سلسلة اشتغالات حول نصوص مميزة في القصة القصيرة
فاطمة الناهض قاصة وروائية متميزة وذات أسلوب خاص بها وهي من دولة الإمارات العربية، بدأت بالقصة القصيرة حيث أصدرت مجلدا من ثلاثة مجموعات قصصية عنوانه: كل مائة عام أو أقل قليلا ، ثم دخلت مجال الرواية وكتبت عديد الروايات المميزة. أتناول هنا بالدراسة احد قصصها المميزة وعنوانها (شمة) . كما أرفق القصة مع الدراسة للفائدة.
يمارس الراوي في نصوص فاطمة الناهض القصصية منذ بداية القصة لعبة مميزة، يتمكن من خلالها من السيطرة بالكامل على المروي له تمهيدا إنجاز نصه القصصي. هذه الإستراتيجية تنقسم لعديد الأشتغالات لعل من أهمها وهو ينجز النص القصصي ذلك القول المميز المفاجئ وتلك الشعرية في اللغة التي تكسر حاجز المتوقع والمعتاد لنتابع بداية قصة (شمّة).
يرسم الراوي الشخصية المميزة في نص شمة من خلال ذلك التباين في الصور بين زمنين، في زمن البدايات حيث الطفولة اللاهية ثم زمن الشباب والتحول عن أحلام الطفولة وعبثها إلى وطأة الجسد نجدنا مع نص مميز يرصد التحولات الحاصلة على الذوات عبر الزمن كما يطرح باقتدار ذلك التكوين الاجتماعي لمجتمع النص مع النمو المستمر لتلك الشخصية المميزة شمة.
الراوي يبدأ برسم صورة خاصة للمكان ثم يدخلنا في إطار ألعابه السردية:
"(أ) الظهيرة... هي ما أتذكر.
(ب) حيث كنا نلوب في السكيك مثل الغجر،(ج) وكأن لا أهل لنا يبحثون عنا في هجيرٍ يوزع نفسه على الرمل الساخن وجدران البيوت...(د) في عدالة مثيرة للضجر."
نلحظ مما سبق الإستراتيجيات التي تمّ توظيفها في بداية القصة، إذ لحظة القص الأولى هي اللحظة الأهم في بناء العلاقة بين الراوي والمروي له وفي خلق الشد اللازم لجعل لتدفق النصي منسابا بينهما.
يبدأ الراوي في (أ) بالتأطير الزمني (الظهيرة)، وبتحديد المسافة الزمنية بين زمن حكاية شمة في الماضي وبين الحاضر، يحقق ذلك قوله (أتذكر) الذي يرسم مسافة بعيدة بين حاضر السرد وبين الماضي زمن (شمة) والطفولة.ولنتذكر هنا جمال الماضي في وعينا كلنا.
بعد هذا الدخول نجد صورة الطفولة في الماضي تزداد تجسدا عبر تحديد الإطار المكاني للحدث أو الفضاء المكاني (نلوب في السكيك). ثم نجد في المقطع الثالث رسما للشخصيات من خلال تحديد موقف اجتماعي من لعب الظهيرة (وكأن لا أهل) ولنتذكر كيف تحولنا في المقطع (ب) وما يليه من الرؤية الفردية للراوي إلى رؤية المجموع (حيث كنا) وهي لعبة يتقنها رواة فاطمة الناهض بقوة. بينما نجد إغلاق هذا الدفق السردي من خلال سرد غير متوقع وصورة مميزة حيث يتم وصف شدة تلكم الظهيرة والتهكم الخفي على طبيعة الحر من خلال ( في عدالة مثيرة للضجر). بحيث تضعنا هذه الجملة أمام صورة متكاملة للفضاء المكاني زمن شمة والطفولة.
سنجد المزيد من السرد المميز في المقطع الثاني ونحن نتابع روح ذلك الراوي العابث المتماهي مع عبث الطفولة، والرغبة المستمرة لدى أولئك الصبية في إظهار لامبالاة دائمة تجاه كل الصعوبات:
" (أ) تلك الظهيرات الكسولة (ب) التي نجر فيها خطواتنا المتثاقلة (ج) عبر دروب ترابية ضيقة (د) تتفرع حول البيوت أنهارا سخية من الرمل القاحل.. (هـ) فيما تكون الشمس قد أخذت نصيبها من هذياننا المطلق."
لاحظ في (أ) كيف نعود للتأطير الزمني مع الحضور الكامن والخفي للرؤية من خلال استخدام رؤية المجموع وكلمة (الكسولة) كوصف للظهيرات التي تظهر طبيعة الرؤية الآنية للراوي بروح ساخرة من الماضي.
كما نلحظ صورة الحدث الذي يظهر باستمرار ذلك الوعي الساخر (مع شعور بالهنة والضعف) من خلال صورة جرجرة الأرجل، ثم نجد حضور الفضاء المكاني في (ج) ثم نجد في (د) الصورة الموحية التي ترسم ذلك المكان وتعكس في الآن ذاته عبر صورة المكان وعي الشخصية الساخر يجسده قول الراوي(أنهارا سخية) ثم يستكمل المشهد في (هـ) حيث يزيد الراوي من تحبيب تلكم الذوات للمروي له عبر صورتهم وهم يهذون.
الراوي كما رأينا ينتقل من الزمن للمكان والحدث ثم يرسم بشكل مباشر عبثية الطفولة التي تحقق بناء شخصيات القصة، هذا البناء لا زال في العموم في المقطع الثالث سيزداد المزيد من التخصيص لنتابع الصورة التالية التي تعكس ذلك وتحققه:
"(أ) ثيابنا التي تبدو كما لو أنها خرجت للتو من أفواه قطيعٍ نشط من الأغنام،
تفضح غزوات نصف النهار على سدرٍ فقيرٍ ونخلٍ أشد فقرا.(ب) وربما مطاردات
دؤوبة لكلاب تخاف منا ولا نخاف منها،(ج) تلك الكلاب الضالة التي نلعب معها
بعيدا عن البيوت (د) وندّعي أننا أغتسلنا سبع مرات من نجاسة لعقها لوجوهنا
وأيدينا،(هـ) ونحن نحلف أغلظ الأيمان بأننا ربتنا على رؤوسها فقط، أو اكتفينا
بالنظر إليها من بعيد وهي تلهث في الصهد مثل كائناتٍ منبوذة(ز) تبحث عن ظل
خلف الحوائط وتحت الإثل وأشجار لوز عجفاء (ح) لا ندري كيف نمت في هذا
القحط الأشد مهارة من أي محاولة آدمية للحياة."
نجد الراوي يدخل هنا في اشتغالات أكثر تميزا، لنلاحظ صورة الثياب التي يرسمها وعي الشخصية حيث ينطلق فيها الراوي من الوعي الجمعي للمجموع في تلك القرية حيث الغنم كائن حاضر في الذهن (من أفواه قطيعٍ نشط من الأغنام) بينما يرسم الراوي حركات الطفولة العابثة من خلال التماهي الساخر مع وعيها وهو ما يتحقق من خلال ( تفضح غزوات) كما نجد الزمن والمكان من خلال صورة الحر الذي يعكس الزمن والمكان.
بينما يضعنا الراوي في مقطع (ب) في طبيعة تلك الذوات الطفولية وما تخاف منه وما لا تخاف منه (...الكلاب تخاف منا ولا نخاف منها) بينما منذ المقطع (ج) سنصبح في صورة تعكس بعد قيمي وثقافي للقرية كما تمتلك شعرية نتيجة لروح التواتر التي تؤطر ذلك الفعل كله، إذ لا زلنا نقع هنا تحت إطار تلك الظهيرات التي بدأ بها الراوي قصته. في المقاطع (ج، د، هـ) تطرح أمامنا قيمة الكلب ثقافيا وكونه نجسا وحرص السر المسلمة والعربية على تطهير ما لعقه الكلب سبع مرات هذا المكون الثقافي يطرح بشكل تلقائي عفوي ضمن سرد تواتري ترددي يحقق المزيد من الجمال للخطاب المنتج، بينما يتحقق في المقطع (و) والمقطع (ز) تأطيرًا اكبر للفضاء المكاني من خلال تركيز عدسة السرد على الأمكنة التي تسعى الكلاب للبحث عن ظل فيها ثم في (ز) نجد نهج الأسئلة في السرد وهو ما يحقق تحفيزا للمروي له من خلال (لا ندري كيف نمت في هذا القحط) ويحقق هذا الأسلوب السردي نوع من رفع الحرج يدعيه الراوي ليظهر عدم مسئوليته عن القول بنمو الشجار في الظهيرات الحارة. وهو ما يحقق في الآن نفسه المزيد من حضور الفضاء المكاني للأحداث بشكل غير مباشر أمام المروي له.
بينما سيكون علينا في المقطع الرابع من مقاطع هذه القصة أن نتعرف على أزمة هذه القصة وهي شخصية شمة البنت التي كانت تصاحب الأولاد
"(أ) لم يعبأ أحد حقا لماذا كانت شمّة دائما خلفنا،(ب) لماذا تركض في تلك الظهيرات كأنها ولد نحيل (ج) وجديلتها السوداء تشطر الهواء وراءها(د) وهي تسابقنا إلى الدكان الوحيد، أو البيت المهجور، أو حتى جبل الحصى الصغير خلف المسجد."
في المقطع (أ) نحن نتعرف على بداية عقدة هذه القصة من خلال نهج الأسئلة في السرد كذلك يضيف السؤال في (ب) المزيد من الحضور لشخصية (شمة) البنت التي تصاحب الأولاد مع تحديد زمني وتواتر. بينما في (ج) نحن مع صورة شبه فانتازية ترسم ما يتخيل من فعل جديلة شمة الممتدة خلفه بسبب جريها المفرط.
في (د) نتابع صورة المكان عبر حركة الشخصية ضمنه فنعرف أن في تلك القرية دكان واحد وبيت مهجور ومسجد وراءه جبل حصى.
بنفس التناوب تقريبا نبدأ بالزمن الذي يتم تحديده وهو زمن الظهيرة وترسم الأحداث متواترة ثم نجدنا مع صورة أخرى للفضاء المكاني تكمل المقطع وتؤسس للخافيات القديمة التي يحاول الراوي عبر الشخصية المستذكرة أن يتذكره.
في المقطع الخامس تعبير واضح عن حضور شمة كزميل لعب لا كأنثى، أي كولد،
مع الراوي وما يسرده ندرك بشكل غير مباشر حالة الطفولة وأحلامها وأوهامها الصغيرة ومغامراتها في تلك الأزمنة الغابرة زمن الراوي المتذكر وزمن شمة رفيقة الصبيان، لنتابع هذا المقطع الخامس لنجد ذلك التأكيد من الراوي الذي يسرده بثقة من خلال رؤية المجموع التي يعتمدها:
"(أ) تقبّلناها كواحد من الصبية لأنها كانت تشبهنا،(ب) عفّية وعداءة ومجنونة مثلنا..(ج) حتى في حبّها للكلاب الضالة وتسلق الأسوار والركض حافية على الرمل الساخن.(د) بل إن اللعب لا يكتمل إلا بحضور شمّة، التي لم يفكر أحد منا أنها ليست ولدا.. ولا لمرة واحدة.. وهو يدفعها أو يقع فوقها في عراك أو حتى وهو يشد جديلتها الفخمة لتسوية نزاع."
نتابع في (أ) رؤية الأولاد كلهم لشمة مسرودة من خلال كلام الشخصية، ثم نجد ثم في (ب) نجد اوصاف تبه فيها شمة الأولاد وهي تمثل مجموع المكونات التي يعتز بها هؤلاء الصبية كذلك نجد التشابه في التصرفات في (ج) فهي مثل الأولاد في ركضها الحافي وفي حب الكلاب ثم يكتمل السرد وتكتمل صورة شمة رفيقة الأولاد من خلال تأكيدات الشخصية.
ستتطور قصة شمة وما يحصل لها ونجدنا أمام لحظة متفردة خاصة فيها ينتبه الرفاق لكونها مختلفة عليهم:
"(أ) لكن يوما أتى ليعلن أنها بنت، ولا تشبهنا أبدا أبدا.
(ب) افتقدناها جميعا ذات صباح غائم،(ج) وحين سألنا عنها مرة أو مرتين جوبهنا بتلك الشراسة المعهودة لدى الأهل حين يتعلق الأمر بالبنات اللواتي يكبرن فجأة على اللعب (د) لمجرد أنهن لن يستطعن الركض دون أن ترتفع صدورهن وتهبط ناشرة الفتنة والضياع وخيوط اللعاب على وجوه المارة وطالبي القرب."
يبدأ الراوي عبر التلخيص في (أ) ليضعنا في تعقد مسار الأزمة ثم التشخيص لكيفية حصول ما حصل في (ب) ثم نجدنا في (ج) مع سرد ما أعتيد عليه من الجماعة عند بعض الظروف (جوبهنا بتلك الشراسة المعهودة لدى الأهل حين يتعلق الأمر) ثم في (د) نجد صورة الراوي وهو يرسم بشكل عام صورة لتحولات الأنثى هي في الحقيقة عاكسة لوعي الشخصية المتكلم.
سيكون علينا أن ننتقل فيما يلي من السرد التواتري المقترن برؤية الجماعة إلى السرد الفردي والرؤية الفردية لنتابع هنا هذه النقلة ونحن نجد هذا التحول :
" لكنني رأيت شمَّة. رأيتها وحدث لي ما حدث لها. قفز قلبي ولم أدر أين حط.
ولم أعد قادرا على الكلام أو أعرف لماذا طرقت بابهم تلك الظهيرة. كانت غرّتها
تقف عند هلالين بديعين يرتفعان فوق رموش ظليلة فاحمة لعينين لم أر مثل
عسلهما منذ جئت إلى هذا العالم. وبدا أنفها الصغير الرقيق شامخا أعلى شفتين
محمرتين وبين وجنتين صافيتين كخزف صيني باهر."
سنتحول مع تحول السرد من الرؤية الجماعية إلى الرؤية الفردية ومعها نجدنا أمام ذاتية الشخصية التي يتم تبئير وعيها، ومع ارتفاع نسق الوصف وتوظيف الصور المميزة ومن التقنيات التي تحدثنا عليها على مستوى السرد نجد ما يلي :
طرح الرؤية عبر نهج الأسئلة في السرد:
"وعدت إلى بيتي مباشرة في تلك الظهيرة الظالمة لا أعرف ما بي وما الذي جعل شمّة تفوح بالحنّاء هكذا والليمون الأخضر، وتستدير كفاكهة نادرة.
كيف أصبح شعرها ناعما فجأة ورموشها وارفة وعيناها بلون العسل"
إننا ندرك عبر الأسئلة السابقة أن القصد ليس السؤال ولكن وضع المروي له في إطار صورة وصفية للشخصية تعكس بشكل غير مباشر رؤية الشخصية الذي يتم عبوه لتحقيق السرد.
سرد النفي لرسم صورة الشخصية وطرح رؤية خاصة للرائي:
"لم تكن تلك المجنونة التي تركض في الظهيرات اللاهبة (...) وتخلي عني قلبي، وتبعها مثل كلب ضال. رمقته بنظرة حنان ذات يوم."
نلحظ فيما سبق كيفية السرد من خلال النفي هذا النفي يستحضر إرثا متواترا تم فيما سبق تأسيسه ثم نجد صورة أخيرة تعكس الوعي العميق لذات تلك الشخصية المهووسة بالكلاب في كل لحظاتها بل وتبدو خلفها فكرة ثقافية خاصة عن الكلب.
سرد عدم التأكد لرسم الأحداث :
نجد هنا السرد مع عدم التأكد الذي من خلالها الراوي يطرح أسباب محتملة لحدث ما. لنتابع هنا كيف يرسم لنا عبر حالات عدم التأكد إمكانيات مختلفة تسببت في عدم تمكنه من الزواج:
"ربما اعتمدت على الوقت. ربما عطّلني رحيل أمي المفاجيء إلى الجنة دوني، ربما قررت أن أصبح جديرا بها أولا. ربما فكرت أنها تعرف.. أو أنها ستنتظرني.. أو أسرفت في الخيال بأنها لا شك مأخوذة بي مثلما أنا مغيّب بها."
قصة شمّة
الظهيرة... هي ما أتذكر.
حيث كنا نلوب في السكيك مثل الغجر، وكأن لا أهل لنا يبحثون عنا في هجيرٍ
يوزع نفسه على الرمل الساخن وجدران البيوت... في عدالة مثيرة للضجر.
تلك الظهيرات الكسولة التي نجر فيها خطواتنا المتثاقلة عبر دروب ترابية
ضيقة تتفرع حول البيوت أنهارا سخية من الرمل القاحل.. فيما تكون الشمس قد
أخذت نصيبها من هذياننا المطلق.
ثيابنا التي تبدو كما لو أنها خرجت للتو من أفواه قطيعٍ نشط من الأغنام،
تفضح غزوات نصف النهار على سدرٍ فقيرٍ ونخلٍ أشد فقرا. وربما مطاردات
دؤوبة لكلاب تخاف منا ولا نخاف منها، تلك الكلاب الضالة التي نلعب معها
بعيدا عن البيوت وندّعي أننا اغتسلنا سبع مرات من نجاسة لعقها لوجوهنا
وأيدينا، ونحن نحلف أغلظ الأيمان بأننا ربتنا على رؤوسها فقط، أو اكتفينا
بالنظر إليها من بعيد وهي تلهث في الصهد مثل كائناتٍ منبوذةٍ تبحث عن ظل
خلف الحوائط وتحت الإثل وأشجار لوز عجفاء لا ندري كيف نمت في هذا
القحط الأشد مهارة من أي محاولة آدمية للحياة.
لم يعبأ أحد حقا لماذا كانت شمّة دائما خلفنا، لماذا تركض في تلك الظهيرات
كأنها ولد نحيل وجديلتها السوداء تشطر الهواء وراءها وهي تسابقنا إلى الدكان
الوحيد، أو البيت المهجور، أو حتى جبل الحصى الصغير خلف المسجد.
تقبّلناها كواحد من الصبية لأنها كانت تشبهنا، عفّية وعداءة ومجنونة مثلنا..
حتى في حبّها للكلاب الضالة وتسلق الأسوار والركض حافية على الرمل
الساخن. بل إن اللعب لا يكتمل إلا بحضور شمّة، التي لم يفكر أحد منا أنها ليست
ولدا.. ولا لمرة واحدة.. وهو يدفعها أو يقع فوقها في عراك أو حتى وهو يشد
جديلتها الفخمة لتسوية نزاع.
كل مائة عام أو أقل قليلا فاطمة الناهض
لكن يوما أتى ليعلن أنها بنت، ولا تشبهنا أبدا أبدا.
افتقدناها جميعا ذات صباح غائم، وحين سألنا عنها مرة أو مرتين جوبهنا بتلك
الشراسة المعهودة لدى الأهل حين يتعلق الأمر بالبنات اللواتي يكبرن فجأة على
اللعب لمجرد أنهن لن يستطعن الركض دون أن ترتفع صدورهن وتهبط ناشرة
الفتنة والضياع وخيوط اللعاب على وجوه المارة وطالبي القرب.
لكنني رأيت شمَّة. رأيتها وحدث لي ما حدث لها. قفز قلبي ولم أدر أين حط.
ولم أعد قادرا على الكلام أو أعرف لماذا طرقت بابهم تلك الظهيرة. كانت غرّتها
تقف عند هلالين بديعين يرتفعان فوق رموش ظليلة فاحمة لعينين لم أر مثل
عسلهما منذ جئت إلى هذا العالم. وبدا أنفها الصغير الرقيق شامخا أعلى شفتين
محمرتين وبين وجنتين صافيتين كخزف صيني باهر.
هبطت نظرتي الوجلة إلى الارض. لكنها مرت قبل ذلك على بساتين وكروم.
وكان قلبي يرتجف عند قدمي، حين همست بأجمل صوت تستحثني على
المغادرة، وتضع في يدي قبضة من أوراق الليمون!
وغادرت ساهما، ويدي مطبقة على الأوراق. ولم أقل شيئا.
حتى إني تركت قلبي هناك ولم أجرؤ على أخذه معي، وعدت إلى بيتي مباشرة
في تلك الظهيرة الظالمة لا أعرف ما بي وما الذي جعل شمّة تفوح بالحنّاء هكذا
والليمون الأخضر، وتستدير كفاكهة نادرة.
كيف أصبح شعرها ناعما فجأة ورموشها وارفة وعيناها بلون العسل، وهي
التي كانت حنطية نحيلة غبراء حافية بجديلة تركض في الهواء بلا اتجاه.
لم يعد للعب طعم؛ للظهيرات شغف؛ للكلاب أهمية؛ للعدو معنى، كأن شمّة
أخذت معها كل شيء إلى بيتها. وتركتنا نصطدم ببعضنا كأننا في مكان مزدحم.
وأنا أيضا، حدث لي ما حدث لشمّة على ما أظن. بعدها بقليل. لكنني لم أصبح
في مثل حسنها ورائحتها الزكية وحمرة خديها. بل إنني شمخت ذراعا، وصار
أنفي مثل عرنوس الذرة، فيما استطالت يداي وذراعاي باتجاهات لا علاقة لها
بجسدي. واستحالت وسامتي الطفولية إلى شيء لا يمكن الخروج به حتى
لمطاردة الكلاب.
كل مائة عام أو أقل قليلا فاطمة الناهض
واحتلّت شمّة فوق كل هذا الضياع ظهيراتي والليالي. بل إنني حلمت بها
مرتين. وجربت حتى أن أدخّن في غفلة من الأهل، وأنا أستحضرها بين الدخان
الأزرق وسعال المبتدئين.
بعد أن حدث لي ما حدث، لم تعد زيارة شمّة ممكنة ولا لأي سبب. ليس بهذا
الطول على أي حال، ولا هذا الوجه!
ثم جاءت المعجزة. جاءت بقدميها. وأنا مرابط في غرفتي لا أخرج إلا
لضرورات ملحّة، بعد أن تركني الأهل وشأني، ريثما يكشف الرب هذه الغمّة
التي اسمها الرجولة، ويحنّ على بسماحة الوجه وتناسق الحركات!
أقول جاءت المعجزة بقدميها.
مرضت أمي وعادتها شمّة وأمها. وأنا وكما لا يجدر برجل أن ينظر إلى أنثى
لا تحق له، لم أنظر من شق باب ولا ضلفة نافذة مواربة، بل مررت على أكوام
من السواد في طريقي إلى الأمان، كما يليق برجل يترك البيت لنساء يأخذن
راحتهن، فيتبعثرن مثل ورد غض ورياحين. وتفاصيل تأخذ بالألباب، وتجرح
النسيم، غير عابئات بالأنفاس التي تترصد الهواء الخارج من صدورهن، والملبد
بروائح المشموم والياسمين الهندي ودهن العود.
قلت فقط: "درب.. درب". وبصوت بالكاد أعرف من أين خرج، لكنه هزّ
جدران المنزل كزلزال مفاجئ.
كان الوقت عصرا، يغذ السير إلى الغروب، حين خرجت هي ووالدتها إلى
بيتهما.
لم تكن تلك المجنونة التي تركض في الظهيرات اللاهبة. كانت مشيتها الملفوفة
بالسواد واثقة من قدرتها على ليّ الأعناق. فالتوي عنقي، وهي تخصني بابتسامة
خائفة وبخيلة، وتخلي عني قلبي، وتبعها مثل كلب ضال. رمقته بنظرة حنان ذات
يوم.
كنت أجبن من أن أتحرك؛ من أن أقول لها بأنني.. مجنون بها.. وأنني لا أنام
إلا وأنا أفكر بأنها إلى جانبي، ناثرا ورق الليمون الذي يبس على فراشي، وماض
في أيامنا البريئة في هجير بعيد، وبرد قارس يغوص في مفاصل الأيام.
كل مائة عام أو أقل قليلا فاطمة الناهض
ربما اعتمدت على الوقت. ربما عطّلني رحيل أمي المفاجيء إلى الجنة دوني،
ربما قررت أن أصبح جديرا بها أولا. ربما فكرت أنها تعرف.. أو أنها
ستنتظرني.. أو أسرفت في الخيال بأنها لا شك مأخوذة بي مثلما أنا مغيّب بها.
وهكذا، صارت شمّة من نصيب غيري. ذات ليلة لم يتوقف فيها دق المعازف
حتى الصباح. وتركت ذلك الضال قلبي يلوب في السكيك البعيدة. محاولا - -
اجتياز معابر الخيبة المبكرة، لحب صغير لم تكتب له النجاة.
لكنني وأنا أحاول أن أتخفف من مثاقيل الحسرة كل يوم، بعيدا عن السكيك
والفرجان وصهد الذكريات، لم أعد أعرف بماذا أدعو شمّة. وهل من المسموح
أن أنظر إلى غرتها أم حنّاء قدميها، أو كيف أحلم بها وهي على بعد حائط طيني
تفوح بالليمون الأخضر والغموض، وتلتحف ظل أبي كل ليلة، بينما أتضور في
الظلام مثل كلب يحتضر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق