر التاريخ من الشبابيك العالية، أنا المفتون
بأقمار تطل عبر فتحات القصور إلى بائعي الفجل وعمالهم الذين يخدمون في كل شيء، أنا
المتعب بأنفاس أمسي أتلظى نعيماً في بركان أنفاس الأميرة التي عرشها الجمال
والمكانة الاجتماعية الفاخرة"[6].
إن الراوي وهو يمتزج مع (المتكلم/ الشخصية)
يرسم أمامنا حدة الأوحال التي تكتنز بها روحه، هو هنا يفح شعراً متأملاً في علاقة
الدونية التي كتبت عليه هو وأسرته، فيرسم أمامنا هذا الاشتغال والتوق للوصول
للشبابيك العالية والأقمار والمكانة الاجتماعية الفاخرة.
شعرية التأمل في
الذات والآخر عند السقوط:
هنا بعد أن وثق من قدرته وسلطته وامتلاكه
لناصية الأنثى، يبدأ في طرح ذاته ملكاً:
"وحدي الملك
الآن.
أنا.. على عرشي أقف.
أحمل عشقي سيفاً
وأدخل به المدائن التي رفضتني"[7].
بينما هنا وقد تمكن
هذا الفارس (الموهوم) سيبدأ رحلة الانتقام للسلالة المهيضة:
"وحدي الملك
الآن.
أنا.. على عرشي أقف.
أحمل عشقي سيفاً
وأدخل به المدائن التي رفضتني.
أجوس في الديار بحثاً
عن الغائب في أعماق كل تاريخي.
وفرسي جامح.
وأنا الخيال أنفخ
أبواب النصر في كل الأوهام التي عاشرتها منذ أن وعيت على رؤية أجدادي يقبلون
الأيادي، ويسعون في خلف القوم، ويدورون في تجمعات العشائر يصبون القهوة، والسوط
يقتات من جلودهم.
أنا المسكون بأمسي
والمعذب به.
أحمل أشباح أمسي معي،
وعقد هزائم سلالتي وانكساراتها"[8].
وفي لحظة تبريرية لكل ما سبق، ولكل الحقد
المتأجج نجده هنا يؤكد ضمن نفس اللغة الشعرية وبنمط كتابتها الحديثة متأملاً ذاته:
"أنا آخر.
غيري الذي كنته.
غيره الذي كان.
يشرب روح حبيبته.
يفجر أنهارها دماً،
لا يبالي أي غرس قطعه بمنجل الشهوة والنزق"[9].
الشعرية والتأمل في الذات والآخر بعد السقوط
سنجد الخطاب الروائي في الفصل الثاني (عبر
لعبة سردية) ينقل لنا الألم الذي تعيشه الأنثى، ويرسم التفسخ الذي يعيشه أهلها،
الأم تشك في الأب والأخ "غسان" يهاجم الخادمة.
إن الراوي يرسم لنا عبر "منى" حِدّة
ما مر بها، وما تشعر به تجاه من سقط في الوزر معها. سنجد استخدام المذكرة وكذلك
خطاب الحلم مع شخصية الأنثى هنا، وهو ما سنناقش دوره بعد الانتهاء من الخطاب
التأملي والشعرية. هنا نحن أمام الحقيقة المرة منتصبة:
"أفقت لا
أدري بعد متى، كان السرير ممتلئاً بجحيمي، وردتي غادرت، طوت ما استطاعت عليها من
أشلاء خلفتها أعاصيري، آثار الطوفان أبقت على آثار تكفي للبكاء مليون عام، وردتي
حملت جرحها وأبقتني على أكاليل الهزيمة، الثورة ارتدت على ثائريها، أكلت كل
أرواحهم، ضاع الجسد، أسقط الروح في حفرة، هذه الشفافة الرائعة حملت حاضري ومضت، أي
ريح هذه التي تنتظرها في باقي أيامها؟!"[10].
إننا أمام امتزاج التأمل والشعر والرمز، ضمن
نسق السرد بحيث يتحقق لوناً متميزاً مختلفاً من السرد، يبدو ظاهرياً كأنما يتحرك
بدون بعد خفي أو محاور ولكن مع التركيز كما رأينا واستخدام بنية الحكاية تتضح
أمامنا الأبعاد الخفية لهذا الخطاب المتلاعب.
الخطاب الروائي
ومرحلة الصعود:
نقصد كما أسلفنا بمرحلة الصعود، مرحلة خروج
"خالد" من وحل الجسد. في البداية تكون الأشياء مستقرة، والصورة ذات بعد (لا
ديني) ثم مع الزمن ولقاء "عبدالله" وباقي أفراد الجماعة يبدأ التحول.
هذا كله يتحقق بعد رحيله لمصر وتركه لمنى وحيدة تعاني ذلة لفقدها عذريتها.
هنا الشخصية في مصر
ويرسم لنا صور علاقته مع فتاة الليل "ولاء" وكيفية التأمل في هذه
العلاقة:
"ولاء أعطتني
جسداً، لكنه مصطنع، بضاعة تعرض للشاري، لكن روحها تسبح في البعيد حتماً، هل يمتلك
روحها أحد، وهل يمكن أن تكون لها روح أصلاً، إذن أليست الروح هي ما تحيا به، أم أن
الروح التي نعشقها لعبة هلامية اخترعناها وآويناها جراحنا كلما أتعبنا هجير
الصحارى؟ عندما تفاجئنا جميلة، ماذا يحفزنا إليها، جمالها أولاً، لأننا لا نعرف
شيئاً غير المنظور منها، وجاذبيتها إن تكلمت، حيث يثور كيوبيد يصوب سهامه لا شك
أننا نفكر في امتلاك الجسد الجميل، لنعصره بين راحتينا"[11].
إن الراوي هنا يتفاعل مع وعي الشخصية ويعبر
بشكل مباشر (عبر صيغة المعروض الذاتي) وهو بذلك يضعنا فيما يدور ضمن ذات
"خالد" قبل زمن التحول، حيث جسد "ولاء" لا يعني إلا اللذة.
لنتابع هنا بدايات علاقته مع
"عبدالله" وباقي رفاقه وكيف يبدو التناقض بينه وبينهم:
"عبدالله يبدو
مشاكساً ومتديناً، زميلاه لم يشاركا مناقشتنا وكأنهما غير موجودين، لم أرتح لهما،
نظراتهما متوجسة تطل من فوق الذقنين الطويلين، حدست أنهما يعرفانني وولاء"[12].
يلخص لنا (الراوي/الشخصية) في المقطع السابق
تحفظه على رفاق "عبدالله" وكذلك موقفه من "عبدالله" نفسه،
الذي يبدو مشاكساً ومتديناً.
سنرى موقفاً مختلفاً
بعد التحول الحاصل على شخصيته وتدينه واتباعه للجماعة الإسلامية.
وهنا نتابع ما يراه
بخصوص الأنثى، إن الغرض من كل هذه المقاطع التي نوردها هنا هو إدراك كيف يتم التحول
من رؤية لأخرى ضمن التأمل. الحدث هنا ضمن الرواية محدود والاتساع للتفكر والتأمل،
حيث يرى قبل تحوله لعالم التدين في الأنثى ما يراه جان جاك روسو وغيرهم، لنتابعه
هنا:
"المرأة خلقت
جسداً لأنها خلقت من جسد الرجل، هي منه وإليه، هي ضلعه القريب من قلبه، يقول جان
جاك روسو: الرجل يريد شهوة الجسد، والمرأة تغريه بعري الجسد، وكلاهما يقع فريسة
لإبليس الشهوة، وعقد الجسد، ستندال يرى المرأة مخلوق من لحم ودم يجمع بين الرقة
والشهوة والانفعال.
يقول جورج لافورد: لا
تربطنا بالمرأة أبداً رابطة الأخوة.. فقد جعلنا منها – بالخمول والفساد– كائناً
منعزلاً ليس له من سلاح سوى سحره الجنسي. ويراها ألفرد دي موسيه الطريق الوحيد
لارتكاب الأخطاء.. عربياً قال قاسم أمين إن بضاعة المرأة أن تلي الرجل وتمتعه من
اللذة بجسمها ما تشاء، جمعت هذه الأقوال وأضفتها إلى مشروع رسالتي، وأضفت إليها
أيضاً مذهب المزدكية التي تنسب إلى مزدك بن بهمن بن جاكلين الفارسي الذي ظهر في
عصر الملك كسرى قباذ بن فيروز الساساني والد الملك كسرى أنو شروان، رأى مزدك أن
أسباب العداوة والبغضاء والقتال هو الأموال والنساء وبنى مذهبه على الإباحية
المطلقة وإلغاء الملكية الفردية فأحل النساء وأباح الأموال وجعل الناس فيهما شركاء
كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ"[13].
إننا هنا كما نرى مع رؤية الشخصية عبر التأمل
وكذلك عبر حشد كمٍّ من رؤى مختلفة تنطلق غالباً من بعد لا ديني في رؤية كل
القضايا.
بينما هنا نجد صورة
"هالة"، التي تشكل مادة جيدة لرؤية مختلفة للأنثى (المصرية) وكأنما أراد
الراوي (والروائي خلفه) أن ينضبط في تعاطيه النقدي للبنية الاجتماعية في مصر.
"هالة، حالة
مختلفة، تخرجنا من مفهومنا التقليدي عن البنات والعلاقات التي تنشأ لتتواصل على
السرير، احترمت فيها هدوءها وبساطتها، لا تتكلف في الكلام كثيراً، هل نحترم الفتاة
التي تمنعنا الجسد أكثر، ربما نحب الفتاة التي تعطينا جسدها بعض الوقت"[14].
"هالة" كما يرسمها الراوي حالة
مختلفة، إنها الأنثى التي تحرم الذكر فرصة نيل الجسد، الراوي كما نرى يفلسف هذه
العلاقة. نرى في هذه المرحلة كما أسلفنا أن الشعرية قد نقصت وبقينا غالباً مع
التأمل فقط.
بدايات التحول:
سنتابع هنا بدايات التحول العملي على شخصية
"خالد". هنا الراوي يندمج، ونجد تأملاً جمالياً في الفجر في القرية في
بلده عُمان:
"جاء الفجر،
سمعت صوت عبدالله يناديني مع كلمات الأذان، للفجر رائحة الحنين نحو المنابت الأولى،
قريتي الناعسة في أحضان الجبال تعيش طفولتها السعيدة، هادئة وبريئة رغم كل شيء،
أبي يحمل (مسحاته) يراقب طلوع الفجر في انتظار حلول موعد سقي نخيلاته القليلة،
يحرث الصباحات بنداءاته التي لها وقع المحبة ويقرأ القرآن كل صباح، لا يحمل إلا
نفسه البسيطة كبساطة كل شيء من حولنا، للفجر رائحة قهوة أمي، تلك الرائعة ببياض
قلبها، بأدعيتها وسجادتها تفاجئني نائماً تدعوني للنهوض قبل أن تنهضني عصا أبي.."[15].
التأمل مع "خالد" صاعداً:
هنا نجد "خالد" وقد خرج من دوامة
الجسد ولكنه يقع أول ما يقع في أسر الجماعة ورؤيتها وعدم القدرة على مناقشة ما
يسمعه:
"عينا
عبدالله وهما تتابعانني، وصوته الذي يطلب مني أن لا أسأل كثيراً، لأن المهمة صعبة
واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، لا أنكر هذا الفيض الإيماني الذي غرسه في
داخلي، لكن كلمة التغيير ملتبسة في أعماقي، أشياء كبيرة جداً محتاجة إلى التغيير،
تبدأ من أنفسنا، مروراً بالآخرين، أسئلة وأسئلة تتقاذفني بركاناً حارقاً، لكن بذكر
الله تطمئن القلوب، تعود إليّ أنفاسي، لكن حريق يشتعل في كل لحظة، للمرة الأولى
أكتم سراً بهذه الخطورة، هل هو سر؟ لا بد من دعوة أهلي للاستقامة، لكن هل
الاستقامة وحدها ما تنقصنا، يطل عبدالله مرة أخرى: سيكون لدعوتنا شأن كبير، أخرج
من حقيبتي مؤلفات سيد قطب وحسن البنا، وكتباً متنوعة كتبها إخواننا في الجماعة،
ومذكرات كثيرة طلب مني عبدالله المحافظة عليها لا أدري لماذا أحضرتها معي، تحدثت
مع أبي وأخوتي عن الإيمان[16]".
إننا هنا أمام تحول "عبدالله" لمركز
علوي و"خالد" لمركز سفلي في العلاقة، بدل علاقة التناقض التي كانت
بينهما في البداية. إن التأمل هنا يركز على ذات "خالد" وما يحصل له وعلى
صورة "عبدالله" مسيطراً وموجِّهاً. كما أن "خالد" يترك عالم
الجسد المحرم (جسد ولاء) ويصبح الخطاب التأملي سائراً في ركاب تحول الشخصية.
التأمل ضمن محور الاتزان
"خالد" قبل
السجن:
يعود "خالد" للدولة (سلطنة عمان) في
إجازة وهنا سيكون السجن الذي تعرّض له بعد دخوله بأيام طاقة لفعل الاتزان وإعادة
النظر في كل ما يخصه. لنتابع هنا أثناء دخوله موقفه من الدولة وموقف الدولة من
صورته الجديدة:
"إيه يا أبي،
طفل الأمس تَغيّر، كبرت خطواته، ربما أكثر مما ينبغي، جلدتني أعين أمن المطار
كثيراً، هاجمت كل خلية يحملها جسدي، من النظرات أرتعب، أكاد أصرخ من قوة لسعها،
فكيف بالجلد يا عبدالله، كيف؟ كيف؟؟؟!!!"[17].
هنا الدولة ممثلة في (أمن المطار) تمارس إعلان
موقفها من "خالد" الذي يبدو واضحاً أنه ضمن دائرة اهتمامهم بلحيته التي
طالت وغيرها من العلامات التي تميز الجماعة الإسلامية.
بينما يبدو من خلال
الصورة السابقة والشخصية "خالد" ينادي "عبدالله" صديقه، يبدو
واضحاً حجم سلطة ووجود "عبدالله" ضمن بعد "خالد" الداخلي، كما
أن "خالد" سيعود مع قطيعة جديدة مع كل ما يخص الأصدقاء والأهل، حيث يسعى
لتغيير الكل نحو الأفضل. بعد فترة وجيزة من وصول خالد يسجن مع باقي أفراد جماعته
وتبدأ بعد هذا الحدث تحولات جديدة تطرأ على ذاته.
التأمل مع "خالد" بعد السجن:
يبدو "خالد" بعد السجن مختلفاً،
فعلاقته مع الكل ستصبح مفتوحة، حيث موقفه من الجماعة مجهول ورؤيته للدولة كذلك،
كما أن موقفه من الأصدقاء القدامى مجهول. هنا في آخر الرواية يتحقق عبر فعل التأمل
الخاضع لرؤية الشخصية، يتحقق انفتاح في السرد على كل الممكنات، لنتابع هنا هذه الحيرة:
"أيها
المباغت في حلمه: صحراؤك واسعة، ممتدة بلا حدود، والرمال تتحرك تخفي عليك الرؤية،
مبعثر بجسدك، محاصر بإحباطاتك، بحثت عن الجسد، بحثت عن المرأة، بحثت عن المستقبل،
وبحثت، وبحثت.... وحيث عدت، كنت الخاسر الذي فقد فرسه وفروسيته.
كما سنجد هنا عودته للأسلوب الطبيعي في
العلاقة مع الأنثى عبر الزواج ولكن ماذا عن الأصحاب وماذا عن الجماعة:
"اتصلت
بأصدقائي المشاكسين أدعوهم إلى فرحي، فدعوني إلى فرحتهم، ووقفت فوق رز الباب، قد
يأتي أصدقائي إلى فرحي، وقد أذهب لأرى فرحتهم، لم أحسم أمراً، ولكن وقفت بين ضلفتي
الباب..
بين خطوتين..
الرحلة تبقى أثراً
مغموساً في المتاهة..
إن السرد يتوقف عند هذه المرحلة حيث كل
الأشياء ممكنة وكل الخيارات. مع عودة للشعرية مع التأمل في هذه المرحلة الأخيرة.
المذكرة وخطاب الحلم ضمن خطاب الرواية
استخدم أسلوب المذكرات ضمن خطاب الرواية؛ ليمكّن
الشخصية "منى" من التعبير بشكل غير مباشر أمامنا عن المأساة التي تعيشها
في البيت، حيث الأسرة في شقاق وكذلك أزمتها الخارجية مع حبيبها الذي انتهك عذريتها
وتركها ملطخة بالوحل. تأتي المذكرة بشكل مباشر لتعطي الراوي وخلفه الروائي للتعبير
بشكل مباشر مختلف عن تعبير وتأمل ورؤية الذكر "خالد". هنا
"منى" تستخدم المذكرة، كما يتماهى الراوي مع بعدها الذاتي وينطلق من فضاء
اللوحة في خطاب أشبه ما يكون بخطاب الحلم، ليرسم ما تتوجس منه وتتحول (اللوحة/
الحلم) أداة للتعبير الحاد عن قلق وألم وهواجس الشخصية، وذلك ضمن نفس إطار الخطاب
المعجون بالتأمل والشعرية.
لنتابع المذكرة هنا وهي ترسم حالة التحول حيث
المقطع الأول قبل السقوط والثاني بعد السقوط:
"الأربعاء: 5
فبراير 1992
أعود إلى غرفتي أعيش
تفاصيله، أسمع دندنات صوته عندما يغني من أجلي، باتت مقاومتي له تضعف شيئاً
فشيئاً، كدت اليوم أن أقول له أحبك، رغم أنني سمعتها منه منذ أول يوم حدثني فيه عن
إعجابي بي، لا أدري ماذا أفعل؟" [20].
كما سنجد في المادة المكتوبة بعد ذلك بأيام
صورة التحول الحاصل من السعادة للألم على ذات تلك الأنثى:
"الاثنين: 10
فبراير 1992
حملت
ثقلي من على السرير، نظرت إلى النافذة، كانت الشمس تلقي ضوءها الأول على الأرض،
أحسست بالصداع الذي يتفجر في رأسي، ألم في كل مكان.."[21].
إننا أمام الصداع والألم وثقل الجسم.
تصبح المذكرة كما رأينا أداة طيِّعة للتعبير
عن الذات، كما نجد خطاب الحلم حيث الشخصية تنتقل من وعيها الطبيعي لوعي غير طبيعي
لتجد نفسها (بواسطة قوى الخيال) في واقع آخر، عالم أقرب للحلم يبدأ بلغة المرارة
والألم والتعبير الذاتي مع تأمل ولغة شعرية ثم نأتي لمفهوم اللوحة والرسم لدى
الشخصية ثم ننتقل من كل ذلك لعالم الخيال:
"أ) نبتت أشواك
الرعب دفعة واحدة في أعماقي، تمددت على فراشي، احتضنت وسادتي، تمنيت أن يكون حلماً
سأصحو منه على وهج فرحة، لكن الواقع ينفث في وجهي بؤسه، القصة تتكرر دائماً،
بأشكال ما، الجاني لا يأبه بما اقترفه، لكن هل حقاً هم الجناة؟! لا أعرف إلى أين
تمضي بي هذه التساؤلات التي ترهقني أكثر فأكثر، نهضت إلى فرشاتي، استغرقني العمل
طويلاً، كنت كالمنومة مغناطيسياً، أحرك الفرشاة على اللوحة التي تحملت ألواني
وفرشاتي أكثر من خمس ساعات، لم أشعر بالجوع أو العطش، كنت في عالمي السحري أكتب
نفسي، مزقت شراييني واحداً بعد آخر، أسلت دمي على هذه اللوحة، كان الفضاء تحت
سبحات يدي، وكنت أفتش في اللوحة عن شبح ينسل من بين الأصابع يقتات على المجهول.
ب) آويت اللوحة دملجي
المخنوق في يدي، وضفائري التي كانت قبل ليلة في يده، وأنفاسي التي كانت تحوم في
كونه، لكن المدى خانق الآن، لا بد للوحة أن ترسمه، أن تحملني نزيفاً لا يقبل
الصمت، واللوحة مرآتي السابحة في دمي، أروي ظمأي إلى الجنون، هل علينا أن نصلب
لنتعلم فن الوجع ونحيله إلى لوحات يستمتع بها الآخرون.
أمام ملكوت اللوحة تهت
أسحب الألوان من ضفافها لأكتبه في نهر اللوحة بركاناً يستنزف أعصابي، لم أعد أحتمل
أن أبقى في انتظار الوجع كل ليلة، لا بد أن يخرج هذا المارد من بين أصابعي، اللوحة
تترقبني أقيم حفلة الزار أخرج العفريت كما يعتقد الدجالون، هذه أنا أمارس لعنتهم
وضجيجهم، أخرج عفريت الوجع، أضربه بسياط الريشة، والريشة تتهاوى بجنون على قماش
اللوحة، أحسست بالوجع في أقدامي وأصابعي، أحسست بالخفة في رأسي، وضعت رأسي على
علبة ألوان جديدة لم أبدأ بها بعد.
ج) دخلت في تسبيحة
طويلة، كنت بين الإغفاءة والصحو أشاهد هودج القبيلة على ظهر جمل، ومن حوله الحداة
يصيحون بأغانٍ يحسبونها عذبة أحسها أغنية البكاء، من خيمة إلى خيمة كان الهودج
يتلقفني بين أخشابه، وزغاريد النساء تطوف بي أنا العروس القادمة من الصحراء
البعيدة، إلى صحراء أخرى، أدحرج خطوي إلى المجهول"[22].
إننا كما نرى أمام التأمل والشعرية في المقطع
(أ) ثم مع الشخصية والتأمل في اللوحة في (ب) ثم مع خطاب الحلم في (ج)، بحيث يكون
الانتقال من الألم العمومي في (أ) إلى تركيزه في اللوحة كمهرب أو منقذ في (ب) ثم
الخروج من الوعي والعقل في (ج).
خلاصة عن الخطابات النوعية والأنواع الموجودة في الرواية
تداخل ضمن خطاب الرواية كما رأينا الخطاب
التأملي، الذي تتركز الفاعلية ضمنه على رصد الأشياء والبحث عن معنى أو تفسير لها
وفلسفتها بدل التركيز على السرد والحكاية كما في الخطاب السردي العادي، كما تميز
خطاب هذه الرواية باحتوائه على جنس الشعر الذي كان متضافراً مع الخطاب التأملي
وخاضعاً لاشتراطات النوع الروائي، ولقد كان كلاً من التأمل والشعرية خاضعين لبنية
الحكاية المركزية ويتحركان معاً ضمن نفس التحولات الحاصلة على الحكاية وذلك لأننا
هنا أمام رواية الشخصية الفردية، بحيث كان التأمل وكذلك الشعرية تعبيراً عن
الشخصية أكثر من كونه تعبير عن طاقة تأملية حقيقية ومع ذلك أنتجت التحولات التي
حدثت على مستوى الحكاية بشكل غاية في الانضباط، رؤى وتأملات متبدلة كانت ترسم
باستمرار أمامنا أزمة جيل بكامله. المذكرة جاءت معاضدة لخطاب الرواية ولم تكن ذات
فعل مركزي وكذلك خطاب الحلم، كلاهما كانا يقوما بدور تأجيج ورفع دراما النص أكثر
من القيام بدور مركزي تأسيسي كما هو الحال في الخطاب التأملي وجنس الشعر، الذين
مكَّنَا الراوي من القيام بإنتاج خطاب روائي مميز ومتماسك ومنسجم.
حول الرواية ضمن
خلاصة الكتاب
رحلة
أبوزيد العماني للعماني لمحمد بن سيف الرحبي
عمل تميز بالشعرية العالية في اللغة أو ما
نعرِّفه نحن بوجود جنس الشعر داخل الرواية، كما تميز الكاتب بالقدرة على تنظيم
مجتمعه النصي تنظيما طبقيا لا يتبدى من خلال ظاهر الرواية، وإنما تبرزه حركة
الأحداث وتفاعل الشخصيات، وظف الراوي العنوان واستفاد منه ضمن روايته، كما نجد
طبيعة الحدث القائم باستمرار بقلب أوضاع الشخصيات، نجد أيضا ضمن الرواية توظيفًا
لطاقات أخرى مثل حضور كتابة المذكرة والتأمل المنطلق من وعي الفنان التشكيلي
بالإضافة لطبيعة التحولات الهامة على صعيد المجتمع العماني التي رصدتها الرواية
بحيث صارت وهي تتعاطى مع الواقع شهادة حقيقية على نزيف جيل الحاضر في عمان وبلاد
العرب والمسلمين كلها.
[1]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة/ط:1/200.م
[2]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:27
[3]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:104
[4]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:5-6
[5]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:11-12
[6]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:26-27
[7]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:27
[8]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:27
[9]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:28
[10]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:29
[11]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:67
[12]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:70
[13]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:81
[14]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:86
[15]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:100-101
[16]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:104
[17]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:102
[18]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:171
[19]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:174
[20]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:34
[21]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:37
[22]محمد بن سيف الرحبي/
رحلة أبوزيد العماني/ص:47-48
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق