سلسلة اشتغالات حول
نصوص مميزة في القصة القصيرة (8)
مدخل لقراءة دور
العتبات في بناء المعنى في مجموعة السوأة لـ"عبدالله الغزال مع ملاحظات حول الرؤية والعتبات في رائعته المميزة : قصة البكماء من نفس
المجموعة أرفق مع القراءة صفحة ابداية في المجموعة وكذلك قصة البكماء.
مدخل
تعد مجموعة "السوأة"
لـ"عبدالله الغزال" نمطاً جديداً من أنماط الكتابة السردية على مستوى
البناء –من خلال تقنيات السرد الحديثة– وكذلك على مستوى شعرية اللغة وكثافة الصورة
إضافة إلى العامل الأهم –في
اعتقادي– وهو طبيعة العوالم والمجتمعات التي تشكلها مجموعة
"السوأة"، فمنذ البداية يحيلنا المقطع الأول السابق للقصص للعوالم التي
يريدها الكاتب وللمستوى الفكري والثقافي الذي يريد القارئ أن يتحرك في حدوده
ولنتابع هنا جزء من هذا المدخل لنعمل ما هي العوالم التي أراد الكاتب أن يضع
القراء فيها :
""تصدير
..قبل
أن يحين موعد فتق الرتق العظيم لتنفصل السماوات العالية عن الأراضي الواطئة، وقبل
أن تبدأ الأجرام الجبارة شعائر السبح العظيم في أفلاك الزمان، وقبل أن تتعرَّى
سَوْءات الكائنات في فجيعة الإنزال من عالم الجَمْع إلى عالم الفَرْق. من عالم
الـحُسْن المطلق إلى دنيا الضياع والتشتيت .. قبل ذلك كله، ساءل الزمانُ الزمانَ،
وساءل المكانُ المكانَ عن سر الغيب الجديد، عن طلسم الطور الجديد .. تململت الأجرام
في طَوَفَانِها، وبدأت ظلال الخليقة المدفونة في العدم شعائرَ الخصف ناظرة ميعاد
انكشاف السوأة الكبرى، يوم لا يشرب الإنسان إلا من دم الإنسان، ويوم لا تبني
الكائنات أبدانها إلا من لحوم الكائنات. يوم تغضب الأرض الكبرى من طوفان الوجود،
ويلوي عنقَها الحنينُ الفادحُ إلى أزل الرتق القديم."[1]
إن
المقطع السابق الموجود في بداية مجموعة السوأة القصصية يوضح طبيعة المنهل الذي
ينهل منه الكاتب، فنحن من خلاله ندرك طبيعة العوالم التي تحيلنا مجموعة السوأة لها
بينما
المناص
السابق في السوأة يحيلنا الكاتب من خلاله كما رأينا لعوالم الروح والقيم الدينية الكبرى، عبر النسج
الرمزي وكذلك من خلال طبيعة العنوان الأول
"السوأة" الذي يعني العورة ، ونجد عتبات أخرى أمام كل نص، بعضها من عند
الكاتب نفسه تحت اسم الشخصيات التي يبنيها، وبعضها الآخر نصوص من القرآن والحديث
الشريف، وندخل للنصوص فنجد مباشرة لغة مختلفة عن روايته الأولى
"التابوت"[2]؛
ففي حين كان هناك في "التابوت" مزج بين العالم الرمزي وتقنيات كتاب
الحساسية الجديدة مع العالم الواقعي، نجد أنفسنا في أغلب نصوص مجموعة
"السوأة" في العالم الرمزي المتعدد المستويات، ونجد أنفسنا أمام كثافة
لفظية واستحضار مكونات الشخصيات، بحيث تحوّل كل نص إلى عالم لوحده وبدا من حيث
العالم المتشكل والمجتمع السردي قريباً إلى حد ما من مجتمع الرواية، ولكنه بعيداً
إلى حد ما عن المجتمع الواقعي المعهود.
إننا أمام عوالم خاصة ترجع بنا إلى عالم ما قبل
الوجود إلى عالم البرزخ، ومنها ننطلق لنعيد تيهنا مع الكاتب في المجتمعات التي
يشكلها. هذه المجتمعات غالباً ما تأتينا عبر طاقة التأمل وفي مساحة زمنية مفتوحة
في فضاء مكاني ساحلي قرب البحر.
بالإمكان استثناء قصة واحدة من القصص
السبع التي تتكون منها مجموعة "السوأة" هي قصة السجان الأخيرة. تأتي هذه
القصة مختلفة إلى حد ما من حيث بنائها ولغتها وشعريتها ومجتمعها الذي تشكله، وسنجد
أنها قد وضعت خارج العنوانين "السوأة" حيث العنوان الأول عنوان المجموعة
كلها الذي يصادفنا في الصفحة الأولى، بينما نجدها كعنوان ثانٍ لقصة هي "السوأة"
التي تمثل القصة السادسة ضمن نصوص المجموعة، بحيث كانت السجان خارج السوأتين.
عتبة
قصة البكماء:
عتبة
قصة البكماء –القصة الثالثة من قصص المجموعة السبعة – آية قرآنية من سورة
السجدة وحضور مقطع منسوب للبكماء . الآية
كما يلي
"بسم
الله الرحمن الرحيم
(
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ،
وَبَدَأَ خَلْقَ اْلإنسَانِ مِن طِينٍ )
صدق
الله العظيم ( السجدة الآية 7 )"[3]
بينما
كان المقطع الذي كتبه الكاتب ونسبه للبكماء كما يلي
"ما
سر ذلك الغيهب الموجود في اللاوجود؟ ما لغز ذاك الطلسم المجهول الذي يطل فجأة في
اللحظة الخالدة الممتدة بين نقطة النفخ وابتداء البعث؟ على أي سلاح أبدي مميت تشحذ
الكلمات حتى يتطاير من جوانب خلقة القول شرر البيان الموجع؟ ما سر اللسان؟ ما سر
الطين؟ ما سر العودة؟
" البكماء ""[4]
وبمتابعة
القصة نجدها تتحدث عن الأنثى التي تعاني من فقدان القدرة على الكلام، وكان الراوي
عبر اللغة الشعرية التي تتميز بها المجموعة يرسم لنا طبيعة هذه الشخصية وحكايتها
مع أمها وطبيعة شعورها-هي الفاقدة للقدرة على الكلام- بالتحولات الحاصلة على جسدها
كأنثى. ويصبح حضور الآية التي تتحدث عن الكمال والمقطع المنسوب للبكماء الذي يشير
لسر الحرف والكلام منطلق أول لوضع القارئ في طبيعة كينونة الكلام ومدى تحقق غيابه
لدى البكماء.
الرؤية في قصة
البكماء:
لنتابع هنا
صورة اليوم من خلال الفتاة البكماء في قصة البكماء التي اعتزلت العالم بعد تحولها
من الطفولة للشباب وظهور علامات الأنوثة عليها.
المعبر الذي يتم التصوير عبره هي روح هذه
البكماء، وزاوية النظر هي الروح سابقة الذكر وهي تنساب مثل النسيم من مكان لأخر
ليلتقط من خلال انسيابها الراوي صورا تتناسب مع ذات البكماء:
"مثل
كل خريف ، قبل أن يحتويها المكان المنهوش بضجيج الشوارع وأبواق العربات، تفيق. في
دنياها المحجبة المرصعة بالرؤى والأحلام. يظل جسمها ممددا على الفراش، وتخرج روحها
الهائمة تعبر الشارع الواسع ثم تتجه غربا. تجوب مرج الرابية، ثم تنزل إلى نبع
الجبل. تغتسل في دفق الماء المتفلت من ظلمات الصخر، حيث تتسلسل أنهار خفية. تهبط
الروح المستهامة مع مساقط الماء الملون بلون سماء الصباح الموردة ولون الجلاميد
المغسولة بالرحيق. تسبح. تهيم مع ضوء الشمس..."[5].
إن القناة الخاصة المستخدمة للتصوير تجعل من
اللفظ مناسبا لها ولتكوينها فنحن هنا مع روح نقية تعيش حالة تصوف جمالي غريب ويتم
عبرها كقناة تصوير العالم كما أن زاوية النظر تصبح انسيابية مع تصورنا انسياب تلك
الروح.
ولنتابع هنا
مدخل هده القصة حيث بدأت من خلال صورة الفتاة البكماء وعدسة القرب التي ترسم ما
تعانيه على مستوى حاسة اللمس والبصر:
" اليوم
أفاقت منهكة .!
بعد أن ضربتها
الأم بالعصا البارحة، أفاقت في الصباح مكدودة البدن. تحسست أثار الضرب. لسعها
الألم. وقفت. رفعت ثوبها إلى أعلى ونظرت. وجدت خطوطا زرقاء بارزة، منتفخة توسم
فخذيها. لمستها. ضغطت عليها فأحست بالألم أكثر. بقيت زمنا تتلمس صمت الجدران،
وتستشعر ألم الضرب في بدنها، وقفت في الشباك كالعادة، ثم ارتقت الدَّرَج إلى سطح
البيت. لاح لها البحر، وصدمها تدفق الهواء"[6].
نلاحظ وعي
الراوي بحقيقة القناة التي يتم عبورها (البكماء) حيث يتحول ما يفترض أنه على مستوى
حاسة السمع لحاسة اللمس( بقيت زمنا تتلمس صمت الجدران)، سيلاحظ كل من يتمعن بعمق
في مجموعة السوأة أن الصورة كانت تتحرك ضمن الحدود القصوى لمنظومة القيم الدينية
والروحية وعبر جدل مستمر للموت والحياة ساهم فيه بقوة تلك الصورة الأولى التي وضعت
كعتبة أو كمدخل للعمل التي ترسم حقيقة العهد القديم الذي كان قد عاهده ابن ادم.
كما أننا هنا أمام حركة أكثر تنقلاً لعدسة السرد وقنوات أكثر انفتاحا من رواية
التابوت[7]
التي بلا شك أقرب للنص الواقعي من مجموعة السوأة القصصية، ولقد لاحظ هدا البعد
القيمي الناقد العراقي : صالح هويدي حيث يقول:
"إن ما
يجعل من النص السردي للقاص عبدالله الغزال متميزا هو اشتماله على عدد من الثيمات
والخصائص الفنية، يقف في مقدمتها تلك الموضوعة التي تتغلغل في نسيج قصص القاص
جميعا، مازجا فيها بين الواقع والمتخيل، ومشتغلا على ثيمة الرؤية الدينية، بوصفها
بدءا وخلاصا، رؤية ونذيرا.لكن الرؤية الدينية لا تحظر في نصوص القاص على النحو
التقليدي للقص..." [8]
عبدالله
علي الغزال
السَّـوْأة
( قصص )
![]() |
المجموعة الحائزة على الجائزة الأولى بمسابقة الشارقة للإبداع العربي 2004
![]() |
إلى الأم الكبرى
ليبيا
حيث
يقبع الزمن
تصدير
|
المؤلف
![]() |
|
( خصف الطين )
|
- 1 -
اليوم
أفاقت منهكة .!
بعد أن
ضربتها الأم بالعصا البارحة، أفاقت في الصباح
مكدودة البدن. تحسست أثار الضرب. لسعها الألم. وقفت. رفعت ثوبها إلى أعلى ونظرت.
وجدت خطوطا زرقاء بارزة، منتفخة توسم فخذيها. لمستها. ضغطت عليها فأحست بالألم
أكثر. بقيت زمنا تتلمس صمت الجدران، وتستشعر ألم الضرب في بدنها، وقفت في الشباك
كالعادة، ثم ارتقت الدَّرَج إلى سطح البيت. لاح لها البحر، وصدمها تدفق الهواء.
حجب عنها ارتفاع الأبنية مشاهدة الجبل.
لطالما
حيرتها الحياة والمدينة!
المدينة
يحوطها شاطئان من الجهتين الشرقية والشمالية، ومن عمق البحر يتقدم لسان مائي عريض يتوغل في العمران السامق بالأبنية حتى يكاد أن
يشطرها شطرين لولا بروز اليابسة فجأة لتسد عليه الطريق لتفسح للأرض امتداد طينيا
سهلا يتوسع شيئا فشيئا حتى يفضي إلى البرية. من الجهة
الغربية ترتفع رابية تحوطها أحراش النخيل، ثم تتمهد الأرض لتلتحم بعد قليل
بدغل كثيف من الكروم وأشجار الفاكهة. في نصف المسافة بين حشد النخل والدغل تضرب
دوحة عملاقة بجذعها في الأرض، وغير بعيد يشمخ الجبل المكلل بالشجر، ومن سفحه الوعر
المطل على أحراش النخيل والدغل تنبثق عين الشلال. يصنع الماء المتهاطل بحيرة صافية
محاطة بتراكيب صخرية، ثم يتشعب فائض الماء إلى جدولين سريعين، يتلوَّى الأول في
مجرى أخضر لامع، معشب الحواف ناحية تلافيف الأشجار، ويركض الآخر مُخرخِرا في الأرض
الوعرة ليهوي في زرقة البحر.
على الجانب الرملي
للشريط البحري الراكد تترامى المراكب وورش البحارة، وعلى الضفة الوعرة الأخرى
تنغرس صخور صانعة حائطا متشعب الارتفاع تكسوه الطحالب، يتلاحق بطول الضفة وتتخلله
دروب تصعد ملتوية إلى هضاب خضراء منبسطة القمم، تمتد، ثم ترتفع شيئا فشيئا حتى
تتسلق السفح الخلفي للجبل. حيث يقفز من الجهة الأخرى الماء السلسبيل هاويا إلى حوض
الصخر.
أما في الجنوب فتستسلم الأرض لضرب عميق من
الحزن، تتشقق الأرض عن عشرات الأودية العميقة الواسعة، وعلى ضفافها تنتشر صحراء
بلون أسيف ، تتناثر في أرجائها المشوهة أشجار عتيقة، ضئيلة، مشققة الأغصان، وتمرح في
فضائها أسراب موغلة في الرحيل والأسى لطيور جزعة، وكائنات أخرى تتسحب في خفاء على
الأرض اليابسة.
- 2 -
دأبت الفتاة على
الصعود إلى سطح البيت تشاهد البحر وتتأمل إمتدادات السهول، وتتابع خفقان أسراب
الطيور المهاجرة عبر الفصول.
ككل يوم. على سطح
البيت أو في شباكها تمكث ساكنة. تَعبُّ بصدر يورده الانتشاء الهواء القادم من نبع
الجبل منذ الصباح الباكر، وتظل في شباكها تراقب عودة الحياة على حمرة الفجر وألق
الصمت قبل أن تشوهه المداخن وصياح البشر.
ترقب سير الفصول في
صمت. تمشي بفستان أزرق وساقين أبيضين. تلحظ في كل شيء إشفاقا وحنينا وبكاء لعودة
مجهولة. منذ أيام ألقى البحر جثة سلحفاة عملاقة. كانت نتنة الرائحة، ولكن سرعان ما
اجتمع الصبية. ربطوا الجثة بالحبال ثم جروها مجتمعين فوق تعرجات الرمل إلى قبر
حفروه في الرمال. زمجرت الرائحة العفنة، وترك الجر العابث طريقا ملطخا بسوائل
قرمزية اختلطت بلون الشاطئ. كان الصبية يتراكضون وهم يهيلون الرمال المملحة على
هيكل السلحفاة الصلب. هل تعود الأشياء إلى أصلها؟
كم مرة شهدت مواكب
السلاحف الغضة وهي تذرع الرحلة خارجة من جوف الرمال، عائدة إلى رحاب البحر العظيم
؟، كم مرة شاهدتها في أوبها الغامض تسير في طوابير كطوابير النمل، يتلقفها الموج
كما تتلقفها كلاب الشواطئ وأفكاك الأسماك المتوحشة؟ .
كان بعضها يغيب في
ظلمة المياه. كانت ضئيلة. تسير في حميمية مشوبة بإيماء غريب. تسير. يُسيرها سحر
القدر. في دبيبها الصامت المطمئن، رأت بعضها تنخطف عائدة إلى السماء، تطبق عليها
مناقير طيور لم تشهد لها مثيلا بين الأطيار التي تجوب السواحل. كم مرة شهدت فراشة
الضياء البيضاء وهي تخفق بأجنحة خفيفة كأجنحة الملائك وتهيم في البراح المسحور، ثم
تطعم نفسها لسلطان الحريق ؟. تحترق الأجنحة الفاتنة، وسرعان ما يتنفس الهواء
بالشذى الغامض.
كم مرة ذهبت إلى
الأحراش قرب النبع الجبلي في الليل؟ كم مرة سمعت الحشرات؟ وهي تنوح بنشيدها الأبدي
المجهول ما إن تنتشر أردية الظلمات ويغرق الكون في السكون.!
منذ أن كانت طفلة
وهي تستهل يومها بالحيرة!
تفيق على مرح الطيور
المتزاحمة في شباكها. تتسلل إليها السقسقة فتقوم، تناغيها. تضاحكها. ترفرف معها
بيديها ، ثم تتحرك الشوارع، وتعود الكائنات المرحة إلى عالمها المجهول. تُتَابعها
وهي تنطلق بعيدا . تجوب الطيور الساحرة الفضاء في شعائر خالدة. تجوس خلال البيادر
الحصيدة والسهول، ولكن ما إن يشرع النهار في رحلته الصاعدة حتى تؤوب إلى الأحراش .
يكتنفها الظل السابح في السكينة. تحط فوق الأغصان. تفتح مناقيرها. تستمع إلى
الزواحف وهي تمرق فوق الأوراق الجافة . تراقبها بعيون مفتوحة وترقب أيضا سريان
الزمن وانحسار الوميض. ثم تقلع مرة أخرى. تعود الصبية لدنيا الضياع، تسمع هدير
الموج فتئن، وتستمع إلى تهاويم الريح بين أحراش النخيل، تسمع الطيور فتئن. تنصت
إلى الطيور تتغارد من بعيد فيتنامى في صدرها الحنين. تئن. يرتج الصدر بلحون الشجن.
تخرج. ترمي بنفسها على أشطاط البحر الخالد تسترق السمع إلى ما يتصاعد في الفضاء
الساحر من أنفاس بائدة. في شباكها تحاكي منطق الطير. تفتح فمها وتئن. تئن أنينها
القديم، فترد الطيور الحائمة بأنغامها الشجية. تفهم لغة الإيماء، اللحن في حشاشة
الطائر المحزون هو السر والإيماء. يتخلق في صدرها كما يتخلق في حشاشات الطير. يبدأ
الزفير المكتوم كرجعات ناي بعيد ثم تعلو الصلصلة الخفية. تتكور. تتمدد في البرزج
المجهول. يرتفع الهتاف الخالد نائحا بألف لحن من لحون الدهر. تمتزج في الحوصلة ما
التقطه المنقار في الرحيل اليومي من أنفاس خافية تنفستها الأرض البكر مطلع كل
صباح، وما اختزن في البذور من أنفاس خالدة
على مر الفصول الأربعة، وما تحلب من أثداء الشمس الطاهرة من ضوء امتصته
أفواه الزهر في الأودية. يتخلق اللحن طورا بعد طور، وينساب الإيقاع مبتدأ بمنطق
النمل، وهديل الحمائم، ومراثي الحشرات الحزينة في الليل، وأغاني النبع البعيد في
الجبل.
تلح في السؤال حتى
يغلبها النوم .!
- 3 -
في الماضي ارتعدت
الأم عندما عرفت أن ابنتها بكماء ..
طافت بها الوالدان
على المشافي، وشيوخ العيساوية، ولكن فك طلاسم الأنين استعصى حتى على أشد شيوخ
العيساوية وقراء الغيب دهاء وحكمة.
شبت الطفلة موردة
الوجنتين، معسولة الثغر. في عينيها الجميلتين بريق الحسان. تودد إليها الكبار
والصغار. وبعد أن صار صدرها ثقيلا، ثريا،
شاهدها البحارة أيضا ترتاد الساحل بقوام لم يشهد له البحر مثيلا في الحسن والجموح.
تتهادى متنقلة على الساحل الرملي مبتلة القدمين بالزبد، تنحنى لتلتقط القواقع،
التجاويف الفارغة في هياكل القواقع على رمال البحر أثارها أيضا.! هذه الكائنات
الغريبة الصلبة. إلى أين تذهب الأجسام الرخوة ؟. تملأ علبتها بهياكل الأصداف.
ترجه. ترفعها إلى أذنها وتسترق السمع. ثم تسير صاعدة دروب حائط الصخر إلى حيث
يخرخر النبع في الجبل، أو تجوس خلال الأحراش.
في طفولتها ترافق
الأب إلى البحر بفستانها الأزرق. ترقب أصابع الصيادين الغليظة المشققة وهي تنسج
الشراك. على وجوههم تقرأ سيماء كدح السنين. تستمع إليهم يبرطمون بأفواه مفتوحة عن
أسنان صفراء نخرة. يتهارجون وينظفون الشباك، وما علق في خيطان الصيد من طحالب وأعشاب
لزجة. كانت تخاف منهم، ومن تلك القوى الغامضة التي يملكونها. تراهم يخرجون الأسماك
الصغيرة عنوة من جوف الماء الأزرق. تتلوى الكائنات الفضية تحت الشمس . تسمعها تصرخ
بلا صوت. تنوح. تريد العودة إلى صدر البحر.
لدى هؤلاء الصيادين
جيوش قديمة، قوية ومخيفة. هذه الكائنات البشرية الحافية نصف العارية، صدورهم
المشعرة الضخمة وهم يمشون على الرمال، أو يقرعون بمقامع الفولاذ سيور الحديد حول
أجسام المراكب الخشبية حتى يتطاير منها الشرر. تجلس البكماء وحدها كالغريب.
تُسَرِّح بصرا حائرا إلى المد المتلاطم الكبير وتشاهد هدير رغوة الزبد، ثم تتبع
بعينها مجرى مسيل الماء المتدحرج من عين الشلال. تتجمع في مقلتيها الصغيرتين دموع.
زمجرة البحر تُصَعِّد إليها نشيجا خفيا. تتجاوب أعماقها الصامتة بالأنين ويخيل
إليها أن الريح تناديها بمنطق مجهول.
يتصايح حولها
البشر..
يمتلئ سمعها
بالأصوات فترتج أعماقها بقلق مجهول.!
وراء أسوار دنياها
السرية حيث لا يروق لها إلا المكوث شهدت المراكب الخشبية وهي تعود خارجة من أفق
البحر العظيم تحمل على ظهرها الجنود المجهولين، وتراهم يفرغون الشباك من أكوام
السمك، ترى الكائنات الفضية خامدة . تحدق بعيون جامدة. ساكنة. يجتمع الصيادون
يقطعون رؤوس السمك. فتسري في جسمها رعدة. وتغير أسراب الذباب، يهشونها بالأنصال
الحادة الملطخة بالدم. رؤوس الأسماك الصغيرة المقطوعة تحدق بعيون مفتوحة. حزينة
دائما. يدفنها الرمل، وبعد حين تتحول إلى أصداف لامعة صلبة حزينة ترصع الرمال
والصخر. تنبت القواقع في الصخر، تنتظرها لتهتز وتكبر لتورق أسماكا حية، زرقاء،
لامعة، تنزل إلى البحر.
وفي السوق تتراص
حوانيت بيع السمك، ومن المخارج الخلفية للحوانيت يرمي الصائدون جثث رؤوس وذيول
الأسماك . تتعاوى القطط، وينفخ الصيف مع كل هاجرة رائحة نتنة شبيهة بالرائحة التي
أطلقها جر السلحفاة العملاقة على الرمال. رائحة الجيف. ينتفخ المشهد في الزحام
الكبير والأصوات واكتظاظات الخلق والبائعين، يعود الإيماء الغامض في أعماقها
يوخزها فتهرب إلى الجبل . صورة نبع الجبل وهذا البحر الواسع تصاحبها حتى حين
تستلقي لتنام. ترخي أجفانها. ترى حين يدلهم الليل وتهدهدها أيادي النوم الينبوعَ
المتألق بالنور يترقرق بأشعة حلوة، وتشاهد أشباحا بهية ملفعة ببياض كبياض الماء
تخرج من صدفات شفيفة ، لامعة كالزجاج تناديها، وتمرق سريعا بين جذوع النخل
الموشوشة بالصمت، وتشم عبقا غامضا. تجاهد لتفهم سر الأنشاق الغريبة التي تنتشر في
كيانها كله كلما خرجت تتأمل البحر أو دخلت تلافيف الشجر قرب النبع ، هذه الرائحة
الغربية. شيء كعبق الأرغفة المحروقة. أو كرائحة فراشات النور حين تلتصق محترقة على
زجاجات المصابيح الحامية.
هؤلاء الصيادين
أصبحوا مسنين الآن، يمشون بوجوه يطل منها حزن رهيب، حزن كذلك الناضح من أحداق
الأسماك المقطوعة الرؤوس. يحنون رؤوسهم الموشَّمة بأخاديد عميقة ، ويمشون ناحية
الجامع للصلاة ، تتبعهم كما كانت تتبع والدها في أيام الجُمَع. تراقبه وهو يرتدي
جلبابه الواسع الأبيض ثم يقصد الجامع. تتبعه. تتربص حتى ترتفع أصوات المصلين في
الفضاء. تقترب من نوافذ الجامع. تطل. تراهم يسجدون. تغيب. ترى في الغيب نوافير من
ضياء محمود تنبجس من مواضع الجباه المتمرغة على الأرض. ينابيع تتألق وتبرق مثل
مياه ينبوع الجبل.
ولكن في الشتاء
تنطلق أشعة مصابيح المدينة، ومصابيح البحارة كالإبر الحادة فتخيط أثوابا أخرى
لليل، وتعصف الريح أكثر. ويترنح التماع الموج على ضرب المجاديف فيبعثر الألق
المنعكس ويصنع رجرجة مهيبة. تدس نفسها مع أبيها تحت الغطاء . تمد رأسها. تستمع إلى
أحاديثه الخفيضة وهو يروي لها قصص البحر والقادمين من البلدان الغريبة البعيدة. وقصص
كفاح الأجداد ضد الغزاة الطليان، تستمع إلى ملاحم الموت، ويحتفظ عقلها بصورة
الشتاء على نحو أكثر ألما وأسى. حيرها كل شئ. لماذا تتزاحم الكائنات ؟ لماذا
تتقاتل الكائنات ؟. حيرها التزاحم. حيرها حتى تزاحم أكف المصطلين على نيران
المواقد في الشتاء.
في الصباح يخرج
والدها، ويتلون البحر بلون ضارب إلى الخضرة. لون شبيه بذلك الذي يصبغ الأفق قبل
ميلاد الشفق في الأيام الشديدة البرد. مِزَق مخضرَّة ، تحوطها هالات من لون
البرتقال. وتتزاحم السحب الثقيلة في السماء حتى في النهار. يصطبغ سطح البحر بهذا اللون. ويرتفع الموج ارتفاعا
وحشيا. يعربد، وتتحرك الريح. راقبت ذات يوم الأمواج العاتية في المرفأ وهي تفترس
مركبا خشبيا. ثم شاهدت رجلين يقتتلان . كانت الطفلة تتجول بفستانها الأزرق عندما
سمعت صياحا قرب المرفأ. وقفت. مرت لحظات قبل أن يتشابك البحاران في قتال رهيب. قبل
أن ترى أحدهما يهوي على رأس الآخر بعمود من الحديد سمعا هرجا. سباب وشتم، وصراخ.
اكتظت مسامعها بالأصوات. فوضى. ركضت جمهرة من البشر، وركضت هي فزعة.
بعد سنتين ابتلع
البحر الأب فتولت الأم تربيتها.
في اليوم نفسه الذي
حمل في عمال البحر نبأ غرق الأب كانت تتجول على الشاطئ ترقب عودته، وتنتظر رحيل
الشتاء. انتظرته طويلا، في عمق الليل عاد السفين الغائب إلى المرفأ من دون أضواء.
انبثق هيكله من الأفق المظلم ثم شرع يقترب. صارع العباب المجنون ليلتين في متاهة
الليل واحتدام الموج تحت قرقعة الرعد ووميض البرق. قال الناجون بأن الموج أهلك
معظم الصيادين.
في ذلك اليوم رحلت
السحب والأنواء منذ الظهيرة، وهدأ البحر هدوءا عجيبا، سكن سكونا يقشعر له البدن، كانت الأيام الماضية مترعة
بالمطر. أفاقت على نهار ساكن بلون الرماد وذهبت إلى البحر تنتظر الأب. انتظرت
طويلا، ولكن الأب مات. اختفى في غموض. حتى الريح توغل هو الآخر في شعائر غامضة
تشبه
شعائر الموت استسلمت الطفلة لحزن لم تعهده منها الأم من قبل.
توغلت في الصمت حتى علاها شحوب. توارت في دنياها المحجوبة. هامت بجمع الأصداف،
والإفاقة كل صباح على رفرفة العصافير. هامت بالطيور حتى تردد أن الفتاة البكماء
تفهم منطق الطير.
- 4 -
ولكن العصافير
الشادية انقطعت عن المرح في شباكها منذ حادثة الدم .!
في ذلك اليوم أثقل
الربيع الزَّهِر أغصان الشجر بالزهر شهورا ثم رحل. اخضرت الروابي، حتى الحائط
الصخري ارتعشت تجاويفه بالأعشاب الخضراء وضروب أخرى من الزهر الملون. غير أن
الربيع الراحل ترك البرد في الجدران، وترك لها في صدرها بذرتين. تصلبت حلمات الصدر
الصبي لأيام، ثم بدأ كائنان خفيان في التململ تحت الجلد. شيئان غامضان ينخسان
اللحم يريدان الخروج. فزعت أياما. بعد شهور أخرى بدأ شئ آخر قاس يعصر جوفها. جاهدت
أياما لتفهم سر الألم، ولكن النبوءة تحققت في الليل. كانت تجالس أمها صامتة حين
تقلصت أمعاءها على نحو مفاجئ. انتفضت فجأة. شعرت بالألم الوحشي يعصر أمعاءها مرة
أخرى، ثم ينكمش ويتبعه سائل رقيق، ساخن يسيل على فخذيها في قطرات جارية. قامت
راكضة ودخلت الغرفة. راقبتها الأم من فرجة الباب وهي ترفع ثوبها إلى أعلى وشاهدت
الخيط الأحمر يسح ملتصقا بالساق . أنزلت ثوبها بسرعة ولكنها لمحت شبح ابتسامة
خبيثة غامضة يتوارى في شقوق عيني الأم:
-
آاه ، هل أنت خائفة ؟، أنت ستصبحين امرأة، أنت الآن كبيرة وسوف تتزوجين، نعم
سوف تتزوجين ويكون لك بيتا وأبناء.
ارتعدت. ظلت الفتاة
صامتة ترتجف. تتزوج ؟. هي تذكر كيف كانت نظرات هؤلاء الصيادين. صمتت الأم أيضا.
تقرفصتا حول المدفأة متواجهتين كما اعتادتا أن تفعلا في ليالي الشتاء الطويلة
الباردة . الغموض، أو ربما الوجل لم يفارق وجه الأم. سمعتها تبرطم. أنزلت من على
أمها عينين خاويتين، التعبير الخفي ازداد غموضا. قالت الأم:
-
هذه البشارة هي علامة سر الحياة.
لم تنظر إليها
الفتاة، ولكن الأم سمعت نحيبها الصامت. أعادت السؤال :
-
هل أنت خائفة ؟
في الصباح أعلنت
الأم عن فرحتها، فأحست الفتاة بقلق خفي لأول مرة. وجمت وجوما مرعبا.
لم تخرج من وجومها
منذ الحادثة. اصطحبتها إلى الأعراس وحفلات الحناء ولكنها لم تطرب، ولم يعد المرح
الصامت الحزين لوجهها الساكن. وقتها فقط شعرت الأم بالفراغ الموحش الذي تركه
التفاف البنت نحو هذا الضرب الجديد من الاعتزال. العجائز أشرن على الأم بشيوخ
العيساوية ، عملت الأم بالنصيحة. تلمس شيخ الطريقة رأسها. نظرت هي إليه وهو يغمض
عينيه ويتمايل مجدوبا على أنشاق البخور الأصفر، وسارت نحو ضرب من الإيغال من الصمت
الموجع.
- 5 -
يقولون أنها لم
تتكلم إلا مرة واحدة .!
كانت ترافق أمها إلى
زحام المدينة قبل حادثة الدم بسنة، فرأت القصاب يحتز بسكينه رأس شاة. ثم رأته يفلق
بطنها ويخرج الأحشاء بيدين ملطختين بالدم . ويثرثر مع رجل آخر ضخم له الوجه الأصفر
نفسه. ركضت. تقيأت مرتين في الطريق، وأنت أنينا حزينا. هوت على الرصيف على وجهها
وسط بحيرة القيء واكتنفتها غيبوبة. ظلت غائبة عن الوعي يوما كاملا تهذي بكلام
مبهم. نطقت. فتحت عينها لحظة ثم أخذتها موجة أخرى من الظلام. أخذت الأم الرجفة.
ركضت مولولة " إنها تتكلم ، إنها ليست بكماء، " وتناقلت الجارات
والصيادون الخبر، ولكن بعد أن أفاقت عاد لها الصمت، ولم يلفظ لسانها منذ الحادثة
كلمة واحدة.
قليلون هم الذين
يذكرون الحادثة الآن، ولكن السؤال الذي ما فتئ يذرع تجاويف نفسها طيلة السنين التالية وهي تنصت إلى صمتها وتسترق السمع لهسيس الموج البعيد
هو " ثدي أمها لحم أيضا . عجبت كيف يأكل هؤلاء اللحم. هل يستطيع أحدهم أن
يأكل ثديا مقطوعا .؟"
لحت بعينيها بالسؤال،
واكتسب أنينها نغما آخر فيه ضياع أشد إيلاما وحرقة، ولكنها عادت إلى نفسها وعاودها
الشوق المجهول.
- 6 -
مثل كل خريف ، قبل
أن يحتويها المكان المنهوش بضجيج الشوارع وأبواق العربات، تفيق. في دنياها المحجبة
المرصعة بالرؤى والأحلام. يظل جسمها ممددا على الفراش، وتخرج روحها الهائمة تعبر
الشارع الواسع ثم تتجه غربا. تجوب مرج الرابية، ثم تنزل إلى نبع الجبل. تغتسل في
دفق الماء المتفلت من ظلمات الصخر، حيث تتسلسل أنهار خفية. تهبط الروح المستهامة
مع مساقط الماء الملون بلون سماء الصباح الموردة ولون الجلاميد المغسولة بالرحيق.
تسبح. تهيم مع ضوء الشمس وتتراشق الهدوء والشذى مع أكمام الزهر. تتنادى زهور
الإيقاح والنرجس بالهمس المعطر. تستمع الحسناء في مكانها البعيد للهمس النبيل.
تخرج الروح من فيض الحوض المتألق بالضوء الأزرق المترع بالسلسبيل مبللة. معطورة.
متوردة. تغرد بلغة الأنين في عرس العطر والزهر ولون الأشعة والضياء المائي وتصدح
حمائم الأجمة وأطيار المرج الطاهرة. تغرق الروح في السبح. ثم تفيق من غفلتها
العذراء. يناديها الجسم المستفيق هناك في الغرفة خلف جدران المدينة وأبنية
الإسمنت. تمتطي دخان الشتات والسأم. ترجع في خطفة عين. تعود للمستقر الأول. تختفي
في اللحم. تناديها الأم. تقضي أشطارا من الزمن متنقلة بين زوايا البيت، ثم يضيق
بها المكان فتهرب إلى حرم الشلال وبساط الرابية، في هذا العالم الخريفي الواسع ،
المشتت، عذبت في نفسها المزهرة صورة أخرى للحياة والكون، وفي مشيها بين زهور الإقاح
الكاسية ظهر الرابية، زرعت أكاليل من النور والعطر النفيس. واقتربت من سر الشوق.
في الخريف يتغير
البحر وتتغير الأبنية. تصفر الأدواح، وتتزين الدكاكين والشوارع بألوان مهتزة،
ويمتلئ إسفلت الشوارع والأرصفة بالأوراق الميتة، وتتزين الكائنات، ويكون بالإمكان
رؤية ذلك الصنف من البشر الذين يلبسون الزي الأزرق ويضعون القبعات القماشية وهم
يمسكون بالمقشات العريضة. يكشطون أسطح الأرصفة وحواف الإسفلت. تتهاوى أوراق الشجر
وتتعرى الأغصان، وتتعرى المدينة ويتدثر اليمُّ بخباء رمادي عاتٍ من الوجوم، وسرعان
ما يهبط ليل. الكواكب تنمق السماء في الليل وتكسبه حلة هيوبة من الصمت المشع. وفي
الخريف يهجر الصبية البحر، ويكون بمستطاع أهل المدينة رؤية الزبد المتكاثف وسماع
الهدير العظيم حتى في أشد أطوار سيطرة النهار . وفي الخريف أيضا يهطل المطر .!
في الخريف أيضا تصفر
الروابي وتهدل الحمائم في رؤوس النخيل، وتهجر الأجساد الموردة الندية ماء الشلال.
تغيب تحت المعاطف نهارا، والأغطية ووهج المدافئ حين يكبل سواد الليل الأبنية وتزهق
عيون المصابيح. حتى الظلام في الخريف يتحول إلى شيء رائع. يحتضن أطواق النخيل
المرفرفة بسعفها المفتون بالنسيم الرطب وأعشاش الحمائم الفارغة. ليل الخريف الجميل
يذكرها بنفسها حين تتوسد المدينة والبحر والرابية وسادة الصيف، وتغفو الأشياء
متلذذة بأعطار الزهر الباقية من سحر الربيع.
في هذا الليل
الخريفي تسير بخطا متهيبة. تشاهد كيف تتعرى الأشجار أيضا في تلافيف الأجمة. الشجرة
الكبيرة تقف مكشوفة أيضا. عارية. تتوتر أعرافها على صوت نقر ماء الشلال. تتكور
مواضع البراعم. يتنمنم جسد الصبية. يقشعر جلدها بحبيبات متوحشة، حلوة. يناديها
الانعتاق. الحضور الأبدي خارج ثوب البدن. تقف الشجرة الكبيرة عريانة مستعرضة
ذكريات الخلق الأول وما أنضجت عبر السنين من ثمار من لحمها الحي. ولكن إلى أين
تذهب الكائنات ؟، لماذا تتعرى الأشياء؟ هل من المحتم أن يعود كل شيء عاريا؟
- 7 -
في إحدى رحلاتها إلى
الدغل قبل شهور وجدت عصفورا صغيرا عاريا يتقلب على القش. راقبت العصفور الأزغب وهو
يكافح سيل الشمس ويتقلب فوق القش. بدا واهنا. توجعت بالحرقة واتخذت سيماء الإيماء
كيانا يوصلها للمس السر. رشت العصفور الضئيل بالماء. انتفض الكائن الصغير ورفع
رأسه. شاهدته ينظر إليها بمقلتين صغيرتين كسولتين فرحتين. حاورته بلغة المجهول
فاستكان على كفها ونام. مشت به خطوات داخل الأجمة الظليلة وفوق رؤوس الشجر علت
سقسقة الأم. أم الوليد ترفرف هاتفة بمنطق الطير. رفعته إلى أنفها. شذى شبيه بذلك
الذي كان يتسرب من ثدي أمها أوقات الرضاع. تلقم الثدي الكبير وتتشمم أريجا غريبا.
تسبل جفنيها الصغيرين ثم تمص الحلمة الصلبة وتئن. تشرع في الأنين الغريب. تمضغ
الوليدة الحلمة اليابسة وينهمر الحليب في حلقها دافئا. تهدهدها وتناغيها الأم وهي
في حجرها. تتمايل برأسها فوقها مدندنة بألحان شجية. ولكن الصغيرة لا تنام. تظل
تحملق في وجه الأم بعينين ساهمتين وفم صغير أحمر مبلل بالحليب. النهد الأبيض يطعم
فمها الصغير الجائع. يعتصر بالسائل الساحر اللذيذ مشيعا فوضى ناعمة. حياة نشطة
تسري في الجسد الصغير، ويتخلق الأنين. تئن الرضيعة. أنين فيه لوعة، وحيرة ، وتنام
بعد أن تجهد الأم مطبقة بشفتيها الرطبتين على الحلمة الصلبة.
أرجعت الكائن الصغير
إلى العش، وارتدت على أعقابها شطر النبع. وقفت بثيابها قرب المنحدر المائي الفاصل
بين الفراغ المنحوت في الصخر ومهوى المياه. وقفت تحت الماء لأول مرة. غابت في
الرؤيا، ظلت تسبح في رشاش الماء. ضمت ساقيها ، وأسلمت روحها لمداعبة خيوط النبع
الشقي. غمرها الماء. أغمضت عينيها. فزعت العصافير الشادية. تناقلت الخبر بسرعة
الريح واقتربت. ازدحمت الأغصان بالمناقير.
مكثت هناك حتى هبط الليل.
تلك الليلة لم تعد
باكرا. ضربتها أمها بالعصا. لم تفهم صوت أمها المجلجل. فهمت فقط الإحساس بالألم.
لم تدرك على نحو حقيقي لماذا تهوي أمها عليها بالعصا لتسلخ جلدها.
-
أين كنت ؟ هل تريدين أن تجلبي لنا العار ؟ أين كنت ؟
حدقت إلى أمها بنظرة
فارغة. فيها إشفاق وسكينة غامضة، وربما ضياع، وغفران وتوسل.
منذ ذلك اليوم اضطرت
الأم أن توصد عليها الباب في الليل حتى لا تهرب إلى الجبل، ولكن لم ينفع عقاب
الأم، استمرت الفتاة تخرج كل ليلة في غفلة منها ومن المدينة.
- 8 -
الشوق المجهول اليوم
أيضا يناديها مرة أخرى. قررت الخروج إلى الجبل..
أشرق شباكها مع
التماع مصابيح الطرقات وأضواء السيارات المبكرة قبل أن يستحيل الانطفاء المستطيل
المنحوت في صدر الليل والمبنى إلى منبع مستقيم الحواف من الألق المشع المذهب.
اكتمل الرسم الأسطوري في مشهد اللوحة بظهورها في قلب النافذة. سرت الحياة في
المشهد الجامد مع حركتها وهي تنحنى لتتكئ على مرفقيها لترقب الشارع. تحللت خصلتان
من الشعر المسكوب لتذرع مع الهواء المساحة المسحورة حول الوجه الصباحي الفتان.
ملأت صدرها من الهواء الصباحي الجديد الرطب المرصع بأفياض الفجر، فتدفق سر الحياة
إلى وجنتيها وثغرها فاستزادت من الهواء الرطيب. ابتسمت وحدها تحت الظلة المزهرة.
نسيت آلام الضرب بالعصا. تسللت نسمات الفجر الباقية عبر فتحة الفستان أسفل النحر.
عبرت الفراغ الخفي وقرصت النهدين الصلبين فامتلأ الجسد البديع كله بحبيبات
الاستشعار اللذيذة. ضمت ذراعيها لتحفظ سر العشق المجهول. تكور النهدان الفتيان. في
الدفء المكنوز بين الكائنين الساحرين شعرت بملمس السلسلة باردا. ارتقت الشمس سريعا
في السماء. ارتقت الدرج. راقبت الخريف من على سطح البيت ثم نزلت، وتوجهت ناحية
الشلال. اجتازت المنعطف الصخري واقتربت من الدغل، واحتواها الفضاء الرملي المبلل
برذاذ الماء. وقفت هناك ثم عبرت إلى باحة النخل. استلقت على ظهرها في الظل الندي.
صنعت الفرجة في تشابك رؤوس النخل شلالا من الضياء. حاولت أن تسمك بخيوط النور.
الخيوط الخفية التي تشد الأشياء إلى المجهول . ولكن سعف النخيل ظل يتحرك مبعثرا
حزم الضوء الأبيض. راقبت طائرا حط مرفرفا على حافة الحوض الصخري المرصعة بالأصداف.
احتسى الطائر حسوتين من الماء ثم فزع وفر إلى السماء. فر الطير الساحر ملقيا نظرة
تقطر بالماء المقدس إلى أسفل. سقطت قطرة الماء في البركة الصغيرة الصافية وتماوجت
الصورة. خيل إليها أنه الطائر نفسه الذي أعادته إلى العش منذ شهور. رجعت إلى
البيت، نهرتها الأم، ولكنها تركتها وغلقت على نفسها الباب.
في الظهيرة وقفت في
شباكها. في الشارع رأت سربا ضاحكا من فتيات المدينة سيرن ناحية البحر الهادئ. تبعت
الفتيات. ظلت تلاحقهن من بعيد. منذ زمن وهي تتبع الفتيات إلى البحر والنبع.
تراقبهن وهن يعبثن في ماء البحر أولا ثم يسلمن أجسادهن لماء الشلال. اليوم تبعتهن
أيضا . تزاحمت الأبدان الطرية تهت مهوى النبع الجبلي بعد أن عبثت بها الأمواج.
استباح ضياء القائلة والظل والماء اللامع الأجساد الدافئة. انهمرت خيوط الينبوع
الحميم على اللحم الآدمي، عبث النسيم بالجدائل المحررة المبلولة، وشعت من أجساد
الحوريات نيران هادئة موردة. استمر الماء المتهاطل من عين الشلال يلثم الأثداء
العارية. لمعت الأرداف ببريق الماء الفرات. وتنفست الريح بضحكات الصبايا السافرات
وصداح الحمائم الغافيات في سكون الهجير. قَفْزُ الحسان تحت رشاش الماء البارد خلق
تلك الحياة الراعشة في الأجساد الندية الفائحة بشذى أزاهير الصخور. ونشر في صدر
البكماء ذلك النوع الغامض القديم من عدم الفهم والحيرة. استمات العبث والتراشق بالماء
السخي في الإفصاح عن نفسه. تضاحكت الفتيات وعلا هرجهن. أشرن إليها من بعيد
بالاقتراب ولكن الصبية التصقت بجذع الشجرة العارية. رفعت يدها. أشارت إلى طير بحري
يسبح في طبقات الفراغ ويحوم في طقوس خارقة. تبادلت الصبايا الكركرات. نادينها بصوت
جماعي ، ولكنها أصغت إلى الصوت البعيد. عبرت إلى الدغل. تفحصت العش. وجدت به
عصفورين أزغبين آخرين يشبهان ذلك الكائن
الأزغب الصغير الذي وجدته يتقلب على القش منذ شهور. نظرت إليهما. فوق الأغصان علت
سقسقة الأم. فهمت سقسقة الأم على نحو أكثر من منطق تلك المرأة التي جاءتهم أمس.
أعدت القهوة للضيفة ثم جلست تنظر إليها. نادتها المرأة. اقتربت منها في احتراس
الطير. كانت مخيفة. قدمت لها القهوة ثم تراجعت إلى الوراء. ولكن الأم نظرت إليها:
-
هذا الشهر تكملين عامك السابع عشر. هل تفهمينني؟، اليوم تبلغين من العمر هكذا
..! طيب ؟؟
كانت مستندة على
كفيها تأرجح ساقيها في الهواء تراقب أمها وهي تسحق شيئا في إناء نحاسي لامع
وتتحاور مع المرأة ببرطمة البشر. تابعت بسمعها الرنين المتطاير من إناء النحاس
وأسدلت جفنيها، فيما عادت الأم:
-
انظري، هذه حناء العرس .!
ارتعدت البكماء. كف
ساقاها عن التأرجح. تذكرت الصيادين، لا لن تعود لقوقعة الرجل. بعد حادثة الدم بزمن
قصير وتلك الكائنات تطاردها بعيون شرهة فيها عمق متماوج بشيء بشع، وبعد أن صار
صدرها ثقيلا فيه سخاء رصدت في عيونهم نظرات طافحة بالدم. هذه المرأة تشبه تلك
الإفرنجية القاسية الوجه في مشفى المدينة وهي تحز بمديتها القاطعة السرة اللزجة.
انكشف أمامها المشهد الغامض البعيد. أجرت قاطعة السرر المدية الحادة. قطعت حبل
الأم وانطفأ مع الحزة الشرسة فيض النور الأبيض. هي تذكر ذلك جيدا. يومها هجم عليها
نوع غريب من العتمة، ولكن الصوت الهامس الذي يأتيها من المجهول لا يزال يترك لها
في أعماقها منذ ذلك الحين في هجسات الليل دربا للعودة. العودة التي تراها في
تجاويف القواقع الفارغة . لملمت المرأة المخيفة رداءها وخرجت ، تبعتها الأم تحمل
إناء النحاس وبقايا الرنين يتبعها . لاحقت الفتاةٌ الأمَّ بناظرين كسولين ثم
استقامت تنظر إلى الجبل بعينين كساهما بياض. سمعتها الأم تئن أنينا فاجعا. نادتها.
لم تلتفت. ظل صدرها ينوح بالأنين المجهول. تذكرت الإيماء الذي لاح في عيني أمها
ليلة حادثة الدم " أنتِ الآن كبيرة ، وسوف تتزوجين ". ارتجف كيانها.
خافت. طاردها صوت أمها مرة أخرى "سيكون لك أبناء" .
عصف بها الشوق المجهول
على نحو شعرت معه بضياع ليس له مثيل. "سيكون لك أبناء". هي لا تذكر أنها
أنت أنينا أشد وطأة وقهرا من ذلك النغم الذي زفرته من صدرها يوم رأت أحد الصيادين
يغيب بإحدى فتيات المدينة في ظل الخميلة خلف الجبل. كانت هي تستمع إلى ثرثرة
العصافير في الهاجرة عندما رأت من مكانها الخفي الجسدين يقتربان من بعضهما البعض
تحوطهما هالة من نار. اقتربا من بعضهما البعض في سكون وجنون. مد الصياد يده بعين
جامدة وأزال الوشاح. انهمرت جدائل الفتاة وتورد الوجه بالإيماء القديم. امتدت يده
مرة أخرى تحل عقدة الثوب فوثب النهدان . بعض لحظة شاهدت المشهد المروع . الطين
يلتحم بالطين. نضح الطين بالعرق والوجع. خيل للبكماء وهي في ملبثها المستور أنها
رأت طيفا شفيفا بدأ في الانسلال من جسد الفتاة المتوجع ويغيب في الظل، ثم تقوم
الفتاة العارية ترتدي ثوبها بعد ذلك كظيمة الوجه.
أمضت زمنا تتجول
بعينين فزعتين، تتابع الأم الغامضة وهي تتنقل بين حاجيات البيت. بعد المغيب انسلت
من البيت مزعزعة الكيان. اقتربت. اشتمت عبق الأزاهير القانية. غابت الشمس وراء
التلة الغربية المكسوة بالعشب وامتد ظل طويل بارد. ركنت إلى اختصام الطيور العائدة
من ترحالها اليومي، ثم ما لبث أن عم السكون. هدأت. بقيت تتأمل المشهد حتى التمع
قرص القمر وسط البحيرة الصافية المحاطة بهياكل الأصداف، وسرت في الدغل جوقات حشرات
الليل، وصار بوسعها التنصت إلى خلخلة الأغصان. الطيور النائمة تتحرك في أعشاشها
الخفية فينكسر صمت الأغصان . يتعالى الحفيف الغامض ثم يهدأ، وتعود خشخشة الدواب
الليلية الزاحفة في هتك ستر الصمت. حاولت خلع ثيابها لأول مرة على مرأى من الشجر
العاري والماء المتهاطل . تخلصت من قطعة واحدة فتعالى تغريد طيور الأجمة الطاهرة،
وعبق الهواء بالليمون.
بعد عودتها من الجبل
في الليل ، قرأت في عيني أمها الغاضبتين وعيدا مجهولا قبل أن تشبعها ضربا بالعصا
مرة أخرى.
- 9 -
صوت أم أنشاق ؟!
استيقظت من نومها
فجأة بعد نتصف الليل .!
وشوشت لها جنية
الليل. انساب صوتها في الظلام قادما من جهة الينبوع الجبلي، تنهدت بعمق اقتفت أثر الصوت. صوت أم أنشاق؟، هي الآن بعيدة
جدا عن الأجمة وعن الجبل والرياض فأي أنشاق هذه؟ أي عبير مجهول، خرافي هذا الذي
يتسرب إلى أنفها وروحها وعقلها؟. الشوق الغريب يرتج في شرايينها. رغبة كالاشتهاء
المجهول. خرجت في الليل وقصدت الرابية. غاصت المدينة وراءها وأمام البحر في أحشاء
الصمت والصخر، وأمامهما سمق الجبل العظيم في عتو نحو السماء بامتدادها الخريفي
الواسع الملون المشتت. الموج المتهادي بين السفح وسكون الظلام ما كان له أن يرى
غيرها. دخلت الأحراش المظلمة. أفاقت العصافير النائمة والحمائم. حشرات الأحراش
النائمة في برد ليل الخريف استيقظت أيضا تستمع نقر ماء الشلال وتشهد كشف العودة.
صوت أم أنشاق ؟
تقرفصت بثيابها تحت
فيض الماء البارد. حملقت بعينين جزعتين إلى يم الظلمة المتلاطم. غمرها الماء
المنهمر. استقامت واقفة. بدأت تنضو عنها ثيابها. تحللت من لحاف الرأس أولا فانهمرت
كتل الجدائل البهية على ظهرها في كتل رجراجة باللمعان والبهاء. أحست أن الدماء
تزداد جريانا . خلعت قطعة أخرى. تعرى الصدر الثري. ثم خلعت قطعة أخرى. جرف الجدول
قطع الثوب ناحية البحر.
وقفت عارية تماما .
!
حاكى الردف المستدير
دائرة القمر. هبت نسمة باردة. ارتعشت أعشاب المكمن المبلولة. ضمت ساقيها وظلت
شاخصة. حملها موج أبيض محمود إلى دنيا الأسرار مثل قشة. رفرفت جنيات الليل فوق
رأسها رفيفا محزونا، ثم ابتلعها يم السكون . بقيت واقفة زمنا. لم تشعر بشي. لم
تتعب. ولم تشعر بالبرد. احتواها خدر مجهول.
ازداد هبوب الريح،
وتحول همس الموج إلى رفرفة خافتة.
ظلت العصافير تزحم بعضها
فوق الأغصان العارية في الظلام تتأمل الجسد المتوتر الصلب المرشوش بحبات الماء
البارد. ارتعشت. أغمضت الطيور عيونها ثم فتحتها. علت من مناقيرها سقسقة خافتة.
بدأت تتحاور بلغتها السرية.
توغل الليل أكثر،
وبدأ جسد الفتاة يتراخى، وعلى شفتيها المبلولتين أيضا ومض نور الفجر. أحست بالخدر
أكثر، وشعرت الكائنات الصغيرة المترقبة على أعراف الأشجار بالسكينة أيضا. عم صفاء
غريب. استمر الينبوع يدلق ماءه على البدن العاري، المتوجع بالحنين المجهول. يغسله
من درن الطين. أنصتت إلى ركض النهر الخفي في أعماق الجبل فتنفس الدم في عروقها عن
رؤيا جديدة. في مسير الدم خلال عروق الطين ينحسر سر الخلود، يتوارى بعيدا في ظلمة
الترب المعجون بالماء والحمأ والصلصال، في الطين اللزج المعطر بشذى الماء حملتها
الرؤيا إلى دنيا الأسرار. رأت البدء القديم البعيد . قصة الخلق . قصة البدء الأول
ونقطة الانتهاءة.
خيل إليها وهي تسلم
نفسها لرشاش الماء أنها ترى دموعا صغيرة مضيئة تسح من مقل الطيور الدَّهِشة
القابعة في الظلام. وخيل إليها أن منطق هذه الكائنات تحول إلى نعي فاجع. فجيعة
الدنيا وقصة الميلاد وآلام الرحلة وشقاء التيه في منفى الصلصال الأبدي. المنفى
الكبير الممدود بين لحظة البدء الأول ولحظة الخلاص والعودة إلى ملكوت النور.
ساءلتها أطيار الصبح
بصوت الوداع فتهيأت للوداع ..
أصاخت السمع إلى
الجلجلة الهامسة، الصاعدة من أعماقها. حمل لها شعاع الفجر طعم الهواء البارد
المرطب بأنسام البحر هذا الصباح.
همس الصوت بلغة الأنين
في أعماقها مرة أخرى ..
الحزن والسكينة لا
ينزلان إلا بعد أن يتخلص الكائن من قوقعة الطين والحمأ. خير لها أن تدخل العرصات
عارية من أن تعود محبوسة في صدفة يفوح منها رجس الإثم. مقبوحة مصحوبة أبد الدهر
بعتمة التيه والضياع.
صوت أم أنشاق ؟
بدأت تتسلق الصخور
قاصدة فوهة النبع. اقتربت من العين. شعرت بتدفق الماء يزداد عنفا. مد ألسنته
الرقراقة يحتضنها. تشبثت بالصخور. أدخلت رأسها في عمق الينبوع.
بدأ ضوء الصبح ينتشر
كهباء الفضة. تألقت الأشياء حولها واحتوتها سكينة. أدخلت رأسها أكثر، ثم بدأت تزحف
إلى غور الفوهة. اشتد اندفاع الماء. شعرت به يلفها بدثار دافئ. يشدها إليه. يضمها.
غاب نصف جسمها في الكهف المائي. انكشفت أمامها حقول الفردوس البعيدة المحجبة.
غاب جسمها كله في
عمق مجرى الماء.
مع خفقات أجنحة
الإصباح الأولى ناثرة رماد العتمة عن هيكل الكون. أطلت شمس حزينة، وارتعدت المدينة
بنبأ جفاف نبع الجبل، واختفاء البكماء.
مصراته – ليبيا
3 / 8 / 2004
[1]
عبدالله الغزال/ السوأة/ ص:5
[2]
عبدالله الغزال/ التابوت / دائرة الثقافة والأعلام بحكومة
الشارقة/2004.م
[3]
عبدالله الغزال/ السوأة/ ص:69
[4]
عبدالله الغزال/ السوأة/ ص:69
[5]
عبد الله الغزال/مجموعة السوأة /ص:84
[6]
عبد الله الغزال/مجموعة السوأة /ص:71
[7]
عبدالله الغزال/ التابوت/ دائرة الثقافة والإعلام بحكومة
الشارقة/ ط.1/2005.م
[8]
صالح هويدي/ قراءة نشرت بمجلة الفصول الأربعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق