سلسلة اشتغالات حول نصوص مميزة في القصة القصيرة (11)
مقدمة لندوة: أدب الصحراء بين الانتماءات الإيديولوجية والبنى
النصية
المقامة
في كلية التربية زليتن
بتاريخ:
27.4.2017.م
خصوصية الوصف واشتغال الفضاء في بعض تجليات أدب الصحراءقصة(حمى الرمل) للأديب علي الجعكي أنموذجا. هذه ورقة شاركت بها سابقا في ندوة: أدب الصحراء بين الانتماءات الإيديولوجية والبنى النصية، المقامة في كلية التربية زليتن، بتاريخ: 27.4.2017.م
حاولت في هذه الورقة أن اعرف ببعض خصائص أدب الصحراء. ارفقت مع الورقة قصة حمى الرمل. وهي قصة غامضة ذات دلالات خفية. ولقد ساهم بشكل كبير في تفكيك أبعادها الخفية جلساتنا مع الرفاق في المختبر حيث كانت هذه القصة مادة للمنافشة في اكثر من مناسبة.
1.1 أدب الصحراء حدود النوع
أسئلة تتبادر للذهن
مباشرة بمجرد التفكير أو الحديث عن أدب الصحراء، أول هذه الأسئلة (وهو السؤال
المركزي: ما الذي سيجعل من أدب ما، أدب صحراء؟. وربما يصاغ السؤال بطريقة أخرى، ما
هي المحددات التي تجعل من أدب ما، أدب صحراء؟. لنمارس المزيد من طرح الأسئلة التي
تتفرع من السؤال المركزي السابق وتقترح هي ذاتها إجابات:
1)
هل
أدب الصحراء هو الأدب الذي تقع أحداثه في الصحراء؟
2)
هل
كون الصحراء أو أي من مكوناتها موضوع لحكاية السرد يضع هذا السرد ضمن أدب الصحراء وهل يغني هذا الشرط
عن الشرط الأول السابق الخاص بضرورة حدوث الأحداث ضمن فضاء الصحراء.
3)
هل
يشترط أن يكون الكاتب من أهل الصحراء لكي يكون أدبه أدب صحراء؟
4)
هل
لموقف الكاتب من الصحراء أو مكوناتها السكانية والمكانية والتاريخية علاقة بنوع
أدب الصحراء.
5) ما هي الأنواع السردية التي تدخل ضمن أدب
الصحراء (قصة قصيرة، رواية، أدب رحلة ، سيرة ذاتية).
إجابة عن التساؤلات
الأولى السابقة، فإنه لا يمكن أن نتحدث عن أدب صحراء يحدث (بشكل كامل أو جزئي) في
مكان غير الصحراء، أي أن المكان مكون أساسي لكون النص السردي منتميا لأدب الصحراء،
لهذا سنجد من خلال هذا الشرط الأولي أن كل السرود التي تحدث بشكل كامل أو قسم كبير
منها في مكان غير الصحراء (حتى لو كانت أماكن مجاورة للصحراء مثل تخوم الأنهار
والقرى) خارجة من تسمية أدب الصحراء النوعية.
بينما السؤال الثاني
المحير (إلى حد ما) وهو ما يحقق الشرط الثاني و يصاغ كما يلي: هل كون موضوع حكاية
الرواية في جزء مهم منه أو كله حول الصحراء يعتبر مغنيا عن (الشرط الأول) الذي
يشترط ضرورة حدوث قسم مهم من الرواية في .الصحراء. اعتقد أنني أميل لاعتبار موضوع
الرواية أكثر أهمية من المكان نفسه يعني لو رواية أو قصة موضوعها الصحراء أو أحد
مكوناتها المهمة تدخل ضمن أدب الصحراء.
وبخصوص السؤال المركزي
الثالث فإنه لا يبدو لي أنه من الضروري أن يكون الكاتب من أهل الصحراء لكي يكون
سرده ضمن أدب الصحراء، لهذا لا تعنيني جنسية الكاتب أو مكان وجوده في ماضيه أو
الحاضر.
النقطة الرابعة التي
تتحدد بموقف الكاتب من الصحراء أرى أن موقف الكاتب من الصحراء لا يحدد مدى انتماء
سرده لأدب الصحراء، بذلك أجد ضمن أدب الصحراء كتابات إبراهيم الكوني التي تؤسطر
مجتمع الطوارق المقيم في الصحراء وحياتهم البدوية القائمة على الرحيل، وأجد ضمن
ذات الأدب بعض الأجزاء من روايات عبدالرحمن منيف (مدن الملح) التي تتحدث بسخرية
شديدة من المكون السكاني الصحراوي. بينما بخصوص النقطة الخامسة التي كان السؤال
ضمنها عن النوع السردي الذي من الممكن أن ينضوي تحت تسمية أدب الصحراء، أجد أنه من
الممكن أن يكون ضمن أدب الصحراء الأنواع السردية مثل الرواية و القصة القصيرة وربما
أيضا السيرة ذاتية، كذلك أضيف لهذا الشرط أدب الرحلة الذي تدور فيه الأحداث في
الصحراء، كما يدخل جنس الشعر ضمن أدب الصحراء وإن كان تركيزنا في هذه الدراسة على
السرد.
2.1 الوصف المقارن والاشتغال على الحواس ضمن نظرية
السرد:
أولا. الممارسة
السردية:
نقصد بمستوى الممارسة السردية التقنيات
السردية التي سبق أن تناولناها بالمناقشة في عديد الدراسات السابقة، حيث أضفنا هذا
المستوى ليكون مجاورا (لمستويات الخطاب، والحكاية، والنص) ونراه ينقسم لبعدي:
السرد، والوصف، ونجد ضمن مستوى السرد تقنيتي:التأطير والترهين) ، بينما نجد ضمن
مستوى الوصف تقنيتي الاشتغال على الحواس، والوصف المقارن.[1]
تعريف
الوصف: يمكن أن نجد للوصف التعريفات التالية ونبدأ بتعريف "سيزا قاسم":
"فالوصف أسلوب إنشائي يتناول ذكر
الأشياء في مظهرها الحسي ويقدمها للعين. فيمكن القول أنه لون من التصوير ولكن التصوير
بمفهومه الضيق يخاطب العين أي النظر ويمثل الأشكال والألوان الظلال. ولكن ليست هذه
هي العناصر الحسية الوحيدة المكونة للعالم الخارجي ...فإن اللغة قادرة على استيحاء
الأشياء المرئية وغير المرئية مثل الصوت والرائحة ومن هنا نستطيع أن نفكر في
التصوير اللغوي أنه إيحاء لانهائي يتجاوز الصورة المرئية ولذلك يجب أن ننظر إلى
الصورة المكانية في الرواية على أنها تشكيل يجمع مظاهر المحسوسات من أصوات وروائح
وألوان وأشكال وظلال و ملموسات ..."[2].
ويرى حسن
البحراوي في الوصف :"فالوصف كما يقال هو الذي يجعلنا نرى الأشياء عن طريق
تأدية وظيفته التصويرية التي هي وظيفة إدراكية مباشرة في المرتبة الأولى، فمن
المعروف أنه يقوم أساساً على الحواس، إذ هي التي تساعد على توسيع مجال الرؤية
بإشراك السمع واللمس والحركة بل والشم وقبل كل شيء الرؤية البصرية". [3]ويرى
محمد برادة أن "الوصف في الرواية ليس بالضرورة بصرياً محضاً، بل غالباً ما
يمزج بين الحواس رغم صعوبة وصف ما يتصل بالشم والسمع والذوق واللمس، ولكن مع ذلك
نجد نصوصاً كثيرة تجمع بين عدة حواس في الوصف الروائي. . . على هذا الأساس الفريد
يمكن القول إن الوصف في الرواية تَخلَّص من وهم الاستنساخ والمحاكاة المتقصية
الشاملة، إلى تفريد النظر إلى الأشياء والعالم وتحوير الواقع تحويراً يُلوِّنه
بخصوصية الذات المبصرة، الواصفة"[4]
أي ان المصفي الرئيسي والمميز حسب رؤية "سيزا قاسم" و"البحراوي"
و"برادة" هي الحواس عبر عملية
التصوير التي تشتغل عليها كلها. ولنتابع هنا رؤية نقدية لـ"محمد بن
الامين" في رواية "شرف" لصنع الله إبراهيم:
"فهذا
الأسلوب في استحضار الروائح كفيل باستجماع تركيز القارئ/المشاهد، علاوة على أنه
يزيد الفعالية السردية للغة السينمائية وذلك عندما تتعاضد حواس الرؤية واللمس
والشم فضلاً عن السمع، في تمثل المشهد الإحساس بدراميته، وهذا الأسلوب من الجوانب
التي ركز عليها "ج.جنيت" في تحليله لرواية "بروست" بحثاً عن
الزمن الضائع في كتابه خطاب الحكاية، حيث حلل طبيعة تصوير الرواية للروائح
والأذواق والطعم. [5]
ثانيا. الوصف
بين (الاشتغال على الحواس) والوصف المقارن:
يعرف كورتس
التصوير قائلاً :"نطلق لفظ "التصويري" (le figuratif) على كل مدلول وكل مضمون للسان طبيعي، وبشكل أوسع، على كل نسق
تمثيلي (بصري مثلا) يمتلك معادلا على مستوى الدال (التعبير) في العالم الطبيعي
والواقع المدرك. وبناء عليه، فإن كل ما يعود داخل كون خطابي معين (لفظي أو غير
لفظي) إلى إحدى الحواس الخمس التقليدية: البصر، السمع، الشم، الذوق، اللمس،
وباختصار كل ما يدخل ضمن إدراك العالم الخارجي، نطلق عليه التصويري".[6]
ويطرح "امبرتو أيكو" رؤية "برس" في موضوع قريب من الذي نحن
بصدده كما يلي:" والحال أن "بيرس" يفصح، بوضوح، عن أن السمات حتى
ولو كانت صفات، فإنه لا يسعها أن تكون أوصافاً أولية خالصة. ولما كانت الأولى
"عامة" فإن الإحساس بالأحمر لن يعدو كونه محسوساً به، وهو لن يكون روئية
محضة، وهذه المحسوسية تعني بنياناً إحساسياً، أي ذلك "الوصف الذي يباشره
الذهن في شأن حواس جلية". ومن أجل أن يتحصل لنا بنيان ذهني، ينبغي لنا أن نمر
من محض المحسوس باعتباره تصديقاً، إلى الحكم الإحساسي الذي يتشكل من واقعة خام هي
التعبير المباشر"[7].
ونؤكد هنا أننا
من خلال الملاحظة الأولى: رأينا ميلاً خاصاُ لدى بعض الروائيين للاشتغال على
الحواس والوصف من خلالها كمجاري أو معابر يتم عبرها ممارسة فعل الوصف.
ثالثا. مفهوم
الوصف المقارن.
يحدث بوجود
علاقة مقارنة ضمن مستوى الوصف بين أي من مكونات الحكاية وسيكون بحثنا لهذا المفهوم
العميق في التدليل على عدة مستويات، فهو سيكون ضمن بحثنا هنا عن التقنيات السردية
وكذلك ضمن تحليلنا للمستوى النصي ومستوى الحكاية، حيث يحدث الترابط بين عناصر
الحكاية المختلفة أو من الفواعل بواسطة عمليات وصف فيها ربط من خلال المقارنة التي
غالبا ما تكون محكومة بمفهوم وقيم المربع السيميائي المشتغل في المنطقة العميقة
لدى غريماس (التضاد والتناقض والأقتضاء).[8]
رابعا.
الاشتغال على الحواس:
يتم تلقي الأشياء المحيطة بنا والمنتصبة
أمام حواسنا من خلال تلقيها عبر انتصابها أمام الحواس المُستفزة والجاهزة فطرياً
للتلقي ضمن فضاء محدد يختلف من حاسة لأخرى.
1) المرئيات: وهي كافة الأجسام والأطياف
المدركة بصرياً.
2) المسموعات: وهي كافة الأصوات المدركة
عبر حاسة السمع والتي تنتصب من خلال اختراقها لفضاء الصمت ذي العلاقة بحاسة السمع
فتعكس من خلال انتصابها أمام الحاسة فضاءها الخاص الذي يحويها.
3) المدركات شَميَّاً: وهي كافة الروائح
التي تخترق فضاء الشم لدينا نحن الممتلكين لتلك الحاسة، فيتحقق عبر انتصابها ضمن
حيز الشم لدينا إدراكها وتميزها.
4) المدركات لمسياً: وهي كل تلك الأجرام
والأجسام الملموسة والتي تخترق حيز الحاسة اللمسية وتتحول من خلال انتصابها أمام
لمس اللامس، منتصبة في حيز الملموسات لذلك اللامس.
5) المدركات تذوقياً: وهي كل تلك
الأشياء التي يتم تذوقها عبر حاسة التذوق فتخرق فضاء الحاسة لدى المتذوقين وتُحدِث
من خلال طعمها المتحقق تواجده لدى المتذوق، طعمها النوعي الذي تُدرَك عبره.
أخيرا فإنني أجد
الوصف كما هو اشتغال غالب أهل السرديات منطقة مجاورة للسرد أحيانا وفي أحيان أخرى
منطقة مندمجة مع السرد، كما في دراسات سابقة حيث تم الحديث عن أربع ظواهر تتضمنها
الممارسة السردية يمكن توظيفها لتحليل النصوص السردية وهي التأطير والترهين ضمن
مستوى السرد، والوصف المقارن والاشتغال على الحواس ضمن مستوى الوصف.
3.1 المكان والفضاء
وحدود كل منهما:
أجد الفضاء موضوعا مندمجا مع التسمية المكانية،
حيث أميل إلى استخدام تسمية المكان كلما تحدثت عن مستوى الحكاية وهي كما هو معروف
مكونة من (الحدث، الشخصية/الفاعل، الزمان، المكان) بينما أجدني أستخدم مصطلح الفضاء
للتعبير عن الكينونة المكانية عندما نتحدث عن الخطاب أو مسألة تصوير الراوي سردا أو
وصفا لأحداث النص السردي. أي أن الفضاء متميز بخصوصية الحدود التي تؤطره، لهذا من
الممكن أن يكون للزمن فضاء ولكل شيء مؤطر فضاء يدرك ضمنه، بينما المكان مميز بالتعيين، أو كنقطة ما لهذا
فموضع المكان كلما كان الحديث عن مكان متعين أو مرجعي، ويرتبط بشكل كبير بحكاية
الرواية الأصلية أو القصة، فنقول أن الشخصية سافرت إلى المكان (س) أو رجعت من
المكان (ص) بينما يدخل الفضاء كلما كانت هناك الحاجة لإطار إدراكي تتصور ضمنه الأحداث
وحركة الشخصيات.
1.2 عن سرد علي الجعكي
وحضور الصحراء فيه:
كتب علي الجعكي على امتداد
أكثر من ثلاثين سنة ثلاث مجموعات قصصية، وكانت أحداث قصصه تدور في أماكن مختلفة،
بعضها يقع ضمن الصحراء، والبعض الأخر ضمن فضاء المدينة، وفي بعض الأحيان تكون في
فضاء السهل أو الجبل. يتميز القاص بقدرته الفائقة على الوصف ورسم الحالات النفسية
لشخصياته وعلى التقاط لحظات مميزة من عمر هذه الشخصيات، كما يسم بعض قصص الجعكي
طابع الغموض، ولعل مما ساهم في ذلك طبيعة الوضع السياسي القائم زمن كتابة تلك
القصص، إضافة لتلك المقدرة المميزة (كما أسلفنا) عند الكاتب على الوصف ورصد حالات
شخصيات أو فواعل خاصة.
2.2 عملية تقسيم القصة
لمقاطع لغرض تسهيل عملية التحليل النصي
تسهيلا لعملية التحليل
النصي، فإننا سنعمد إلى تقسيم هذه القصة إلى تسعة مقاطع، لغرض تحليلها والبحث ضمنها
عن طبيعة الممارسة الوصفية، سواء كانت وصفا مقارنا، أو اشتغالا على الحواس، ساعين
من خلال ذلك؛ للتعرف عن جماليات الوصف، بالإضافة لكيفيات حضور المكون الصحراوي،
جاعلين من ذلك كله مدخلا لمحاولة فهم هذا القصة الرمزية المميزة والغامضة إلى حد
كبير في معناها. ونوضح هنا مبدئيا أن تقسيم هذه المقاطع بواسطة الحروف (أ، ب، ج،
...) هو من عملنا نحن وليس من أصل النص، كما أن هذه المقاطع التسعة تمثل النص
كاملا.
3.2 تحليل قصة حمى
الرمل
قصة حمى الرمل تحكي عن
شخصية ما وحيدة موجودة لسبب ما في الصحراء وتعيش لحظاتها الأخير، القصة كتبت بعد
حرب تشاد وهزيمة الليبيين في بعض المعارك هناك سنة (1987).[9]
عنون الراوي القصة
بحمى الرمل، ونحن منذ العنوان مع حضور المكون الصحراوي عبر الرمل الذي يميز فضاء
الصحراء، كما نجدنا نتابع ترابط الحمى بالصحراء بحيث صارت هذه الحمى متعلقة بالرمل
أو الصحراء. العنوان يلخص الحالة التي تعيشها الشخصية ويضعنا مباشرة مع ما تشعر به،
وبذلك نجدنا منذ البداية مندمجين مع وضعها الذي بدأ منذ الجملة السردية الأولى في
القصة. لنتابع طبيعة توظيف المكون الصحراوي عند الراوي، وكيف كانت الصورة تقدم.
المقطع الأول:
" وحيداً في هذا الامتداد الرخو كقطرة على سطح لا نهائي
من الإسفنج الجاف .. تغوص قدماه في ليونة
الكتيب المنتفخ كأثداء امرأة ضبابية ..(ب)
تتوجع الطبقة الرقيقة تحت حذائه الطويل العنق .. يشتعل الدم في شرايينه تحت سطوة
اللهب، فتظهر الرؤى القديمة سراباً يحمل مفاتيح الصحراء
."[10]
نلاحظ منذ البداية أن
الراوي بدأ السرد في(أ) عبر الحديث عن الذات في (وحيدا) ثم بدأ في وصف المكان فنحن
هنا أمام البداية مع الوصف مباشرة، لكن هذا الوصف ليس مجرد تصوير عادي، إنه تصوير
يستخدم تقنية الوصف المقارن ليضعنا الراوي في أبعاد الشخصية الداخلية، وذلك من
خلال صورتين مترابطتين متتاليتين، صورة الشخصية في الامتداد الصحراوي مقارنة بقطرة
ما في سطح إسفنجي جاف، وصورة ليونة الكثيب المقارنة بليونة أثداء امرأة ضبابية.
المقارنة الوصفية
الأولى تعكس حدة ما تشعر به تلك الذات، كما تعكس في الوقت نفسه ذلك التوق الطبيعي
من الشخصية للماء، وحِدة شعورها بالجفاف. كما يعكس الوصف المقارن شعورا عاما
بالعبثية التي سنلحظ أن الشخصية تعيشها في لحظات تيهها الأخيرة في الصحراء، كما
نلحظ من المقطع السابق أن الوصف يدخل مباشرة مع السرد أو انه سيد الموقف.
المزيد من السرد المرتبط
بالوصف نجده في (ب) نتابع المقطع ونلحظ ما فيه من جماليات وصف وترابط حيث في البداية نجدنا مع صورة تشتغل (بشكل غير
مباشر) على حاسة اللمس، فالراوي هنا يرصد (في صورة خارجية) توجع طبقة الرمل
الرقيقة راصدا إحساسها بالحذاء الذي من الممكن أن يكون حذاء عسكريا خاصة وهو طويل
العنق، ثم ينتقل من الخارج إلى الداخل ومنه للخارج مرتين بشكل سريع البداية برصد اشتعال
الدم في الشرايين، وهي صورة داخلية، فيما يبدو لغرض جعل تأثير هذه الصورة أكثر حدة،
ثم بالانتقال للخارج ورصد حدة اللهب أو الشمس، هذه الصورة هي أداة الراوي لكي
ينتقل بالشخصية لرصد ماضي الشخصية حيث كل الرؤى القديمة (قبل ولوج الصحراء) ليست
إلا سرابا، ونصبح مباشرة متصورين لمشاعر الشخصية حيث مفهومها عن الصحراء والسماء
وقربها قد تغير.
المقطع الثاني:
المقطع الثاني يتميز بالحيرة التي تجسد حالة
التيه ولكن لنلحظ أن الجزء الأخير في المقطع الأول والجزء الأول في هذا المقطع
الثاني، هما تجسيد لتقنية يتناوب فيها الانتقال من وضع سردي لأخر، حيث الذاكرة
والتصورات هي أداة الراوي للانتقال من الداخل للخارج والعكس وكذلك للانتقال زمنيا
في بعض الأحيان:
" (أ) لم يكن يتصور هذا الاتساع الهائل، ولا هذه المساحات
المقوضة من الفراغ والعزلة والصمت .. (ب) سماء شاهقة ليس كما في قريته .. بعيدة
جداً هنا ... مضرجة بآخر قطرة من الزرقة ..(ج) صافية كسطح عملاق من الثلج ... عند
الأفق تبدو ملتحمة بالأرض، تعانق الرمل كصحن كوني مقلوب، (د) تتكور الفقاعة
حوله... تنبجس طحلباً لزجاً يسكب السم في أعماقه .(ه) يسأله الرمل عن حكايا الزمن
القديم .. عن الأمراء المخصيين ودماء الحلاج، وأشياء أخرى ماتت في الذاكرة من زمن
المماليك ودولة الغلمان "[11]
في المقطع السابق
الطويل نلحظ في (أ) كيف دخل الراوي إلى وعي الشخصية وهو يرصد تصوراتها أو (رؤيتها)
للفضاء من حولها ثم لموضوعات أخرى فيما بعد، بينما يرصد حالة الذات التي فاجأها
واقع الصحراء ثم نجده يرصد الفراغ والعزلة والصمت وهو هنا يرسم تداخلا مميزا بين
الحواس حيث الصمت فراغ على مستوى حاسة السمع، بينما في (ب) نجد صورة فيها وصف مقارن يعكس المزيد من
التباين بين واقع القرية التي جاء منها وواقع الصحراء حيث هو الآن، ثم في (ج) نجد
المزيد من الصور الوصفية التي تعكس وطأة أحساس الذات بالحاجة للبرودة (الثلج) أو
الماء، كما نجد في (د) بداية دخول آلام الشخصية الحقيقية عبر الفقاعة التي تنقلب
طحلبا ساما، هذه الصورة ذات بعد لمسي كما نلحظ ولطالما ارتبطت في كتابات سابقة
للجعكي بمفهوم السلطة الجاثمة على النفس، سلطة الدولة زمن الكتابة، لهذا مباشرة نجد
الراوي منطلقا من الشخصية يتحدث في (ه) عن السُلط القديمة الظالمة حيث الأمراء
والمخصيين، والحلاج الذي عده البعض ضمن إطار نصي معين، رمزا لقتيل السلطة، فالراوي
كما رأينا وصف الصحراء والشخصية ضمن فضائها، ثم رصد عبر ذلك مقارنة بين الصحراء
وبين القرية، والآن انتقل إلى موقفه الشخصي.
نوع آخر من أنواع
الوصف نجده هنا وتبدو معه ملامح النظام واضحة، الجملة السردية تأتي لترسم تحول
النوع الوصفي المستخدم من وصف مقارن إلى وصف على أحد الحواس ثم إلى وصف على مستوى حاسة
أخرى.
المقطع الثالث:
لنتابع المقطع التالي:"
(أ) عندما يستلقي على ظهره لا يرى إلا الامتداد الأزرق يحيط به (ب) في سكون رهيب
كان هو المركز لهذه الدائرة المكورة .. لا شيء غيره .. وحده يملك هذه المساحات
المفخخة ..(ج) نقطة على حافة القحط والجفاف البدائي، يتحرك كالسوس في خشبة ميتة ..(د)
صمت وعطش وزرقة مخيفة .. لا شيء غير الرمل ..(ه) امتداد أصفر وبني ضارب للحمرة ..
الألوان الغسقية تنسج هذا البساط، وتتداخل لتكون منظراً وحشياً لم تألفه نفسه ..
يتكرر اللون مع كل خطوة يخطوها (و).. يسيح عبر هذه اللوحة الكونية كقطرة تتلاشى في
عمق اللون .. تتشربها مسام اللوح العطشي ... تعبث بها شعيرات خشنة "[12]
في المقطع السابق نلحظ
في الجزء (أ) بناء مقطع وصفي جديد يبدأ من خلال السرد الذي يتم فيه تحديد وضعية الرؤية
ووضعية الشخصية باعتباره هو في الآن ذاته (عينا ترى ومادة مرئية)، ويصبح العالم الذي
أمامنا ينقسم إلى عالمين: ( الذات) مقابل (العالم) وبين ذات الشخصية داخليا،
والعالم الصحراوي خارجيا، نجدنا مع تلك الهموم التي لا تنقطع في ذلك الفضاء
المقفر.
في الجزء (أ) أيضا نلحظ إعادة عدسة الرؤية
للشخصية عبر (يرى) ثم في (ب) نجدنا مع ثنائية الذات والعالم عبر الحديث عن المركز
والدائرة ثم (ج) نجدنا مع حضور واضح للوصف المقارن حيث الراوي يصور لشخصية نقطة
على حافة القحط وهو ما يعيد بنية النقطة الغائبة (من الماء) والجفاف باعتباره
الهاجس الأكبر في هذه اللحظة السردية، كذلك صورة السوس والخشب الميت ذاتها في نفس
المقطع تحيلنا عبر الوصف المقارن لعالم الذات داخليا وتعكس وطأة الإحساس بلا جدوى
كل شيء.في الجزء (د) يلخص الراوي وضع الشخصية عبر أربعة حواس حاضرة (سمعية) تمثلها صورة الصمت، باعتباره فراغ على
مستوى حاسة السمع، أو جفاف على مستوى الصوت، نجد أيضا الحاسة المزدوجة: (التذوقية
واللمسية في الآن ذاته) تمثلها صورة العطش ثم ندخل للحاسة الرئيسية في هذا المقطع
وهي الحاسة البصرية، حيث (الزرقة المخيفة).
في الجزء (ه) كما سبق
في الجزء (د)، نجد الألوان المبثوثة أمام العين الرائية خارجيا أداة لتبئير الألم
في الداخل، حيث لاحظنا في الجزء (د) الشعور بكون الزرقة مخيفة، وكذلك في الجزء (ه)
كون الألوان الغسقية كلها تشكل بوحشيتها لونا غير مألوف ضمن إطار رؤية الراوي
الخارجية، ويمكن أن نستنج ذلك الترابط بين الداخل والخارج، حيث الراوي وهو يصور
صورة خارجية عبر احد الحواس أو الوصف المقارن يمارس الدخول للداخل، والعكس بالعكس،
حيث الداخل أداة للتعبير عن الخارج، بينما في الجزء (و) يحدث اندماج أشبه بتلاشي
الفواصل بين ذات الشخصية و بين الفضاء المكاني الصحراوي ضمن اللوحة إطارا شاملا
متصورا والفرشاة الخشنة فاعلا يكمل النسيج، كل ذلك يتم عبر الوصف المقارن وعبر
صورة يتم الاشتغال فيها على البعدين البصري والمسي في الآن ذاته، فهي أي ذات
الشخصية، قطرة تسيح في لوحة الكون أو يتشربها عمق اللون سابق الذكر في المقطعين
(د، ه)، وفي الآن ذاته نجد بعدا تذوقيا من خلال العطش، و نجد بعدا لمسيا تتضمنه
الصورة التالية: (شعيرات خشنة)، يتحقق هذا كله ضمن عموم البعد البصري لتلكم
الألوان التي ليست إلى مرادفا للصحراء، حيث الضياع والموت الصورة السابقة تخرج بنا
من البعد الحواسي العادي لصورة تشكيلية حيث المنظور إطار لتعبير رؤية غير طبيعية
او تقليدية للعالم.
المقطع الرابع / الوصف
أداة للعودة الزمنية للماضي:
هنا في المقطع التالي
نجدنا مع صورة تعكس حدة ما تشعر به الذات، كما يتم عبر العروج على الذاكرة، تغيير
مسار السرد من قضية تصوير الراوي لذات الشخصية نقطة أمام الصحراء، أو نقطة تتشربها
اسفنجة أو لوحة كبرى، إلى مزيد من الجمل الوصفية التي تضعنا قليلا أمام بعض من
أسباب ألم تلك الذات، ولأن الذاكرة مشوشة ومرهقة، فإننا سنلحظ تداخل لقطات
البدايات والطفولة، مع صور اللحظات الحاسمة التي يبدو أنها حصلت قبل هذه الحالة
التي تعيشها هذه الذات المأزومة.
"(أ)... إنها
الريح في هذا العراء الأجرد .. إنه زفير المقصلة حول عنقه .. هو النسيان الأبدي ..
الوحدة المدمرة ..(ب) الصمت يحفر ذاكرته الملطخة بنسغ البراعم وغبار البارود،
وشهقات الزهر، يغوص في مسارب الريح
والفضاءات العذراء، وحكايا قابلة للاشتعال"[13]
في الجزء (أ) نحن مع
بنية مكونة من ثلاث جمل تبدو ظاهريا سردية/ وصفية لكنها تعكس عبر ترابطها الخفي مع
أوضاع تلك الذات بعدا وصفيا خالصا (تقريبا) ، يبدأ من الخارج في (عراء اجرد)، إلى
صورة خارجية قريبة (حول عنقه)، ثم نجد بعدا داخليا من خلال القيم التي تحسها الذات:
(النسيان، والوحدة)، لننتقل في الجزء (ب) للأزمة التي سبق الحديث عنها التي تبرزها
الذاكرة الملطخة، فتختلط الحياة في أجمل لحظاتها (ضمن تلك الذاكرة) بالموت عبر
غبار البارود الذي يشير إلى الحرب التي كانت تلك الذات ضحيتها، كما نلحظ اختلاط
البراءة بالموت في (شهقات الزهر)، كما نلحظ الحديث عن الحكايا (في الذاكرة) قابلة للاشتعال
ونكون بذلك قد بدأنا في وضع أيدينا على أزمة الشخصية وما تشعر به.
المقطع الخامس:
يبدأ المقطع الخامس في
(أ) بنفس البنية السابقة فتعامل الشخصية مع الرمل يسجل ضمنها علاقة خاصة تبنى على
مضمون ذكر/أنثى كما في المقطع الأول، لنتابع ذلك ولنلحظ أن البداية هنا أيضا، يتم
من خلال صورة خارجية:
"(أ) تنتقل خطواته ثقيلة بطيئة، تخترق بكارة الرمل ...(ب)
تختلط الأفكار داخل جمجمته المشحونة بالحصى والحبيبات الملونة والجفاف ..(ج)
بابتهالات الجسد المتدثر بالخطيئة ودم الولادة الأولى ..(د) منذ أن ترك آخر بقعة
تعجّ بالحياة أصبح يستكشف ذاته .. أمسك بشعاع نفسه المتعبة في طين جسده .. في عمق
البئر النتنة التي يحملها بين أضلاع"[14]
في (ب) ننتقل من الخارج للداخل، وهنا ليس لداخل الجسد ولكن لداخل الجمجمة،
حيث الأفكار والقيم كما سبق أن تناولها في المقطع الرابع عندما تحدث عن الذاكرة،
بينما نجدنا في (ج) على الرغم من بقاءه داخل أفكار الشخصية، مع العودة لطبيعة
الكينونة الإنسانية الموشومة بالخطيئة، بينما في (د) نحن نتابع فعل الشخصية
المتواتر زمنيا عبر تكرار استكشافه لذاته وما يحيط به وعودته لكينونته الطينية،
مشمئزا في أخر الأمر من ذاته أو مما هو موجود في عمقه، وهو ما يبدو ناتجا عن اشمئزازه
من كل ما يحيط به من قتل وموت.
المقطع السادس:
بنفس الطريقة (أو ما يمكن تسميته بنية الوصف في هذا النص) حيث هذه البنية
تمثل طريقة اشتغال الرؤية في هذا النص(غالبا)، حيث يتم تصوير الخارج تمهيدا للدخول
للداخل لنتابع المقطع التالي:
"(أ) اكتشف أنّ الرمل ينتشي بحباته العصية، وأنه يتقن سحر التغلغل في
فوضى الجسد، اتساع الضوء يخيفه ...(ب) يجعله يشعر بضرورة وضع يده على فتحتي عينيه،
يقلل من تسرب الرمل إليهما ..(ج) الألوان تتجرد في عينيه، صارخة على كتف الفرشاة
كامرأة من ضوء تتعرى للفراشات ..(د) إنها ألوان التكوين القديمة.. ألوان البداية
الأولى التي زينت ثوب الرمل .. إنها السر الأعظم لهذا الجزء المبعد رسم عليها
الزمن متاهات قاتلة ..(ه) شراكاً تمتد داخل الإنسان .. تسكن دمه وتختبئ لتصطاد
غزالة فرَحِه ..(و) قشعريرة تجتاحه إلى حد
الإغماء .. إلى حد اختلاط أفكاره وانسياحها عبر هذا الحطام .. "[15]
في الجزء (أ) عبر الوصف الخارجي نبدأ في الانتقال شيئا فشيئا للداخل، ونلحظ
أن المقطع السابق باعتباره يطرح قيمة مكتشفة يعد مقطعا ذهنيا بامتياز، ثم يبدأ الراوي
في رصد الضوء خارجيا، ثم في الجزء (ب) يعاود الحديث عن المشاعر وهو ما يضعنا داخل
الشخصية.
في الجزء(ج) البعد البصري واللون
أداة للتعبير عن القلق مع الوصف المقارن الذي يرسم الألوان أنثى ضوئية، وبذلك
تتحقق من جديد البنية العميقة للوصف وهي بنية معنى خفي يدور عليه السرد و نجد
ملامحه في كون (الصحراء أنثى)، ثم نجدنا في (د) مع الانتقال للقيم الكبرى والعودة
الزمنية للماضي، زمن التكوين وحيث السر الأعظم وحيث الألوان تزين ثوب الرمل.
في الجزء (ه) نجد لعبة سردية أخرى من ألاعيب الراوي المتمكن، حيث ينتقل من
الحديث المباشر للشخصية إلى السرد بشكل عام، ناقلا السرد من الخارج والقيم الكبرى
كالسر الأعظم وغيره، إلى الداخل، حيث للفرح غزالة يمكن اصطيادها، بينما في الجزء (و)
ننتقل للداخل وما تشعر به الشخصية من قشعريرة واختلاط الأفكار، وهو مقطع تأسيسي
للمقطع السابع الذي يليه، ويتم فيه التعبير بشكل رمزي عن آلام الشخصية وعن المأساة
التي يبدو أنه ومجموعة من رفاقه قد خاضوها.
المقطع السابع:
" (أ) تستيقظ في داخله الدماء المسفوحة على حافة النصل، يكتب مرثية
الجسد .. على رأسه عبرت دمعة إلى غرف القلب ..(ب) سقطت الشهب في الأعماق فاحترق
العشب الأخضر في البقعة المستباحة ..(ج) أشلاء مذعورة تنتفض من سكونها، الدماء
تيبست على شفاه الجرح . تنتظر ينبوعاً كي تغتسل من جفافها، (د) كامرأة جاءها الطلق
والمدية بين العنق والأثداء .. بين الرحم والحبل السري .. بين بسمة الزهر وبكاء
طفل ساعة الميلاد .. (ه) تتفتق أودية النار عن الشظايا البشرية، تحمل هاجس هزيمتها
وهذيان الموت ..(و) أفق القيامة المضرج بالأنين والمستحلب الساخن معلق بين كيمياء
الوطن وبخار المدن المستباحة .. تختزنه الذاكرة المشوشة ..(ز) يعود الصمت عالماً
خصباً بالوحدة القاسية كحافة لوح زجاجي .. كطلقة غادرة تشتت رفيقه ..(ح) قطع الدم الجاف تتكون في حلقه ... يحاول أن
يبصقها .. لكنها أصبحت جزءاً من لحم فمه ... حلقه يمتلئ عفناً .. (ط) أعضاءً من
جسد رفيقه المسجّى .. إعصاراً حامياً .. دوداً يلتهم داخله . طعماً غريباً مازال
عالقاً بلسانه، كالأنشوطة .. (ي)أيام ثمانية لم تغادره تلك الرائحة من اللحم
المتفحم .. طعم الفجيعة يطارده .. يرحل في برزخ ذاكرته المحمومة .."[16]
نبدأ في هذا المقطع في التعرف على طبيعة الأزمة، حيث صور الموت والدم، كما
نلحظ قيام الراوي بالتركيز على الصور البصرية ذات المرجعية الخاصة، التي تحيل على
الموت والأشلاء والذكرى وعلى الاحتراق والدم، هذه المرجعيات تحيل إلى المزيد من
آلام الشخصية.
الصورة البصرية كانت صورة داخلية
في الجزء (أ) ، حيث نجد الحديث عن الدم والنصل وهو ما يؤشر إلى موضوع الموت الذي
يبدو أن الشخصية قد عاشته، كما نجد في نفس المقطع الحديث عن المراثي والدموع، بينما
في الجزء الثاني (ب) نجد صورة بصرية خارجية ذات بعد رمزي ترسم سقوط الشهب واحتراق العشب
وهو ما يمكن أن يحيل لموضوع الحرب حيث القذائف وموت الرفاق، بينما في الجزء (ج) نجدنا مع الصورة البصرية
المباشرة، هذه الصورة تكمل باقي فسيفساء المشهد بالحديث عن الأشلاء والانتفاض
المذعور، بينما نجد بعض أثر من الحاسة اللمسية مع البصرية في الصورة السابقة.
نجد في الجزئين: (د) و (ه)، المزيد من جزئيات الصورة الخفية، من خلال صور
بصرية تحيل للقضايا الكبرى، وتتحدث رمزيا عن موت الرفاق وعن لحظة الفجاءة، نتابع
في (د) الوصف المقارن بين صورة حاضرة لموت امرأة تعيش حالة الوضع وبين تلك الحالة
التي لم تذكر بشكل مباشر من موت الرفاق واحتراق الجثث، وبين صورة الحياة في أجلى
صورها ممثلة في الولادة والزهر والميلاد مهددة بالمدية التي تعني الموت، نجد في
الجزء (ه) صورة الموت والهزيمة التي تنتزع تلك الولادة في تلك اللحظة الحرجة،
ونجدنا نتابع باستمرار ضمن أجزاء هذا المقطع الصور البصرية ذات المرجعيات الكبرى،
بين الموت والميلاد والنصر والهزيمة والنار والأشلاء والحرائق، كلها أدوات تنعكس
من خلالها تلك الحرائق التي تعتمل في ذات تلك الشخصية وينقلها الراوي عبر هذا
الوصف والاشتغال على الحواس المتقن.
كما يمضي الراوي في الجزء (و) في الوصف الذي يتم فيه اشتغال على الحواس
وعبر صور وصفية تحيل في مجملها للقضية الكبرى، وهو ما يبدو من موت الرفاق في الحرب،
يدعم ذلك الحديث عن الوطن ومدن مستباحة ربما تكون مدن الجنوب زمن الحرب في تشاد،
بينما يتم في نهاية هذا الجزء الحديث عن الذاكرة، ولطالما كانت (في هذا النص) أداة
للعودة زمنيا والتصوير المباشر للأزمة.
الجزء (ز) نجد فيه تصوير خارجي عبر الحديث عن الصمت ثم نلحظ استخدام الراوي
للوصف المقارن بين عالمين، عالم تمثله الصور الظاهرة وعالم أخر خفي هو حقيقة
المحرقة أو الهزيمة التي عاشتها تلك الذات، الصور على الرغم من كونها ظاهريا تؤشر
للبصري، إلا إننا من الممكن أن نلمح حضورا لمجمل الصمت إطارا للمكان، وهو ما يحيل
للحاسة السمعية، كما نجد بعض أثار الحاسة اللمسية عند الحديث عن (حافة اللوح
الزجاجي وعن الطلقة التي تشتت الرفيق).
في الجزء (ح) نجد صورة داخلية للشخصية وما تشعر به. هذه الصورة فيها اشتغال
على البعد اللمسي نلحظه عند الحديث عن جفاف الدم، ثم البعد التذوقي عند الحديث عن
الحلق والبصق، و نلحظ بقية الأزمة من موت
الرفيق أو الرفاق، وذلك بالانتقال السريع بالصورة من الداخل في (ح)،ويعاضد ذلك
انتقال الصورة من الخارج إلى الداخل في (ط)، حيث الصورة الخارجية تجسدها صورة
الإعصار وهي ذات بعد لمسي، وننتقل مع الصورة داخليا إلى حاسة للتذوق، إذ الموت
حبلا يلف حول العنق وله طعم المرارة.
المقطع الثامن
"(أ) ريح عاتية تزرعه مع الحصى في نعومة هذا البساط المخيف، الذي لم
تطأه قدم غيره . (ب) لا شيء غير التفكك وانثيال الأشياء من رأسه كنزيف أبدي
..."[17]
المقطع الثامن يمضي بنفس الوتيرة السابقة انتقالا من الداخل للخارج حيث
الداخل ذي بعد تذوقي وشمي، والعودة للذاكرة باعتبارها موضعا توسطيا بين الداخل
والخارج، وتأخذ هذه الذاكرة تسميات مختلفة منها ذاكرة، ورأسه، وغيرها، في الصورة
ذات البعد الخارجي نجد تصوير الإطار المكاني العاكس للقلق في (أ) ثم في الجزء (ب) نجد العودة للذاكرة محطة للسرد وللوصف.
المقطع التاسع
" (أ) وحيداً يقضم خبز المتاهة ... الريح تمنحه كفناً من البراعم
البرية والشوك المسنن حتى يدخله ساعة القطاف .. لعلها أزفت (ب) فقد خيّل إليه أن
جسده تحول إلى صخرة تتدحرج في هوة سحيقة .. هل دمه صار خارطة لفوضى العبث ؟ (ج)
أخذ يصرخ .. يعلو صراخه إلى الأفق... هل هو صوت امرأة تغني مواويل العشق لفارسها
المصلوب ؟ .. هل صوته تعويذة للفجر الغائب في زمن الردة ؟ نسي أنّ له صوتاً كطيران
القبرة على حقول القمح ...(د) الصوت الوحيد الذي كان يتفرد في أذنيه هو طقوس الرمل
تحت حذائه ...(ه) الطين ينشد للنصل المتجرد في الأعماق .. للزهر الذي أعطى نسغه
ببراءة .. للكف المخضب بنجيع السهول وأهداب الأقحوان ..(و) لكنه في اليوم الثامن
اكتشف أنه ملّ لعبة الصراخ، فوضع حصوات تحت لسانه واستسلم لصمت الرمل .."[18]
في الجزء الأول من المقطع التاسع نجد عودة للبنية السابقة، حيث الشخصية
تحدثنا عن وحدتها وعما تفعله الريح وعن خبز المتاهة، الصورة خارجية بصرية أي ذات
بعد بصري، وفي الوقت نفس تحقق ما أشبه بلحظات النهاية للقصة، حيث موت الشخصية صار
وشيكا، بينما نجد في الجزء (ب) العودة المعتادة إلى الداخل وإلى ما تفكر فيه
الشخصية عبر كلمة يلقيها الراوي: (خيل إليه) ثم نجدنا نتابع الصور المتخيلة في هذا
الجزء والجزء الذي يليه (ج)، ونتابع صورة
متخيلة خارجية من ذهن الشخصية في ظاهرها ذات بعد صوتي من حيث الحواس.
في الجزء (د) نجد عودة فنية مميزة للرمل الذي هو الفضاء المؤطر للاحداث والشخصية، كما نجد الراوي و قد بدأ بحاسة
الصوت، كما حصل في الجزئين السابقين، ثم يعود لصوت الرمل مدخلا للانتقال للفضاء
المكاني البصري بدلا من الصوتي، ونعود في الجزء (ه)، وهو الجزء ما قبل الأخير، إلى
الحديث عن الطين والنصل، و كذلك الحديث عن الزهر والميلاد، تمهيدا للحديث عن الموت
القادم، كما نجد كون الصورة البصرية من النوع المقارن مع وجود انفتاح في المسافة
بين الصورة والأصل المقصود، ولعل هذا ما يميز الوصف المقارن الموجود في هذه القصة،
وهي خاصية تنسحب على غالب قصص على الجعكي الرمزية، إذ يبدو الطين هنا مرادفا
للكينونة البشرية في لحظة موت قريب حاسم ويبدو العالم المتذكر هو عالم البراءة
والطفولة، بينما نجدنا في (و) مع سرد تصويري يضعنا في الإطار الزمني للقصة،
ويجعلنا نتصور استسلام الشخصية للموت بعد ثمانية أيام من المقاومة.
خلاصة حول البعد الصحراوي و تقنيات الممارسة السردية
تبدو القصة السابقة قصة صحراوية بامتياز من خلال الفضاء الصحراوي المؤطر، تابعنا
فيها لحظات خاصة لشخصية تعيش لحظاتها الأخيرة قبل الموت، مع ذاكرتها المشوشة، مما
جعل الصحراء فضاء للموت والأهوال، وهو ما نجد عكسه في بعض قصص علي الجعكي الأخرى،
التي تعد بنفس المعيار قصص صحراوية، مثل قصة (أكاكوس) التي يبدو في بعض مقاطعها
الراوي وكأنما يؤسطر فضاء الصحراء.
وظف القاص في هذه القصة بنيتين
للرؤية أحدهما داخلية، صور بها ذات الشخصية، والأخرى بنية خارجية صور بها العالم،
وكانت أغلب المقاطع وصفية، أو سردية صفية، واعتمد بشكل كبير على الوصف المقارن،
وعلى الإحالة للخارج وللقيم الكبرى التي تؤطر حياة الإنسان، من قبل الموت والحياة
أو الميلاد والطفولة، أو النصل والمدية أو مع الحضور المميز لمكونات الفضاء
الصحراوي ومفردات هذا الفضاء كالريح والعطش وحبيبات الرمل والكثبان والجفاف.
من ناحية تقنيات الممارسة السردية، وفي جانب الوصف المقارن، فإننا نجد هذه
القصة أداة مميزة للتعرف على كيفية تحقيق الوصف المقارن مع وجود مساقة بين
الصورتين الظاهر والباطن أو الجلي والمخفي، وكانت الصور الوصفية تحضر ويبقى المرجع
غائبا بحكم رغبة الراوي في الترميز العالي الذي جعل القصة مغلقة إلى حد وتحتاج إلى
مغامرة لاستكشافها.
كانت بعض عمليات الوصف المقارن الأخرى لا تعتمد على المسافة بين الصورتين
المقارنتين ولكن على طبيعة الصورة الوصفية الظاهرة الأولى التي تحيل لوضع الشخصية
أكثر مما تحيل لعلاقتها بقرينتها من الصور.
نجد الراوي قد وظف هنا أيضا الاشتغال على الحواس في أغلب الجمل السردية،
بحيث صار بإمكاننا أن نتحدث عن حضور (شبه) كامل في كل جزء من أجزاء مقاطع القصة
لهذه التقنية السردية، وكانت الحاسة البصرية تتميز بالتشويه أحيانا لتتحول الصورة
البصرية اللونية من صورة أحادية المنظور، إلى صورة ذات بعد تشكيلي، تعكس هواجس
ومحارق أعماق تلكم الشخصية التي يبئر الراوي وعيها.
كما تميز الاشتغال على الحواس هنا بالحضور على مستويين متباينين جدا،
أحدهما في إطار الغياب كالصمت في إطار حاسة السمع أو انمحاء الرؤية في إطار البصر
والأخر في إطار حضور كامل خاصة عند الحديث عن حاسة اللمس والتذوق ضمن فضاء الصحراء
ومكوناتها.
تميز الاشتغال على الحواس في هذه الرواية أيضا بجمالية الانتقال من حاسة
لأخرى دون أن يكاد القارئ يشعر بذلك، وهو
ما جعل الحركة الوصفية مميزة.
المراجع
أولا. مادة البحث:
1.
علي الجعكي،
مجموعة سر ما جرى للجد الكبير، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ط.1،
2001
ثانيا.
الكتب:
1. عبدالحكيم المالكي/أفاق جديدة في
الرواية العربية/مطبوعات دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة/ط:1/2006.م
2.
سيزا
قاسم/ بناء الرواية/ الهيئة المصرية
للكتاب/ط.1 /1984.م
3.
حسن بحراوي /
بنية الشكل الروائي/ المركز الثقافي العربي/ ط.1/ 1990.م
4. أمبرتو أيكو /القاريء في الحكاية
/ت.أنطوان أبو زيد/المركز الثقافي العربي/ط.1/1996.م
5. عبدالحكيم المالكي/ السرديات والسرد
الليبي / جامعة مصراتة/ط.1/2013.م
ثالثا.
المجلات
1. محمد برادة/ مجلة فصول- القاهرة/ شتاء
1993م
2. محمد بن لامين /اللغة السينمائية في شرف
لـ: صنع الله إبراهيم / مجلة دراسات /عدد.9
رابعا:
المواقع الأكترونية:
ترجمة
سعيد بنكراد لكتاب "جوزف كورتس"
:
P:163j
courtes/Analyse semiotique du discourse,de lenonce a Hachette,paris,1991 :
منشور
في موقعه على الأنترنت Saidbengrad.free.fr/tra/ar/page7-6.htm
قصة ملك الريح
هنا، ليس إلا الفراغ والوحدة والصمت ... هدوء مقيت يلف
الأشياء حتى أنك تسمع صوت أنفاسك الساخنة، تغادرك لتتلاشى مع الهيولي العظيم
المحيط بك ... قرقعة الحجارة تحت أقدامك تنتشر إلى السفح... تهبط إلى الامتداد
الأصفر المنبسط بطياته وأضلاعه التي حفرتها الريح. تُوسم على وجه الرمل خطواتك
المثقلة بقدمين مأسورتين إلى وجع حذائك الذي تحس بقلق تجاه تفتقه... دبيبك السرمدي
إلى المجهول القابع في زوايا الصحراء الفسيحة يجعلك تفكر بهذا الامتداد المخيف
الذي لا ينتهي حتى يلتحم بالطرف البعيد للأفق، حيث تبدأ الشمس رحلتها اليومية
المهلكة، إلى الجانب الآخر من حافة الصحن العملاق المقلوب فوق رأسك. عند مرورها
فوقك تتحسس بدنك فتشعر بالحريق... بآلاف الأسياخ الملتهبة تخترقك، حتى أنك ترى
بخارك يتصاعد من جلدك. تجف كأعواد الرتم والنباتات المعاندة حتى الانقصاف... جسدك
المتعب ثقيل مترهل سكنه الرمل والصخر والأودية العقيمة. قحط قديم يجفف حلقك
ويدميه، النباتات الشحيحة الجافة تتكسر تحت قدميك... تتناثر أمامك في حركة شدتك
بخفتها... أنت قشة مثلها ولكنك تتحرك كالسوس يمخر الجذع المتآكل . من يطاردك ؟
سؤال ارتسم في الذاكرة الملبدة بغبش ضبابي راكمه الزمن الرديء والطوفانات القديمة
التي عشتها منذ أن وعيت. أنت قديم قدم الصخور والأودية العميقة الجدباء... قدم
الرمل يمتد في عروقك وبين خلاياك، لكنك تتلاشى كخطواتك على وجه الأرض، ثم تعود
معانداً مع الريح لتكمل رحلتك إلى النبع... العطش يهرىء لحمك ... يفتتك حتى يتحول
تكوينك إلى عبث صحراوي تعبث به الريح مع الذرات الصغيرة، والقش والشظايا. تتحول
أحلامك إلى عطش مفزع يقضم العظم داخلك .
أنت هنا إذاً... تقولها الريح للمرة الألف ... تصبها في
أذنك طوفاناً من نار، وأنت تكابد الضربات المتتالية والأكف اللامرئية، وحبيبات
الحصى تلسع عُريك . بشرتك النحاسية الدامية تفقد الإحساس بالألم، وأنت تفقد
الإحساس بالحزن . تجتاح هذا الخضم المجهول كأنك منفي إلى عالم لا يمت لك بصلة،
هكذا اخترت أن تكون ... عندما يخرج أهل قريتك إلى الحصاد كنت تبتعد إلى نهاية
الحقل ... لم تكن تشتغل مثلهم، ولكنك تركن إلى الاتكاء على مرفقك الذي يغوص في
الطين ... كنت تقبض التراب، وتجعله ينساب في خيط دقيق من أعلى إلى أسفل. تكرر
اللعبة وتتساءل ... لماذا لا يصعد الخيط إلى أعلى ؟ إنك لا تفهم قانون اللعبة،
لكنك تفهم أن التراب يحن للتراب. لا تكترث للسعات شمس الصحراء الحارقة. رائحة
التبن والطين والروث المبلل تملأك بخدرها، فتفتح أنفك وتستنشق عميقاً هذا المزيج
المتبل بالألم والدم والغبار والحميمية مع الطين. أهازيجهم تأتيك عبر السنابل،
وحفيف القبرات، وعبق الترع ... يتغنون بالسيقان المحملة بالقمح وبالليالي الصيفية
المقمرة والأفراح القروية التي يقيمونها بعد الحصاد. لماذا أنت هنا ؟ تقتلعك من
جذورك الخربة وتلقي بك على حافة الرابية مكوماً على نفسك، غارزاً مرفقك في أديمها
الساخن، فترجع بذاكرتك إلى تلك النقطة البعيدة المشوشة... تجد نفسك مترعاً
بالهزيمة، تشاكسك الريح والزلط القاسي، والشقوق الغائرة في داخلك. لا أغاني هنا...
لا حنطة في الحقل... بل جدب وحفيف التراب المدمر... كل شيء هنا يأكل بعضه، يفتت
كيانه، ثم يلده الجبل قوياً مسكوناً بجنون يسحق من يتعدّى هذه الحرمات القصية. أنت
فقط تتعذب بهذا الوهج المسلط على جسدك من كل صوب. كأنك في مركز الفوهة الكونية
الملتهبة... في وجه الشمس تذيبك حتى العظم. تمارس التواصل مع أسلافك في هذا
الانسياب اللامحدود... هناك في تلك المغاور أثرهم خلده الصخر... لا تقل رماحهم
سطوة عن الأزاميل الدقيقة على وجه الحجر، تنبش لمعانه فتخلق كيانها... الدقات
الصوانية في جوف الكهف يرددها عمق الوادي الغائر فيغزوك الصدى... ترسم الجداء
الصغيرة، والثيران الهائجة وحفلات النار... تخط معالم أجدادك الذين اندثروا...
تآكلوا بفعل سر رهيب لم تكتشفه... لم يتركوا إلا الصور الملونة على جدران
تاسيلي... هل رحلوا إلى ذلك العالم المجهول الذي لا تزوره الشمس... إلى الأدغال
الوحشية، المسكونة بأرواح أسلافهم السابحة في المياه المظلمة... أم هو الانقراض
المفاجئ لذلك النسل الأسطوري المنزوي في قاع التاريخ... أنت هنا تبحث عنهم في
الشعاب العذراء... تناديهم... تجلس القرفصاء وتصلي... تدقق النظر في وجه الرمل لعل
أثرهم يظهر إليك فجأة. تتعذب بالأسرار العصية على فهمك . ذاكرتك المثخنة لم تعد
تعمل... كتلة من صخر تسكن جمجمتك، ثقلها يؤلم عنقك، فتشعر أنك في حاجة لأن تزيح
هذا الثقل عن كاهلك، لكنك تستمر. جدك يظهر على الجبل عملاقاً يطارد الظباء... يجاريها
حتى القمة المسننة ... دم الضحية يلون الحجر ويعطره، رائحة الشواء تملأ أنفك
وتنقلك إلى حيث الصياد القديم يفترش الصخر، يقطع لحم الطريدة وينشره للعقبان في
الأعالي ... للأرواح المحلقة تحرسه، تنعق بصيحات هائلة فيصلي ويرمي اللحم الطري
... تنقض المخالب الأسطورية في عراك وحشي... من يقدس الآخر ؟ أنت ذلك الضعيف الآيل
إلى الانهيار والتآكل... المسافر وحدك في هذا العراء، المتقلب على أسنان تاسيلي
... أم هذا العملاق الساكن تحت ضراوة الشمس وعنفوان الريح والمخالب المحلقة. يكبر
في عينيك هذا الجلمود الصخري بنتوءاته العميقة ... بصخوره السوداء المحروقة...
بهلاكه وأشباحه، والعواء المجهول بين كهوفه . تزداد رهبتك عندما تختفي الشمس وراءه
تاركة للظلمة السيطرة وابتلاع الأمكنة . فراغ ... فراغ أسود يحيط بالأشياء العالقة
بالدوامة السوداء ... حتى تلك الفقاعات الضعيفة المتلألئة في كبد السماء تآمرت
عليك ... انحسرت عن مواقعها ... غطاها الرماد الكوني الهائل فأضحت الأشياء كتلة من
الظلمة الدامسة.
وحدك تتحسس أطرافك ... تمرر أناملك الخشنة على وجهك
الملفوح ... إحساس مفاجئ يشعرك بأنك ملك لهذا الجزء المنزوي . لا أحد يشاركك هذه
المملكة المنبسطة ... أنت حر من كل قيد ... من كل شرائع الأرض. تتفتح شرنقتك
الجديدة عن آدمي ركبته روح أسلافه ... كل الأشياء تدعوك بسيدها الملك ... اجتاحك
تحول كبير بدأ من أطرافك السفلى، ليغادرك من آخر نقطة في رأسك. جدك القديم منحك
السر الكبير... مفتاح الأشياء في هذه التخوم النائمة في التِّيه . بدأت ذاكرتك
تستوعب ما حولها ... تنتشي بعبق الطرائد ودقات الإزميل في جوف الكهف ... باللحن
الكهنوتي للوثن المقدس. بدأت تفهم اللغز العصي الذي يرسلك إلى الكنز ... يربط حبلك
مع طرفه الآخر الممتد إليك من القاع السحيق ... من الغار القديم المحروس ... تنتفض
الثيران الهائجة والغزلان والرعاة من جدران تاسيلي، فتغزو الصحراء بضجيجها وثغائها
... تناديك إلى الكهف المقدس حيث الصولجان واللهب وعبق الحنطة وأهازيج رعيتك تتغنى
بأمجادك ... تمطرك بصخبها وطبولها ... بحمى رقصها والبريق الغريب يشع منها... تنصبك
حاكماً مطلقاً للأشياء من حولك ... ينبثق النور الملكي من داخلك فيملأ الأروقة
وينداح إلى اتساع الصحراء. اللهب الأزرق تحت السقف يمنحك شعوراً بالعظمة ... يدفع
إلى عروقك حيوية تجعلك تغادر عرشك لتشارك الرعية رقصتها الوثنية . حمى الصحراء
وعنفوان الجبل تجرف الأجساد العارية الملفوحة، فترتعش تحت الشعاع ... مشهد الأسنة
المشرعة والبريق اللامع للكنز الأسطوري تثيرك ... همهمات الكاهن يباركك بفوضى من
الطلاسم والتعاويذ... يطعن الهواء برمحه ... يصرخ بوحشية هائلة ليطرد الأرواح
الشريرة عن القبيلة ... يشحنك بمزيد من الجنون المدمر فتسلم جسدك لسطوة الريح،
وصلوات الكاهن ... تحلق بجسمك الضاري فوقهم... تعلو حتى السقف ... ترتفع حتى تغيب
عنك الأشياء ... تحلق فوق القيعان الواطئة الغارقة في اللهب والحصى الضامئ . تسكنك
دقات الإزميل قوية رهيبة ... تنحت روحك ... تحولك إلى صلادة الصوان في الجبل ...
تدق الوثن في العمق ... في كل طرف من أطرافك... تنحتك عرشاً للريح في درى تاسيلي .
[1] عبدالحكيم المالكي، أفاق جديدة في الرواية العربية،دائرة الثقافة والإعلام
بحكومة الشارقة، ط.1، 2006، الفصل الثاني
أيضا: عبدالحكيم المالكي، استنطاق النص
الروائي، دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة، ط.1، 2008، الفصل الثاني
[2] سيزا قاسم/ بناء الرواية /80
[3] حسن بحراوي / بنية الشكل الروائي/ ص180 .
[4] محمد برادة/ مجلة فصول- القاهرة/ شتاء 1993م ص :20 نقلاً عن :
محمد
بن لامين /اللغة السينمائية في شرف لـ: صنع الله إبراهيم / ص233.
[5] محمد بن لامين /اللغة السينمائية في شرف لـ: صنع الله إبراهيم
/ص233.
[6]نقلاً
عن ترجمة سعيد بنكراد لكتاب "جوزف
كورتس" :
P:163j
courtes/Analyse semiotique du discourse,de lenonce a Hachette,paris,1991 :
منشور في موقعه على الأنترنت
Saidbengrad.free.fr/tra/ar/page7-6.htm
[7] أمبرتو أيكو /القارئ في الحكاية
/ص:47
[9] تحصلت على هذه المعلومة بخصوص زمن الكتابة وعلاقة القصة بالأحداث
المذكورة من خلال حوار خاص بيني وبين الكاتب.
[10] علي الجعكي، قصة حمى الرمل
[12]علي
الجعكي، قصة حمى الرمل
[13]علي
الجعكي، قصة حمى الرمل
[15]علي
الجعكي، قصة حمى الرمل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق