تقنيات السرد في قصص محمد الزنتاني
قصة القطة نموذجا
(مرفق أيضا في نهاية الدراسة القصة)
اشتغالات حول نصوص مميزة في القصة القصيرة (1)
ساحاول أن اضع ضمن ها المحور بعض الدراسات لقصص قصيرة رأيت فيها شيئا مميزا. أبدأ بقصة القطة للقاص الليبي المميز ا. محمد الزنتاني. سأرفق مع ملف الدراسة قصة القطة ليقرأها من يرغب في التعرف على أسلوب كاتبنا المميز.
مقدمة:
تتميز بعض قصص محمد الزنتاني بحكايتها ذات الأحداث البسيطة التي تتناول مخلوقات غير إنسية ينتقيها الراوي بعناية، ويقوم وهو يشخص حضور هذه (الشخصيات/ الفواعل) بتركيز الرؤية من خلال وعي خاص مستخدما عديد التقنيات السردية ليحقق شد المروي له لقصته، وينجز فعل الإيحاء الذي هو جوهر كل عمل سردي. إيحاء ينتبه فيه لجوانب غير ظاهرة من حياة تلك الكائنات مع الاشتغال عليها بحسب حاجة اللحظة السردية، وصفا وتجسيما وأنسنة.
الأحداث بسيطة وفواعل القصة فد تكون حيوانات أو جوامد كما في قصة القطة التي نحن بصددها، حيث يقوم الراوي باستخدام عديد التقنيات السردية ليضع المروي له في التوتر المطلوب وينجز رسالة القص معتمدا على البعد الإيحائي عبر المعاني المخفية وراء الكلمات، مع حضور كثيف لتقنيات سردية ضمن لغة مميزة تتناسب مع استراتيجيات ذلك الراوي في السيطرة على المروي له.
من المهم هنا أن نضيف أن بعض قصص محمد الزنتاني شديدة الخصوصية، فهي قد تبدو للقارئ السطحي، الذي تعود على الأحداث أو الشخصيات الكبيرة، قصصا غير مفهومة أو غير مهمة، بينما سنجد أن كثير من القراء الحصيفين يشعرون بالفعل بذلك المنجز المميز عبر القصص وخلف الكلمات والحكاية، وهذا بالطبع لمسته من بعض قراءات وحوارات خاصة مع كتاب قصة وقراء مميزين، رافق بعضهم تجربة الزنتاني منذ البدايات.
في قصة القطة التي كتبت سنة 1993، يرسم الراوي حركة قطة عادية ضمن حجرة عادية تقوم بحركات عادية، يسلط الراوي الضوء عليها، ويكاد يجسم فعلها وهو في الوقت نفسه (بطرح رؤية مختلفة لها) فيحيلنا، باعتباره راو للأحداث، لانفعاله الشخصي تجاه الأحداث حينا، بينما ينقل في حين أخر ما يبدو أنه ظاهر أمام عدسة السرد، منجزا بذلك رؤية خاصة كثيفة سواء كان وهو ضمن الحالة الأولى (حيث نتابع مشاعره بشكل غير مباشر) أو الحالة الثانية (التي يصور فيها الأحداث دون تدخل)، إذ يبدو ضمن ذلك كله منفعلا أيما انفعال مع تلكم الأحداث، ومنهمك مع فواعله أيما انفعال، ولعل هذا ما يسبب التوتر الناتج عن حركة تلك الفواعل عند المروي له.
سيكون تركيزنا في هذه القصة على علاقة الراوي بالفواعل، وعلى طبيعة الصورة التي يؤسسها هذا الراوي، كما سنتناول بعض التقنيات السردية على مستوى السرد في جانب تقنية التأطير التي كانت تقنية أساسية إنجاز الممارسة السردية، بالإضافة للترهين الذي حضر بشكل محدود، كذلك على مستوى الوصف خاصة تقنية الاشتغال على الحواس، كما سنركز على بعض الظواهر الأسلوبية التي بدت في هذه القصة ومنها: أنسنة الجوامد والحيوانات ، كذلك ظاهرة السخرية الخفية السائدة في هذا النص، كما سنتابع طبيعة الأوصاف التي تضع الفواعل في الحدود القصوى للرفاهية من خلال كلمات خاصة وهو جزء (فيما يبدو من سياسة النص الساخرة عميقا).
مقدمة:
تتميز
بعض قصص محمد الزنتاني بحكايتها ذات الأحداث البسيطة التي تتناول مخلوقات غير إنسية
ينتقيها الراوي بعناية، ويقوم وهو يشخص حضور هذه (الشخصيات/ الفواعل) بتركيز
الرؤية من خلال وعي خاص مستخدما عديد التقنيات السردية ليحقق شد المروي له لقصته،
وينجز فعل الإيحاء الذي هو جوهر كل عمل سردي. إيحاء ينتبه فيه لجوانب غير ظاهرة من
حياة تلك الكائنات مع الاشتغال عليها بحسب حاجة اللحظة السردية، وصفا وتجسيما
وأنسنة.
الأحداث بسيطة وفواعل القصة فد تكون حيوانات أو
جوامد كما في قصة القطة التي نحن بصددها، حيث يقوم الراوي باستخدام عديد التقنيات
السردية ليضع المروي له في التوتر المطلوب وينجز رسالة القص معتمدا على البعد الإيحائي
عبر المعاني المخفية وراء الكلمات، مع حضور كثيف لتقنيات سردية ضمن لغة مميزة
تتناسب مع استراتيجيات ذلك الراوي في السيطرة على المروي له.
من
المهم هنا أن نضيف أن بعض قصص محمد الزنتاني شديدة الخصوصية، فهي قد تبدو للقارئ
السطحي، الذي تعود على الأحداث أو الشخصيات الكبيرة، قصصا غير مفهومة أو غير مهمة،
بينما سنجد أن كثير من القراء الحصيفين يشعرون بالفعل بذلك المنجز المميز عبر
القصص وخلف الكلمات والحكاية، وهذا بالطبع لمسته من بعض قراءات وحوارات خاصة مع كتاب
قصة وقراء مميزين، رافق بعضهم تجربة الزنتاني منذ البدايات.
في قصة القطة التي كتبت سنة 1993، يرسم الراوي
حركة قطة عادية ضمن حجرة عادية تقوم بحركات عادية، يسلط الراوي الضوء عليها، ويكاد
يجسم فعلها وهو في الوقت نفسه (بطرح رؤية مختلفة لها) فيحيلنا، باعتباره راو
للأحداث، لانفعاله الشخصي تجاه الأحداث حينا، بينما ينقل في حين أخر ما يبدو أنه
ظاهر أمام عدسة السرد، منجزا بذلك رؤية خاصة كثيفة سواء كان وهو ضمن الحالة الأولى
(حيث نتابع مشاعره بشكل غير مباشر) أو
الحالة الثانية (التي يصور فيها الأحداث دون تدخل)، إذ يبدو ضمن ذلك كله منفعلا أيما
انفعال مع تلكم الأحداث، ومنهمك مع فواعله أيما انفعال، ولعل هذا ما يسبب التوتر
الناتج عن حركة تلك الفواعل عند المروي له.
سيكون
تركيزنا في هذه القصة على علاقة الراوي بالفواعل، وعلى طبيعة الصورة التي يؤسسها
هذا الراوي، كما سنتناول بعض التقنيات السردية على مستوى السرد في جانب تقنية التأطير
التي كانت تقنية أساسية إنجاز الممارسة السردية، بالإضافة للترهين الذي حضر بشكل
محدود، كذلك على مستوى الوصف خاصة تقنية الاشتغال على الحواس، كما سنركز على بعض
الظواهر الأسلوبية التي بدت في هذه القصة ومنها: أنسنة الجوامد والحيوانات ، كذلك
ظاهرة السخرية الخفية السائدة في هذا النص، كما سنتابع طبيعة الأوصاف التي تضع
الفواعل في الحدود القصوى للرفاهية من خلال كلمات خاصة وهو جزء (فيما يبدو من
سياسة النص الساخرة عميقا).
تعريف
ببعض مصطلحات الدراسة النظرية:
مستوى
الممارسة السردية
هو مستوى اشتغال مواز لمستويات سبق أن عرفتها
السرديات، وهي مستوى الخطاب، ومستوى الحكاية، ومستوى النص، ونستطيع عن طريق هذا
المستوى التعامل مع التقنيات السردية على مستوى الممارسة السردية المنقسمة
لمحورين: محور السرد ومحور الوصف، وهي تمثل ظواهر فنية وجمالية استخدمها الكتاب
الجدد أو كتاب الحساسية الجديدة في تحولهم من السرد التقليدي إلى السرد الحديث، نجد
ضمن محور السرد: تقنيتي التأطير والترهين، بينما نجد ضمن محور الوصف تقنيتي الاشتغال
على الحواس والوصف المقارن.
يتحقق
الإدراك الناتج عن فعل إيحاء السرد من خلال ظاهرتين إدراكيتين يميزا إدراكنا، وهما
:
أ. إدراك
نقطة ضمن إطار وهذه النقطة قد تكون ذات أو لون أو اسم أو كمية مقاسة ضمن وحدة قياس،
أو نوع سري داو شعري ضمن أنواع ممكنة.
ب. إدراك
نقطتين بينها علاقة ما، ويتأسس لهما الإطار عبر حدود العلاقة بينهما.
التأطير:
نقصد
بالتأطير ظاهرة كثافة حضور الأطر الحافة بالمحكي، وهي مكونات الحكاية (حدث، شخصية،
زمن، مكان) في كل جملة. هذا الحضور قد يكون لكل مكونات الحكاية سابقة الذكر أو
حضورا لأغلبها بشكل مستمر على مستوى الجملة السطحي (ضمن مستوى الخطاب بمفهوم
السرديات).
إن
تأطير الحدث بمؤشرات الزمان و المكان يؤدي دورا استراتيجيا في السيطرة على المروي
له، حيث يساهم هذا الحضور في تجسيم الحدث وفي جعل الشخصية أو الفاعل مجسما أمام
المروي لهم ويجعل من طاقة الإيحاء الكامنة في السرد أكثر حضورا وقوة[1].
الترهين:
نقصد بالترهين ترابط
الأطر الحافة بالمحكي (مكونات الحكاية سابقة الذكر) حيث يساهم حضور اثنين أو أكثر
من مكونات الحكاية :"حدث، شخصية، زمان، مكان" على المستوى السطحي للجملة
مترابطين أو متعالقين بشكل من الأشكال، في جعل السرد أكثر حضورا وفعلا على المروي
له، ويحدث الترهين عندما يرتبط حدث ما بحدث أخر أو بأي عنصر من عناصر الحكاية
الأخرى: (ترابط حدوث حدث (بشخصية أو فاعل) ما، أو ترابط حدوث حدث بزمن أو مؤشر
زمني محدد، أو ترابط حدوث حدث بمكان او مؤشر مكاني محدد وبنفس الطريقة يحدث الترهرن
عندما تقدم شخصية ما مرتبطة بمكان ما، أو مرتبطة
بحدث ما، أو بزمان ما أو من احد مؤشرات
تلك المكونات المدركة، وبنفس الطريقة يتحقق الترهين عند ترابط المؤشرات المكانية
أو المكان المحدد بالمؤشرات الزمنية أو الزمان المحدد مع الشخصية أو الشخصيات
والفعل أو الحدث.
الاشتغال على الحواس
يتم الأشغال
على الحواس عبر التصوير الذي يتأسس بشكل مباشر أو ضمني على فضاء حاسة من الحواس
الخمسة وهي حواس (البصر، والسم‘، والشم، والتذوق، واللمس).
ويوجد تشابه بين
تقنية الأشتغال على الحواس وتقنية التأطير حيث تتحقق كل منهما عبر مفهوم إنجاز
حضور ضمن الإطار المدرك سواء كان هذا الإطار المدرك الفضائي الحيز(الفضائي) ضمن
فعل التأطير عبر حضور اطر السرد ويتحقق شيء مشابه ضمن الوصف عبر صورة تشتغل على
حاسة ما أو صورة تشير لعلاقة بين تشكلها و بين بعد حاسة من الحواس الخمسة. ضمن الاشتغال على الحواس كل المدركات عبر
الحواس تبني لذاتها داخل ذهن متلقيها فضاء ذهنيا داخليا، و تمتلك هي في ذاتها
بعدها الفضائي أو حيز ما توجد داخله وعبر حدود هذا الحيز يتم إدراك تلك القيمة
المنبثة عبر الحواس وتتحول لها داخلياً حدود فضائية.
الوصف المقارن:
يحدث الوصف المقارن
عند بوجود علاقة مقارنة ضمن مستوى الوصف بين أي من مكونات الحكاية ويدخل ضمن هذا
بعض ظواهر البلاغة العربية القديمة مثل (الاستعارة، والتشبيه) ولكن هنا تركيزنا
على البعد الإدراكي الذي ينتجه هذا الوصف الذي يقارن بين أي من مكونات الحكاية
الأربعة ومكون أخر . هذا الوصف المقارن يمكن أن يستخدم كتقنية تحليل عندما يكون
تطبيق التحليل على مستوى الجملة السطحي ومن الممكن أن يكون على مستوى فعل التدليل
على مستوى العلاقات التفاعلية للتناص وغيرها من التفاعلات لنصية بين نص ما وأخر.
يتشابه الوصف المقارن مع الترهين من جهة تحققه
عبر عملية إدراكية أساسية هي عملية الارتباط أو العلاقة بين مكونين أو أكثر المذكورة
سابقا في النقطة (ب)، بينما يتحقق مكوني التأطير والاشتغال على الحواس ضمن مكون
إدراكي أخر هو مكون إدراك الجزء ضمن الكل أو النقطة داخل الإطار، الذي تم ذكره
سابقا في نقطة (أ).
حكاية قصة
القطة:
تتكون القصة من
ثلاث أجزاء ترسم الأحداث المركزية للقصة، وتنتقل فيها عدسة السرد من فاعل لأخر حيث
في الجزء الأول يتم التركيز على القطة وحركتها، كما يتم تصوير سعيها لحك جسمها على
أرجل الطاولة الصغيرة، بينما في الجزء الثاني نتابع توتر وضع الإناء الملون فوق
الطاولة وسقوطه، ثم في الجزء الثالث نتابع عودة الاستقرار وصورة القطة وهي تمارس
فعل القطط المعاد في لحس شعر الجسم، وتجهز نفسها لتعيد نفس الفعل الأول وهو دعك
الجسد على أرجل الطاولة الأربع.
طبيعة دراستنا
لهذه القصة
على عكس ما
نقوم به غالبا، حيث نحدد مدخلا من المداخل النقدية، ونقوم من خلاله بتحليل النص ثم
ننتقل إلى مدخل أخر، فإننا هنا سنخضع لتتابع النص ونضع بعض الملاحظات حول التقنيات
السردية كما يجدها أي قارئ يمارس قراءة متتابعة للقصة وسنجمل ملاحظاتنا الرئيسية
على القصة ضمن الخلاصة.
التقنيات
السردية وجماليات أسلوب المقطع الأول من القصة:
يبدأ الراوي
سرده من خلال لمقطع التالي.
"باحتراس وانتباه وبخطى صامتة ومتمهل"
يلي ذلك مباشرة قيامه برسم صورة خاصة لهذه القطة، هذه الصورة تنزعها من باقي الصور
الممكنة لها في أذهاننا، حيث الراوي وهو يصورها يضع المروي له أمام نوع خاص من القطط،
تعيش حياة خاصة في بيت خاص. لنتابع المقطع
التالي و نلحظ التركيز في التصوير على حركتها ضمن إطار محدود هو ذلك الإطار الذي
تعيش فيه تلك اللحظة:
"اقتربت القطة المتخمة ، ذات الوبر المرقط الكثيف ، من إحدى الأرجل الخشبية المصقولة ، للطاولة الصغيرة ، المغطاة بقطعة قماش مزركشة ، وسط الحجرة"
"اقتربت القطة المتخمة ، ذات الوبر المرقط الكثيف ، من إحدى الأرجل الخشبية المصقولة ، للطاولة الصغيرة ، المغطاة بقطعة قماش مزركشة ، وسط الحجرة"
كل شيء كما نرى
ضمن هذا الإطار العام في إطار مميز خاص، فالقطة كثيفة الوبر مرقطة، والأرجل صقيلة
ملساء، والطاولة الصغيرة مغطاة بقطعة قماش مزركشة، كل هذا التأثيث الوصفي للفاعل وللمكان
يصاحبه رسم الأطر، أو ما نُعَرِّفهُ بالتأطير، إذ نتيجة للوصف الخاص يجد المروي
لهم إطار الأحداث آن وقوعها مدركا، وهو ما يمثل إحدى ميزات القصة الحديثة.
المقطع التالي
فيه المزيد من الانهماك في وصف القطة ووصف كسلها والراوي بذلك وهو يمضي في التحديد
الدقيق لفعلها، يضعنا في إطار انفعاله الشخصي، ولا يخلو الأمر من نوع من أنواع
السخرية الخفية من كل شيء، ضمن إطار الاهتمام بأحداث بسيطة لكائنات خاصة لنتابع
المقطع التالي:
"بتؤدة وهدوء.
.بحركة مفرطة في الكسل .
وبنشوة غامرة . أخذت تحك جسمها اللين ،
بامتداده الرتيب
:
من مقدمة العنق.
من مقدمة العنق.
تحت الأذن مباشرة.
إلى آخر انسياب الجسم.
عند ابتداء الذيل المتماوج الطويل.
وعندما شعرت بالانتشاء، أخذت تدعك جسمها
بقوة ونشاط وحيوية دافقة"
أنهمك
الراوي كما تابعنا في تصوير حركة القطة مركزا عدسة السرد ذات التصوير السينمائي (البصري
المتحرك) وهو يصور حركتها متماهيا (فيما يبدو) مع وعيها، فهو يبدو وقد وضع عدسة
تصويره على حدود فعلها (من حدود العنق) ثم يمضي راسما باقي الجسم.
مجمل الناتج من هذه الصورة بالإضافة لهذا
الانهماك في تصوير حركة القطة، ينجز صورة تبرز جسمها اللدن، هذا التصوير ليس
تصويرا عاديا بسيطا، ولكنه تصوير متضمن لرؤية هذا الراوي الخاصة. هذه الرؤية تضع القطة
في إطار حدود قصوى للثراء والرفاهية (مفرطة الكسل، نشوة غامرة) وهذا كله له دلالات
خفية تمثل إطارا عاما للنص ككل، وهو ينسج عالم القطة وعالم هذه الحجرة ويقدمه،
منتجا مشهدا تصويريا ممزوج بحمولات نفسية خاصة تمثله هو الرائي والراوي في الآن
ذاته.
وبعيدا عن
التأويلات الخاصة للقطة أو رمزيتها، فإن الصورة هنا من ناحية الحواس المستخدمة
للتصوير ذات بعدين: بعد أساسي هو البصري، وبعد يشتغل على إيحاء حاسة اللمس من خلال
صورة تلامس الجسد اللين، كذلك صورة أرجل الطاولة الصقيلة، كلها ذات إيحاءات خاصة
على حاسة اللمس.
التقنيات
السردية وجماليات أسلوب المقطع الثاني:
في المقطع الثاني يحرك الراوي الأحداث لكن من خلال
أشياء غير مهمة وأحداث غير ممكنة أيضا، لكنها في إطار المتخيل السردي للقصة تكون
ممكنة.
" (أ) فوجيء الإناء الزجاجي الملون بالموقف .
فوجئ ،
وهو غارق في الصمت والسكون .
اضطرب قليلاً .
اهتز بعصبية واضحة .
جاهد كي لا يقع .
تماسك بصعوبة .
تماسك ، مبدياً انزعاجا مراً .
(ب) لكن الماء ، على الرغم منه ، انسكب على الطاولة بفضاضة ، مرسلاً رذاذه في شكل نصف دائرة واسعة . وتناثرت شظايا الزجاج ، برعونة ، على أرضية الغرفة المغطاة بفرش غليظ ، ذو زخرفة هادئة الألوان . لا يمتد إلى أكثر من اتساع الطاولة بقليل .
(ج) وبفرقعة بدت ساخرة ومثيرة للانتباه ، اختل نظام الحجرة ."
فوجئ ،
وهو غارق في الصمت والسكون .
اضطرب قليلاً .
اهتز بعصبية واضحة .
جاهد كي لا يقع .
تماسك بصعوبة .
تماسك ، مبدياً انزعاجا مراً .
(ب) لكن الماء ، على الرغم منه ، انسكب على الطاولة بفضاضة ، مرسلاً رذاذه في شكل نصف دائرة واسعة . وتناثرت شظايا الزجاج ، برعونة ، على أرضية الغرفة المغطاة بفرش غليظ ، ذو زخرفة هادئة الألوان . لا يمتد إلى أكثر من اتساع الطاولة بقليل .
(ج) وبفرقعة بدت ساخرة ومثيرة للانتباه ، اختل نظام الحجرة ."
الراوي
هنا في المقطع (أ) مارس ما يمكن تسميته بأنسنة الجماد، بعد أن كان قد مارس ما يمكن
تسميته أنسنة الحيوان عبر تصوير القطة، فخلق من الإناء الزجاجي فاعلا ثانيا، وسبغ
عليه لمزيد من التأثير، أوصافا إنسانية خاصة، فجعل منه كائنا واعيا يتأثر وينفعل ويتوتر،
ثم بعد صور متتالية مميزة لا تخلو من سخرية خفية من الراوي، نجد في (ب) الحدث
المركزي الذي يخرق نظام الهدوء السائد في هذه (القصة/الحجرة).
الراوي
يقدم الأحداث منفعلا معها حيث (أبدى في تحفظ خاص) حدث السقوط مع وجود ألفاظ تدل
على عميق سخريته مثل (فظاظة، رعونة) ، وهذا اشتغال له دور خاص في تكييف
إمكانية إدراك الحدث، إذ كل وصف لحالة حدوث الحدث، هو نوع من التأطير الذي يجعل من
إمكانية فعل النص على المروي له أكبر ودلالته أكثر تخصيصا.
قام الراوي بتلخيص الحدث المركزي في هذه القصة
في (ج)، حيث اختلال نظام الحجرة هو حدثها المركزي كما الاستقرار مع تواتر أفعال
القطة هو الثابت، حيث ستعود القطة في أخر النص بعد أن هدأ كل شيء لتمارس من جديد
فعل حك الظهر على أرجل الطاولة الصقيلة.
التقنيات
السردية وجماليات أسلوب المقطع الثالث:
لنتابع
هنا باقي القصة:
"(أ)
برشاقة وارتباك :
قفزت
القطة مبتعدة .
اتخذت
لها مكاناً في إحدى الزوايا .
بلا
مبالاة :
تأملت
ما حدث ، ثم شرعت في التثاؤب .
بهدوء
، بدا قاتلاً :
(ب)
أخذت تلعق الوبر الكثيف ، في محاولة لتصفيفه ، وواصلت لعقها بصبر ، حتى لاح بعد
حين ، أكثر بريقاً ولمعاناً ، على الجانبين، وبامتداد الظهر المقوس إلى أسفل."
نجد
في (أ) رد فعل القطة الطبيعي تجاه الحدث، ثم في (ب) انهماكها في فعل مناسب لها بنفس
الأسلوب والتركيز على التفاصيل، ويتضح من خلال الصورة في (ب) البعد الإيحائي
للصورة على مستوى حاسة اللمس من خلال فعل اللعق، كذلك صورة الشعر الكثيف وهي صورة
بصرية توحي ببعد بصري مشوب ببعد لمسي، كما تميزت الصورتان في (أ، ب) بانهماك
الراوي من جديد، في رصد هذه القطة وأفعالها
وصبغ هذه الصور برؤيته الخاصة الناتجة عن اندماجه مع رؤيتها ومشاعرها ووعيها،
من خلال عبارة (مريح) في (أ) و (فضول وبلاهة مصطنعة) في (ب) كما تميز المقطع بحضور
تقنية الترهين من خلال ترابط فعل القطة السابق مع حدوث السكون، كما نلحظ أيضا أنه
قد تم أنسنة الصوت، حيث الصمت يقوم بلملمة أطرافه.
الصمت
هو فراغ على مستوى حاسة السمع، أو صفر على
المستوى الصوتي، يتم هنا من وعي الراوي المندمج مع قطته، جعله فاعلا واعيا أو ما
نعرفه بالأنسنة.
"(أ)
وعندما لاحظت أن السكون قد تمكن من لملمة أطرافه ، مرة أخرى ، والانتشار في الحجرة
، بشكل مريح ، (ب) اقتربت من الطاولة بفضول ، وببلاهة مصطنعة ، التصقت بإحدى
الأرجل الخشبية ، للحظات ، ثم ما لبثت أن واصلت حك جسمها بهدوء :
(ج)
من مقدمة العنق .
تحت
الأذن مباشرة .
إلى
آخر انسياب الجسم .
عند
ابتداء الذيل المتماوج الطويل ."
في (ج) نتابع تواتر الحدث وتواتر الصور حيث التواتر
الصورة الكثيفة أحد أهم ميزات هذا النص وهو ما يجعل دائرة الفعل في تكرار يبدو
كأنما سيستمر ولا يتوقف.
خلاصة حول طبيعة الحدث
تبدو طبيعة النظام الخاص للقصة واضحة من خلال رسم
صورة مستقرة، ثم حركة ، ثم عودة للاستقرار أو الثبات ثم حركة جديدة ويمكن تلخيصها
فيما يل: (استقرار، توتر،استقرار، توتر) وهي بذلك تمتلك نفس بنية القصة العادية
باستثناء انفتاحها على التوتر في أخرها من خلال عودة لقطة للحركة.
قصة ((القطة
)) لمحمد الزنتاني
وبخطى صامتة ومتمهلة :
اقتربت القطة المتخمة ، ذات الوبر المرقط الكثيف ،
من إحدى الأرجل الخشبية المصقولة ، للطاولة الصغيرة ، المغطاة بقطعة قماش مزركشة ،
وسط الحجرة .
بتؤدة وهدوء .
بحركة مفرطة في الكسل .
وبنشوة غامرة . أخذت تحك جسمها اللين ، بامتداده
الرتيب :
من مقدمة العنق .
تحت الأذن مباشرة .
إلى آخر انسياب الجسم .
عند ابتداء الذيل المتماوج الطويل .
وعندما شعرت بالانتشاء ، أخذت تدعك جسمها بقوة ونشاط
وحيوية دافقة .
* * *
فوجيء الإناء الزجاجي الملون بالموقف .
فوجئ ،
وهو غارق في الصمت والسكون .
اضطرب قليلاً .
اهتز بعصبية واضحة .
جاهد كي لا يقع .
تماسك بصعوبة .
تماسك ، مبدياً انزعاجا مراً .
لكن الماء ، على الرغم منه ، انسكب على الطاولة
بفضاضة ، مرسلاً رذاذه في شكل نصف دائرة واسعة . وتناثرت شظايا الزجاج ، برعونة ،
على أرضية الغرفة المغطاة بفرش غليظ ، ذو زخرفة هادئة الألوان . لا يمتد إلى أكثر
من اتساع الطاولة بقليل .
وبفرقعة بدت ساخرة ومثيرة للانتباه ، اختل نظام
الحجرة .
* * *
برشاقة وارتباك :
قفزت القطة مبتعدة .
اتخذت لها مكاناً في إحدى الزوايا .
بلا مبالاة :
تأملت ما حدث ، ثم شرعت في التثاؤب .
بهدوء ، بدا قاتلاً :
أخذت تلعق الوبر الكثيف ، في محاولة لتصفيفه ،
وواصلت لعقها بصبر ، حتى لاح بعد حين ، أكثر بريقاً ولمعاناً ، على الجانبين ن
وبامتداد الظهر المقوس إلى أسفل .
وعندما لاحظت أن السكون قد تمكن من لملمة أطرافه ،
مرة أخرى ، والانتشار في الحجرة ، بشكل مريح ، اقتربت من الطاولة بفضول ، وببلاهة
مصطنعة ، التصقت بإحدى الأرجل الخشبية ، للحظات ، ثم ما لبثت أن واصلت حك جسمها
بهدوء :
من مقدمة العنق .
تحت الأذن مباشرة .
إلى آخر انسياب الجسم .
عند ابتداء الذيل المتماوج الطويل .
............................................
قصة : محمد الزنتاني (1993م)
[1] للمزيد حول هذا الموضوع راجع كلا من :
عبدالحكيم
المالكي، سلسلة الدراسات السردية، الجزء الأول، الكتاب انظري للسرديات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق