محمد زيدان شاعر وقاص ليبي مما صدر له:
الأشياء الكثيرة المعروفة - قصص - المجلس الأعلى لتنمية الإبداع - بنغازي - ليبيا - 2004 الماء ليس أكيداً - شعر - منشورات المؤتمر - طرابلس - ليبيا - 2004
أضع هنا دراسة حول احد قصصه وهي قصة نجاة المنشورة في موقع القصة العربية، كما اضع القصة نفسها في نفس الملف.
يسرد راوي محمد زيدان في نصه نجاة، عبر رسم حالة الشخصية باستمرار وما يستجد عليها من أشياء تراها هي لوحدها فقط، صورة مؤسطرة لفراغ الليل في الصحراء عبر وعي هذه الذات ويخلق بذلك ما يمكن أن نسميه بالخطاب الغرائبي مستخدما لتحقيق ذلك العديد من التقنيات السردية أولها ما سنتابعه هنا -في بداية النص- حيث يقوم الراوي برسم صورة بانورامية عن وضع الشخصية، ثم يقوم بعبورها والتعبير على وعيها من الخارج عبر التماهي معها . البداية كما نرى فيما يلي مع (التلخيص).
"ممتلئاً بكل ما يحيله إلى (كتلة من رعب تمشي على الأرض بقدمين) ظل يواصل خطوه اللاهث".
ولتحقيق المزيد من التفعيل للخطاب ورفع الدراما كان على الراوي أن يدخل داخل ذات تلك الشخصية ويتفاعل مع حالتها العنيفة التردي ويرسم ما يراه من هناك، لنتابع هنا المقطع التالي ونحاول أن ندرك الدلالات الخفية للكلمات التي تأسست منها الصورة.
"(أ) مخترقاً هبات الريح الباردة التي تصفع جسد الظلام، فيما تتساقط الأشباح وكائنات الليل من حوله... (ب) تثير في أعماقه ارتجافات الخوف الكامن فيه منذ الأزل.."
إن ألفاظ (مخترقا، تصفع، تتساقط) كلها تدل على حالات أو أفعال قريبة من الشخصية وتعبر عن الخوف والرعب الذي يعيشه بشكل غير مباشر، بينما نجدها في القطع الثاني رقم (ب) تتحول بشكل مباشر حيث يدخل الراوي للشخصية ويعبر من الداخل –وليس بمجرد التماهي معها فقط- عبر جملة (تثير في أعماقه)، حيث أصبح الراوي هنا ليس مجرد متفاعل مع ذات ذلك (الخائف) وإنما متواجد في الداخل ومندس في العمق.
ولوضعنا في المزيد من التوتر وإرجاع أسباب الرعب لأبعاد منطقية يقوم الراوي بوضعنا في سياق (مقولة سابقة) ذات طابع علوي،
"لا يخرجون إلا ليلاً.. وحين حضورهم يشعر المرء بزوبعة باردة تتحرك في داخله!"
ولجعل هذه لمقولة أكثر فعلاً، سيصور لنا الراوي فعل تلقي الشخصية لتلك المقولة كما يقوم بجعل مصدرها واضحا (الشيخ). وينطلق الراوي ناقلا لنا ما يقوله ذلك الشيخ،
"أ) تداعت في خياله صورة ذلك الشيخ وهو يخبرهم عن ممالك الجن وجنود الخفاء وقدرة أفرداها على التجسد في كل الصور.. "...(ب) وقد يظهر لكم على هيئة كلب أو قط أسود أو شيخ عجوز أو طفل.. بل يظهر دائماً بصورة حسناء.. فاحذروا.. خاصة إن ظهر لكم في الخلاء..."! "
إننا نتابع صورة الشيخ مع تلخيص موضوعه الذي يتناوله، ثم في (ب) توضع أمامنا مقولات الشيخ نفسه، لجعل الحالة التي تعيشها الشخصية أكثر تجسدا وبروزا أمامنا.
ونحن بهذا الشكل سنتحول للشخصية من الخارج بعد أن اكتملت أمامنا كل حجج الراوي المنطقية لوضعنا في سياق الشخصية وما تعانيه.
هنا سيكون علينا أن نتابع عبر الصورة تأثير كل ما سبق على الشخصية، حيث يمارس الراوي هنا تفعيل تلك العقدة التي كان قد أنشأها أمامنا، ويجعل لقوى الطبيعية الفرصة لأن تكون فاعلاً مهيجا للوضع،
"صوت الريح يتموج منسرباً في أذنيه، مختلطاً، يعج بالضحكات والنحيب والصراخ والهمهمات و...
- ما الذي يجمع كل هذا...؟! إنهم قريبون لا شك!"
إن الرؤية قد انتقلت من الخارج للداخل، حيث نجد أنفسنا مع الشخصية وما تعانيه من هواجس، كما يصبح المروي لهم أكثر قربا من الشخصية عبر حديثها المباشر، عبر التساؤل السابق.
سنجد الصورة التي تعكس بعداً غرائبياً ضمن هواجس الشخصية ولكن من خلال الخارج وعبر التماهي بين الراوي وبينه
"... وجذوع النخل تتطاول في الفضاء، تهزها رياح الليل فتتمايل كجنيات ماردة ترقص في خبل ناكشة شعورها الشعثاء في فراغ العتمة المخيف!"
إن الصورة (ذات البعد التشكيلي) السابقة تضعنا فيما يمكن تسميته بالخطاب الغرائبي، حيث نكون مع الجنيات والشعور الشعت والعتمة المخيفة، ثم نجده هنا يوظف الاشتغال على الحواس وخاصة حاسة اللمس ليرسم عبرها المزيد من ألم ورعب تلك الشخصية
"(أ) خيوط لزجة.. ملساء.. كخيوط العنكبوت، تسيل على عنقه.. تحسسه.. أصابعه مرتعشة، باردة... وفجأة.. (ب) حملت الريح لأذنيه صوت امرأة تئن."
كما تابعنا عبر المقطع السابق كان الاشتغال في البداية على حاسة اللمس في (أ) ثم لمزيد من التفعيل نجدنا في (ب) مع حاسة السمع.
سيستمر الخطاب في هذه النص بنفس الطريقة حيث ننتقل من تماهي الراوي مع الشخصية من الخارج وطرحه هواجسها إلى لحظة النهاية، حيث يهرب للمنزل بعنف ويبقى للصباح في حالة هذيان
"استجمع كل خوف الأزل في ساقيه، وأطلقه في اتجاه القرية، فيما ظلت أصابع الليل تضغط على ظهره وتدفعه للركض المجنون."
ونجد في لحظة التنوير النهائية أنفسنا أمام انفتاح النص على العديد من الحالات الممكنة للتأويل حيث الشخصية يتلقى بعد خروجه من غيبوبته خبر موت عائلة في الطريق الصحراوي
".. وفي الصباح أخبروه:
...ليلة البارحة.. حادث فظيع في طريق زلة الصحرواي... السيارة كأنها كانت في فم عفريت.. وعائلة بكاملها.. قتلت..!"
إن لحظة التنوير كما نرى جاءت لتعيد المتوالية ذاتها وتؤكد للشخصية طبيعة فعل الجن، وهي بذلك مخالفة للمعتاد في النهايات .
تلخيص لما سبق:
وظف الراوي كما رأينا العديد من التقنيات لرسم حالة الشخصية، وكان يتحرك من الخارج للداخل ومن الشخصي الذاتي لغير الشخصي، بحيث يحقق بذلك رسم حالة الشخصية، كما كان يستخدم صيغة النقل وإيراد مقولات شخصيات خاصة لتفعيل الخطاب، هذه الشخصيات كما رأينا كانت غالبا شخصية الشيخ التي تتناسب مع البعد الغرائبي المطلوب تحقيقه، كما اشتغل على الصور (الحواسية) وكان ذكيا في توظيفها بحيث حققت له في كل مرة ما يبتغيه من تفعيل للخطاب، وجعل دراما السرد متعالية، وهو ما يتناسب مع الأجواء الغرائبية المشحونة.كما اشتغل في لحظة القص النهائية على الخروج من المعتاد عبر المزيد من التأكيد على حقيقة حضور الجن كقوى فاعلة ذلك الفضاء الصحراوي.
قصة نجاة
ممتلئاً بكل ما يحيله إلى (كتلة من رعب تمشي على الأرض بقدمين) ظل يواصل خطوه اللاهث، مخترقاً هبات الريح الباردة التي تصفع جسد الظلام، فيما تتساقط الأشباح وكائنات الليل من حوله... تثير في أعماقه ارتجافات الخوف الكامن فيه منذ الأزل..
"لا يخرجون إلا ليلاً.. وحين حضورهم يشعر المرء بزوبعة باردة تتحرك في داخله"!
تداعت في خياله صورة ذلك الشيخ وهو يخبرهم عن ممالك الجن وجنود الخفاء وقدرة أفرداها على التجسد في كل الصور.. "..وقد يظهر لكم على هيئة كلب أو قط أسود أو شيخ عجوز أو طفل.. بل يظهر دائماً بصورة حسناء.. فاحذروا.. خاصة إن ظهر لكم في الخلاء..."!
صوت الريح يتموج منسرباً في أذنيه، مختلطاً، يعج بالضحكات والنحيب والصراخ والهمهمات و...
- ما الذي يجمع كل هذا...؟! إنهم قريبون لا شك!
أحس بحلقه جافاً ولاحظ تسارع دقات قلبه على نحوٍ مرتبك.. القرية بعيدة لا تزال، وجذوع النخل تتطاول في الفضاء، تهزها رياح الليل فتتمايل كجنيات ماردة ترقص في خبل ناكشة شعورها الشعثاء في فراغ العتمة المخيف!
خيوط لزجة.. ملساء.. كخيوط العنكبوت، تسيل على عنقه.. تحسسه.. أصابعه مرتعشة، باردة... وفجأة.. حملت الريح لأذنيه صوت امرأة تئن.
اصطكت قدماه، وتصاعد في عروقه الارتجاف.. ترنّح في مشيته قليلاً، ثم بدأ يتلو ما تذكر من آيات..
هبة الريح الأخرى تحمل لأذنيه الأنين مكثفاً وصاعداً هذه المرة. توقف متجمداً.. يده على قلبه.. بسمل وتعوذ وأصغى.. هبة أخرى.. ويعلو الأنين، يطفو فوق الريح ويتساقط في أذنيه.. مجروحاً وواضحاً.. ثم ينفجر صراخ طفل رضيع.. وتدريجياً، ينحسر الأنين ويعلو الصراخ.. يتذكر كلمات الشيخ: "المرأة في الخلاء جنية.. وجنود الخفاء لهم قدرة على التجسد في كل الصور..."
استجمع كل خوف الأزل في ساقيه، وأطلقه في اتجاه القرية، فيما ظلت أصابع الليل تضغط على ظهره وتدفعه للركض المجنون.
غاص في حمّى الكابوس ليلة كاملة، يهذي.. يصحو، يتقلب، ينام، يهذي، وزوجته تقرأ عليه الآيات.. وفي الصباح أخبروه:
"...ليلة البارحة.. حادث فظيع في طريق زلة الصحرواي... السيارة كأنها كانت في فم عفريت.. وعائلة بكاملها.. قتلت..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق