الجمعة، مايو 11، 2018

التفاعل النصي في نصوص خليفة الفاخري



سلسلة اشتغالات حول نصوص مميزة في القصة القصيرة (13)
التفاعل النصي في بعض نصوص الأستاذ خليفة الفاخري: موسم الحكايات. 
يتميز خليفة الفاخري -على الرغم من كون كتابته تنتمي غالبا لمرحلة الستينات وأول السبعينات- بوعي فني مميز، فهو يوظف بدقة تقنية العتبة السابقة للنص التي توجه الدلالة لأفق غير الأفق الظاهر على المستوى السطحي. تابعنا في هذه الدراسة توظيفه للعتبات كلك ما يعرف بالنص السابق والنص اللاحق في السرديات.



أولا.عتبات نصوص (موسم الحكايات) لخليفة الفاخري[1]

يتميز خليفة الفاخري  -على الرغم من كون كتابته تنتمي غالبا لمرحلة الستينات وأول السبعينات- بوعي فني مميز، فهو يوظف بدقة تقنية العتبة السابقة للنص التي توجه الدلالة لأفق غير الأفق الظاهر على المستوى السطحي، لنتابع ذلك في قصة الرجال.

عتبة قصة "الرجال":

سنجد في قصة الرجال لخليفة الفاخري العتبة التالية المنقولة عن هيمنجواي
"ولكن الإنسان لم يخلق للهزيمة، الإنسان قد يُدمَّر ولكنه لا يُهزَم!" همنجواي"[2].
       يتم استخدام العتبة السابقة المنقولة من همنجواي المعروف برسمه للشخصيات الإنسانية لغرض خلق شخصية إنسانية داخل قصة الرجال لـ"خليفة الفاخري" حيث نجد شخصية "خالد" السائق الذي يبدو نمطاً لشخصية البطل ويتم رسمه عبر عين مرافقه الذي يدخل للصحراء لأول مرة. لنتابع هنا نهاية القصة وصورة البطل:
"الصحراء مجرد جحيم ليس غير.. جحيم على مدار السنة!!.
ثم حك رأسه متطلعاً إلى مركبة قادمة من بعيد، وقال:
-  لقد تهت من قبل ثلاث مرات.. وامتلأ وجهي بالقروح من أثر الشمس، وتشققت شفتاي.. وغامت كل الأبعاد في عيني.. وتقلصت حتى لم أعد قادراً على الرؤية.. ولكنني كنت حسن الطالع.. على أي حال تأكد أن الحظ المسعف يكون بجانبك مدى الحياة برغم كل ما يقال.. إلا إذا مت، فعندئذ تدرك – بطريقة ما– أنه تخلى عنك فجأة!!
وسوّى قلنسوته فوق رأسه.
كان ثمة عقرب سوداء الرأس تسرح عند قدمي المساعد الصغير، وقد داس عليها خالد، وشرع يسحقها بعنف، حتى إذا واصلنا المسير أشار إلى المركبة القادمة قائلاً:
-  هؤلاء هم العمال العائدون إلى المعسكر من إجازاتهم! ولقد لوحوا لنا جميعاً فيما كانوا ينشدون أغنية مبهجة"[3].
إننا كما نرى أمام تمازج بين العتبة السابقة للنص وبين حكاية هذه القصة هذا التعاضد يؤكد على الرؤية التي يؤسس لها الكاتب –باعتبار أن المستوى النصي يحيل دائما على الكاتب.

عتبة قصة "غربة"

       نجد في هذه القصة المقطع المنقول عن "دستوفسكي" الروائي الروسي المشهور بشخصياته المتأزمة نفسيا نجده في قصة غربة:
"أتفهم يا سيدي؟.. أتفهم معنى ألا يجد المرء مكاناً يلجأ إليه على الإطلاق؟!" ديستوفسكي."[4].
       نجد في قصة غربة استفادة من النقلة من التراث الأدبي حيث "ديستوفسكي" يحيلنا على الشخصيات التي تشعر بألم الغربة. لنتابع هنا نهاية هذه الحكاية:
"وأقبل الليل..
أقبل الليل بلا قمر.. وتشاغل الأولاد بتصيد الفئران المارقة من تلك الفرجة في باب دكان العجوز عثمان.. كانوا يحملون عصيا ًومكانس.. وكلما سحقوا فأراً تعالى صياحهم.. ولقد شعر باستياء وتقزز، وكان يلوي عنقه تجاه نوافذ العمارة المقابلة.. النوافذ الوردية المضيئة، إلى أن تقادم الليل.. وانفض الجميع، على حين بدأت النوافذ تنطفئ.. وتنطفئ، حتى بقيت تلك النافذة العليا التي عندما قام من مكانه وسار بضعة خطوات، انطفأت هي الأخرى.
وإذ غيبه الطريق المظلم بعدئذ، أيقن أنه مجرد غريب.. غريب ليس غير!!"[5]

قصة عيون الكلاب الميتة:

       ينقـل الكاتب هنا مقطعاً لـ"ألبيـر كامو" في قصة (عيون الكلاب الميتة)
"قد يبكي الرجال لكثرة القبح في الحياة.."[6].
وهو هنا يحقق عبر إحضار هذا المقطع وضعنا في ملخص حقيقي لبؤرة القصة وما تحكيه، كما أنه يجهزنا لتقبل الشخصية التي عانت باستمرار.     لنتابع المقطع الأول هنا من هذه القصة:
"كان القمر يخوض حتى ركبتيه في مستنقعات السماء.. وكانت العيون مفغورة الشفاه.. راكدة مثل عيون الكلاب الميتة.. وكان الليل موحشاً كمقبرة قديمة.. والنهار كذلك.
وفيما امتلأ زجاج نافذتك بعروق المطر.. وارتفع صوت الضفادع عبر الغدران.. والنباح الضال، ظللت يا سيدي تقرض الكتب مثل فأر شره مثابر.. وتزرع الكلمات في قلبك مباشرة أمام الضوء الواهن المنبث من مصباحك العتيق ورغرغة الشاي فوق الجمر المغلف برداء ضبابي في زاوية الغرفة"[7].
       إن الكاتب يدخلنا عبر صوره الخاصة السابقة في عمق الشخصية، ويرسم بطريقة غير مباشرة آلامها عبر كلمة (مستنقعات، عيون الكلاب الميتة، موحشاً كمقبرة).
       إن كل ذلك يضعنا أمام ذات الفنان المتأزمة، فيما يستخدم العتبة المقطوعة من الأدب العالمي لعقد اتفاق حول طبيعة النص والشخصيات مع القارئ، وحتى يكون العنف والألم الموجود والظاهر عبر الكلمات مقبولاً. وينتهي التماهي بين المقطع المنقول من كتابة لـ"ألبير كامو" الروائي الفرنسي ليظهر في آخر القصة ألم الشخصية الذي فشل في أن يكون متآلفاً مع مجتمع الرفض والقبح:
"وعلى هذا فإن كلماتك ستذروها الرياح إلى قاع السعير مثل الخطاة تماماً. ستظل باردة جوفاء مسودة كخنافس من الخزف.. ستظل مطفأة راكدة مثل عيون الكلاب الميتة وسيظل القمر يخوض حتى ركبتيه في مستنقعات السماء.. وستظل أنت مجرد فأر ينتفض في منقار بومة!!
فاطفئ مصباحك..
يا سيدي، اطفئ مصباحك إلى الأبد.. ودع الخفافيش تذرع الأجواء كما تشاء!!" [8].
       إن المقطع التراثي هنا وُظِّف لجعل الشخصية مقبولة وكل ما يقع منها جائز.

ثانيا: التفاعل بين النص السابق والنص اللاحق ضمن نصوص خليفة الفاخري

سنجد في نصوص خليفة الفاخري حضور مقاطع من السرد القديم العجائبي كما في قصص ألف ليلة وليلة وكذلك حضور التاريخ وغيره لنتابع هنا هذه القصة المكونة من السرد العادي مع السرد العجائبي الذي يمتح من حكايات ألف ليلة وليلة وسنلاحظ كيف ساهم السرد القديم في بناء النص الجديد

قصة "ليالي شهرزاد":
       ركّب الكاتب هذا النص من قصتين وكان يقوم بعرضهما بالتناوب، الأولى قصة شهرزاد وما تحكيه للملك شهريار، والثانية قصة ولد وأمه ثم حكاية إصرار أمه على زواجه.
       استفاد الكاتب من المقاطع التي كتبت بنفس نمط قصص ألف ليلة وليلة أن يجعل تجانساً بين المحكي القديم الموجود في قصص ألف ليلة وليلة والمحكي الجديد الذي يتميز خطابه ضمنه بالنمط الساخر. لنتابع هنا بداية القصة على لسان شهرزاد التي تحكي عن ابن السلطان الذي أغرته (الغولة) للدخول لبيتها:
"وقالت شهرزاد في الليلة الخامسة:
.. وخرج ابن السلطان في رحلة صيد..
كان بمفرده، ولقد لمح وعلاً ضخماً فيما كان جواده الأشقر يذرع به ذلك السهب المترامي الأبعاد.. وما أن انطلق خلفه حتى فر الوعل مثل سهم"[9].
وتمضي شهرزاد في حكايتها عن لقاء الأمير بالفتاة الجميلة التي أخذها لبيتها وعَلِم هناك أنها ستأكله:
".. وقالت شهرزاد:
وحملها ابن السلطان على جواده، حتى إذا وصلا إلى طاحونة مهجورة عتيقة، استأذنته الفتاة في أن تغيب لحظات هناك. وإذ استبطأها بعدئذ، اقترب من الجدار المتآكل، ورآها تحدث أطفالاً ذوي آذان طويلة.. وقرون محمرة!. كانت تقول لهم:
-      أتيتكم  اليوم بفتى سمين.. سوف تلتذون كثيراً بأكله!.
وذهل ابن السلطان، ذلك أنه أدرك فجأة أن الفتاة التي تخيل منذ قليل أنه سيتزوجها، كانت مجرد غولة حقيقية مفجعة!!"[10].
ثم ننتقل من حكاية شهرزاد للراوي الذي يستلم زمام السرد ويحكي للشخصية مخاطباً إياه بما في عمقه من أشياء:
".. وأدرك شهرزاد الصباح!.
فماذا كنت أريد أن أحكي لك؟
حسناً، لقد تمنيت طويلاً أن تتزوج.. أن تحتضن جدران غرفتك الباردة فتاة دافئة، ذات حديث شيق.. طري الحروف مثل شهرزاد تماماً.. وكانت والدتك أيضاً تترقب ذلك، متعهدة بأن تجعل من عرسك مهرجاناً فخماً باتساع البلاد كلها.. وكانت تطلق زغرودة حينذاك إلى حد يكاد ينصفق فيه باب الغرفة!"[11].
       إن التماهي الحاصل بين قصة الحاضر، وبين قصة التراث سيتضح عندما يكتشف الشخص الرئيسي أن الأنثى تشبه تلك الأميرة في القصة أو أن الزواج مصيبة، ستبدأ الأم في دعوته للزواج حتى يتزوج وقد أصبح منهكاً بالدَّيْن وتزوج، ويبدأ في تجرع الخيبات.
       سنعود لقصة التراث أو لشهرزاد وقصة القصر والرجال العور – من العين اليمنى– ويظل هاجس البحث عن سبب ما حصل لعيونهم هو الذي يدفعه حتى يصل لقصر الأميرات وهناك يخترق المحظور:
"كان في القصر أربعون فتاة، وقد قلن له على الفور:
-  نحن نود أن تمكث معنا.. إننا نتغيب أربعين يوماً كل سنة، وأنت ستبقى حينذاك وحدك في القصر إلى أن نعود.. إنك ستجد كل ما تريد معنا!.
وعندما أطلت السنة الجديدة، قلن له أن ثمة في القصر أربعين غرفة ثرية. وأن الغرفة الأخيرة هي الوحيدة فقط التي يجب ألا يدخلها.. وحذرنه كثيراً، ثم طرن تباعاً عبر النافذة المقابلة.
وقالت شهرزاد:
أنه فتح كل الحجرات ما عدا تلك الغرفة، ولقد أكله الفضول فيما كان واقفاً في حيرة قاهرة أمام الباب، ومن خلال لحظة نزق مفرطة الحمق، أدار المفتاح في الثقب بوجل.. وتسرب إلى الداخل.
كان ثمة فرس سوداء عليها سرج موشّى بالذهب، وكان أمامها إناءان كبيران من البلور، أحدهما به سمسم مقشر والآخر به ماء ورد، وما أن امتطى تلك الفرس العجيبة ولكزها حتى صهلت كالرعد، ثم أفردت جناحين هائلين.. وطارت به.
وقالت شهرزاد:
.. وحين هبطت به بعد ذلك، صفعته بذيلها على وجهه حتى فقأت عينه اليمنى.. وأسالتها على خده!
.. وأدرك شهرزاد الصباح!!"[12].
       ننتقل من المقطع السابق العجائبي المنقول من قصص ألف ليلة وليلة لنجد الراوي هنا يخاطب الشخصية بنفس نمط مخاطبة شهرزاد لشهريار. ويتم سرد وضع البيت بعد دخول الأنثى وبعد اكتشاف الشخصية (المروي له) لحقيقة العلاقات الأسرية وبعد أن يجد نفسه منهكاً من الدَّين. يأتي هنا الراوي ليشبّه حالته هذه بواقعة من تراث شهرزاد أيضاً.
       هنا الراوي يخاطب الشخصية ويحدثه عن وضعه الحاضر، إنه بذلك يرسم أمامنا عبر السرد حالته في سخرية عميقة لا تخفى:
"وتنهار كل الأحلام.
فأنت لا تستطيع بأي حال أن تترك والدتك لتعيش في بيت بمفردها مثل بومة.. كما لا تستطيع أن تنام ليلة واحدة دون أن تحرق قلبك أقساط ديونك.. وسياط أمك.. وشكوى زوجتك.. ونحيبها المتصل.. وكلماتها الشائكة إلى حد شعرت فيه مراراً كأنك تنام مع قنفذ!!"[13].
ثم بعد ذلك نجد من التراث (التاريخي/ الأدبي) قصة تروى على لسان شهرزاد تكون خاتمة الحكاية:
".. قالت شهرزاد:
-  إن الرجل الذي أراد أن يعيش في جزيرة المرجان، قد طابت له الريح بضعة أيام، ثم وفدت على قاربه بعدئذ ريح معادية من ناحية الشرق.. أجل، من ناحية الشرق.. ومزقت الشراع وطفقت تثير الأمواج على نحو حاقد إلى أن أخذت تلطم القارب تجاه جبل (المغناطيس) الرابض تحت سطح البحر..
وقالت شهرزاد:
-  إن الجبل شرع يمتص كل المسامير من جسد القارب حتى ظل في وسع الرجل أن يلمح قاربه بهلع مفجع، قد أصبح بعد قليل مجرد ألواح تطفو خلال تدافع الأمواج الهمجية!.. وقالت أن الرجل كان يغيب بين حين وآخر في قاع البحر، ثم ينبثق مزرق الوجه شره الأنفاس..
.. وقالت أنه لم يكن في إمكانه أن يبكي..، ولقد بدا مثل عصفور يطير عبر المطر!
وأدرك شهرزاد الصباح!!"[14].
       إن المقطع السابق يرسم نهاية قصة ليالي شهرزاد ونلحظ فيه كيف تمّ إيراد مقاطع كاملة من النص السابق ووضعها داخل النص وتوظيفها في تحريك بنية الحكاية وجعلها متماسكة وأكثر فعلاً على قارئها وهذا النمط من التداخل النصي يعد نادراً في رصيد القصة الليبية إذ أن غالب التوظيفات كانت تأتي من خلال دخول شخصية أو حكاية ضمن النص أو أن تكون عتبة (كلمات في مدخل) لقصة أو لفصل من فصول رواية.

قصة "فخاخ على طول الطريق":
       يُحضِر الكاتب في قصة فخاخ على طول الطريق حكاية السندباد والمدينة التي تحجرت. هذه الحكاية تأتي هنا لتكون مادة لختام القصة وهي ذات بعد السياسي، حيث التماهي بين فعل الساحرة في قصة السندباد التي حولت المدينة لأنصاب حجر وحولت نصف الرجل الصارخ لسمكة، بحيث أصبحت مع الحاضر وتصبح الحكاية السابقة أداة لرسم حقيقة الدولة وما تفعله. لنتابع بداية القصة:
"   - أنا يا سيدي لست كذلك.. كل ما هنالك أنني كنت ذاهباً بعربتي مع صديقي هذا إلى المصيف.
هكذا قلت للشرطي الذي بدا مزهواً للغاية حين سألني على الفور:
-      وماذا تفعل في هذه الشركة الآن..اه؟
وخيل له أنه اقتنصني، ولكني أجبته بصدق:
-  إن صديقي يشتغل هنا وقد أضاع مفتاح بيته منذ قليل، وجئت به إلى هنا بعدما أخبرني أن لديه مفتاحاً آخر بدرج مكتبه.. في وسعك أن تسأله أيضاً.
وصرخ فوق أنفي مثل لذعة سوط:
-  لن أسأل أحداً، إنني أعرف تماماً أنكم جئتم إلى هنا من أجل الإضراب وتوزيع المناشير.. سترون.. سترون!
-      ولكن اليوم يوم أحد، وليس بالشركة أي موظف أو عامل سوى الخفير، فكيف أدعو إلى الإضراب؟
-      أسكت!
-      تستطيع أن..
-      قلت لك: أسكت!
كان ذلك في يوليو.. في السنة الماضية.
ولقد قدمت بعدئذ عربة مكتظة برجال الشرطة على إثر المكالمة التليفونية التي أجراها الخفير.."[15].
       وبعد أن تورط الرجل وصديقه في السجن السياسي، سنجد أن السبب في السجن هو الإضراب والمنشورات التي توزع ضد اليهود:
"وفي الطريق قال لي أحدهم:
-      هل تتوقعون أنكم ستهزمون اليهود حين تدعون إلى غلق المتاجر؟
وما أن واصلت صمتي دون أن أرد عليه، حتى اقتنع تماماً بأنني مجرم حقيقي، وقد تطوع بدفعي من السيارة بعنف حين وصلنا المركز، ثم أهداني لكمة أخرى في ظهري ليريني الطريق إلى الداخل"[16].
       إن السرد سيستمر فيما يقطعه من الحين للآخر الحوار الذي يرسم وضع السجن وما يلقاه السجناء، حتى نجد يتحرك وعي الشخصية نحو قصة السندباد الأسطورية وجعلها مادة يتم عن طريقها توجيه أفق دلالة لخطة التنوير النهائية في القصة:
"وخيل لي أنه ابتسم ابتسامة مريرة خلف ستار الظلمة قبل أن يقول:
-      أشعر كأنني دجاجة معبأة بالقمل في قفص ضيق متسخ.
وبدا لي أن أعماقه قد انفرجت قليلاً، فقلت له:
-      ما رأيك في هذا المصيف الذي جئنا إليه؟
-      رائع.. رائع، تمتع بهذه الرمال الدافئة!!
كذلك هتف من الركن المقابل.. ثم سكت، على حين انطلق خاطري على جناح أسطورة:
وتهالك قارب السندباد في مرفأ مدينة بعيدة.. وإذ ألقى مرساته هنالك، ودخل المدينة، وجدها قد مسخت حجارة: كل الرجال، والصبايا والأسواق، والسلع، والفواكه كلها.. كلها أصبحت حجارة. وفيما عقدت الدهشة أهدابه العليا بحاجبيه، سار عبر الطريق بخطى فزعة إلى أن وجد نفسه أمام قصر مذهب، واشرأب عنقه داخل الباب ثم قادته قدماه إلى الساحة المترفة بالضوء والهدايا، ووجد رجلاً قابعاً هناك، مقيداً بالأغلال داخل قفص، بينما تحول نصفه الأسفل إلى سمكة. وما أن لمح السندباد حتى طفق يبكي قائلاً:
-  إن زوجته تخونه مع عبد أسود ضخم مثل دب هائل، وإنه لما اكتشف ذلك وحاول قتل العبد، اجتاح الغضب زوجته فجأة، ومسخته بسحرها على هذا النحو، ثم حولت المدينة إلى كوم من الأحجار.
وبكى من جديد بدموع من دم، وقال إن زوجته تأتي إليه كل مساء، وتمزق جلده بسوط حاقد.. ثم ترحل"[17].
       إن المقطع السابق يتم عبره رسم قصة الزوجة الساحرة وزوجها ونجد في لحظة التنوير (ونهاية القصة) كيف تصور الشخصية أحد رفاق السجن (السكران) الذي كان يصرخ في هستيريا:
"كان سكراناً..
ولقد نهض مرة أخرى محاولاً أن يحطم القضبان بقبضته، صارخاً بأعلى صوته:
-      تعيش إسرائيل.. تعيش.
ونثر ذراعي جانباً حين أردت تهدئته، وواصل صياحه:
-      آه.. أين أنت يا موشي ديان؟
وجاءوا إليه بالأحزمة الخشنة، إلا أنه لم يكف عن الزعيق، فيما بدا أمام عيني كأنه مقيد داخل قفص شائك وقد مسخ نصفه الأسفل سمكة.. سمكة ممزقة من أثر السياط"[18].
       هذا الرفيق كان سكراناً ورؤيته بهذا الشكل ممسوخاً تجعل في الأذهان للتأويل آفاق شتى، فالتراث هنا وُظِّف لجعل آفاق التأويل مفتوحة، فمنها أن الدولة بوقوفها ضد المظاهرات المناوئة لليهود تبدو مثل تلك الساحرة ومنها أن هذا الرجل بسكره وامتداحه لليهود صار مَسخاً.




[1] خليفة الفاخري: موسم الحكايات، الدار العربية للنشر والتوزيع والإعلان، ط2، 1994.
[2] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص55
[3] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:66 ، 67
[4] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:91
[5] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:98
[6] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:191
[7] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:191
[8] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:199
[9] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:165
[10] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:166
[11] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:167
[12] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:170،171
[13] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:172
[14] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:172 ،173
[15] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص: 304، 305
[16] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:305
[17] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:308، 309
[18] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:310، 311

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق