الجمعة، مايو 11، 2018

الرؤية في أعمال بشير الهاشمي القصصية

سلسلة اشتغالات حول نصوص مميزة في القصة القصيرة (14)
بشير الهاشمي أديب ليبي من جيل التأسيس، كتب القصة والمقالة وغيرها من الأعمال الأدبية. بدأ كتابته منتصف الخمسينيات الثاني وله عديد المجموعات في القصة وفي مجالات ادبية مختلفة. اعماله في القصة مميزة بل له اعمال ازعم انها من روائع القصة الليبية القصيرة. اضع هنا دراسة حول جانب الرؤية في قصتين من قصصه.
مدخل
يتميز اشتغال بشير الهاشمي القصصي بالإضافة لما سبق ذكره فيما يخص الراوي باشتغال متميز على مستوى الرؤية حيث نجد ضمن بعض نصوصه اشتغالات غاية في التميز كان فيها الهاشمي مبدعا ومبتكرا.
أولاً/  توظيف فواعل غير إنسية كقنوات للرؤية:
لنتابع هنا اشتغاله في قصة شيء في قريتنا حيث نجدنا مع قناة للرؤية غاية في التميز:
"وثمة كلب صغير آثر أن يعبر عن احتجاجه لما انتزعته الشمس شئ ظلال كان يستمتع بها تحت شجرة الليمون فاندفع في نباح متواصل محاولا الفكاك من قيده المثبت بوتد قرب الشجرة وهدأ قليلا وكأنما شيئا كذا  أثار انتباهه فبقي منتظرا في تحفز"  
في المقاطع التالية من النص نجد الرؤية تمضي شيئا فشيئا لتصبح من خلال وعي فاعل خاص وهو (الكلب)، ويصبح هذا الكلب قناة وممرا للسرد ويرسم الراوي - في مقاطع بسيطة-  بعين ذلك الفاعل صورة للعالم، ويبدو خلف كل تلك الصور سخرية خفية من الراوي وخلفه القاص من كل ما يحصل، سنجد البداية برصده ما يحصل بين الكلب وصاحبة البيت:
"فقد (أ) "استقبلها بحفاوة واقفاً على قدميه الخلفيتين محركاً ذيله محدثاً همهمة مرحة.. ثم انقض على الإناء ملتهماً طعامه.. (ب) وليس ثمة ما يشعره بالزمن وهو يمضي من حوله فالغروب يزحف بهدوء محتضناً القرية وقد صبغها بلونه الداكن(ج) وبدأت أصوات الفلاحين تزداد ارتفاعاً وتباعداً.. هناك من يستحث عماله في إحضار البقرة وآخر يصرخ في ابنه طالباً إغلاق عين الماء.. (ج) واستكان الكلب بدوره إلى الهدوء مع اشتداد ظلمة الليل ونسائم ربيعية باردة تتسلل من بين أوراق الأشجار (هـ) محدثة حفيفاً وخشخشة تتلاقى كثيراً مع أصداء بعيدة"  
في المقطع السابق نجد في (أ) صورة (الكلب) وهو يستقبل صاحبة البيت فرحاً بطعامه، ثم في (ب) يدخل الراوي في وعي هذا الكلب (بشكل غير مباشر) ليطرح أمامنا عدم إحساسه بالزمن، مدللا على ذلك من خلال صور يراها ذلك الفاعل (الكلب). ثم في (ج) نجد اشتغال على حاسة السمع عبر الصوت وفي (د) نجدنا مع الكلب وما يشعر به من نسائم وهو اشتغال على مستوى اللمس. ثم في (هـ) نتابع تلاقي الصوت مع الأصداء البعيدة.
إن هذه الاستكانة واللحظات المميزة بالاستقرار والهناء الذي يعيشه هذا الفاعل سيتحول إلى العكس حيث أكتشف صاحب المزرعة سرقة اللصوص للحمار فانهال عليه ضرباً في (لحظة التنوير النهائية):
"لم يكن يدري أن ما سمعه ليلة البارحة من حركات ووقع أقدام كانت لأشخاص.. وأن الحمار قد سرقوه.. واندفعت الأيدي وانتزعت العصا منه ولكنه أقسم أن لن يتركه لحظة عنده.. وتقدم إلى قيده المحيط برقبته وفكه وضربه بقدمه.. ودار الكلب دورتين من أثر الضربة ووقع على الأرض.. ونهض مقترباً من صاحبه وأخذ يتمسح به ويهز ذيله ويهمهم.. ثم انطلق يجري متوارياً عبر أزقة القرية"  
إن الراوي يرسم كم رأينا حالة الكلب التعيس، وتحول وضعه سريعا من السعادة للتعاسة، وتمثل هذه القصة أحد أهم قصص الهاشمي تميزا من جانب الرؤية.
ثانيا/ الصورة واشتغال الرؤية والدخول لتبئير الوعي العميق في قصة (الليالي)
سيكون من الغريب أن نكتشف أن الهاشمي لديه اشتغالات فيها شيء من نهج تيار الوعي حيث يضعنا الراوي الخارجي في عمق الشخصية الداخلي ويجعله يتكلم. 
لنتابع هنا قصة (الليالي)، حيث يرسم الراوي شخصية شاب يعيش قلقه وألمه وحيرته الداخلية وهو يسأل ذاته عن سبب ممارسته للسكر. في آخر النص نجد حواره الداخلي:
"(أ) وارتسمت أمامه صورة رئيسه في العمل وعلاقة الروتين التي تشده إليه وصوته المترنح وهو يوبخه وينذره لآخر مرة بأن لا يتغيب أو يتأخر عن العمل (ب) – كفاية البنت ضاعت.. (ج) وتسهر مرة ثانية ونحكي على الخبزة اللي ضاعت.. (د) واتخذ هذه المرة وجهته إلى البيت وخيوط من العتاب تتسلل إلى أعماقه.. (هـ) سحقاً لأشجاننا ونحن نطلق لها العنان وسحقاً لمن يحمل الدموع وعاء يسقيه للناس.. وعلى بعد خطوتين منه عسل الحياة ورحيقها الملتهب.. (و) ودخل في هدوء إلى بيته ودون أن ينتبه إليه أحد أوصد باب حجرته (ز) وعلق أشجانه إلى أوهام الظلام (ح) – نام يا أخي نام.. تعيش وتصبح.. وتحب غيرها" 
حيث في (أ) نجد صورة الرئيس في العمل من خلال وعي الشخصية. بينما في (ب) نجده يطرح أمامنا كلمة من عمقه تعكس ما يدور في صدره من شجون. هذا الكلمة تأتي كحوار داخلي ضمن سرد خارجي (بضمير الغائب حيث نصبح بهذه النقلة أمام ما يمكن ان يعرف باشتغال تيار الوعي، وفي (ج) نجد أمامنا رد الشخصية – من عمقه الداخلي أيضا -حول ما نطق به في (ب) بينما في (د) نجد العودة -للداخل الأكثر عمقا- عبر الصورة الخارجية ذات البعد التشكيلي حيث الشخصية وخيوط العتاب التي تتسلل إلى أعماقه. ثم في (هـ) نجدنا بشكل سريع (من جديد) في الوعي العميق للشخصية وهو يعيش حالة صراع داخلي، وفي (و) نجد صورة خاصة من الراوي للشخصية ترسمه خارجياً ويتم فيها التركيز على أشياء داخل وعيه العميق، حيث يرسم الراوي دخوله مع عدم انتباه أحد إليه. بينما في (ز) نجد صورة ذات بعد رمزي تعكس الشعور بعدم جدوى أي شيء. بينما تختم القصة في المقطع (ح) عبر حوار الشخصية المباشر وهو هذيان أقرب ما يكون لاشتغال  تيار الوعي وهو يحكي عن مواضيع تهمه منها موضوع البنت التي ضاعت منه.
إننا كما نرى أمام تنظيم خاص للرؤية مع سرد منظم تمكن عبره الراوي (من خلال تلاعبه السردي) من الدخول للوعي العميق للشخصية، وجعلها أكثر تجسما وحضورا .
 ثالثا /انعكاس الرؤية العميقة للشخصية من خلال التصوير الخارجي قصة مبروكة أم الصغار نموذجا:
يبدأ القاص في هذه القصة منذ البداية في طرح الوعي العميق للشخصية (مبروكة) وإحساسها بدورها كزوجة من خلال العنوان الذي انتقاه بدقة (مبروكة أم الصغار) وإذ يمضي السرد نجد الراوي شيئا فشيئا يبدأ في تجسيدا إحساس الشخصية بالذات، وإحساسها بتكوينها الأنثوي المميز.
 لنتابع هذا المقطع الذي يجسد عبر البعد السمعي ما قلناه سابقا
"ومضت لحظات قبل أن يرتفع بعدها صوت قرقعة القبقاب على أرض السقيفة في دوي مثير وبتوقيعات متفاوتة وسبق فتح الباب حركة احتكاك ورنين سريعة أثارت انتباه مبروكة وذكرتها—الحدايد الكبار على ذراعها" 
إن الراوي و هو يصور ببطء غريب الحركة الخاصة بالشخصية (مبروكة) ينطلق ليدخل لعمقها حيث الجسد هو سر شعورها بالسعادة. كل ذلك التصوير كان يتحقق على المستوى السمعي بحيث يسمع الراوي ما تنتشي الشخصية بسماعه فكل الأصوات التي تنتج عن حركة الجسد تعكس ذلك الإحساس الخاص العميق بالذات وبالسعادة وهي تتحقق كما رأينا من خلال أشياء بسيطة تخصها كالقبقاب في الأرجل و(الحدايد) في اليد.
لنتابع هنا كيف يمضي الراوي في ممارسة المزيد من تبئير وعي الشخصية العميق عبر نفس اللعبة التي يمتزج فيها التصوير السينمائي مع البعد السمعي مع وعي الشخصية العميق وهو يطرح بكل فن. 
" (أ) ودفعت مبروكة الباب بمرفقيها بينما أحضنت الخبز بذراعيها(ب)  وعاد صوت قرقعة القبقاب محدثاً دويه من جديد مبدداً جو السقيفة الساكن. (ج) والجسد الممتلئ يهتز ويتمايل مع حركات المرفقين..(د)  ونشوة غامرة تنفعل بها تحس فيها أن الحياة زاهية(ه) ..ولعل ذكرى خاطفة مرت بها وعلى شفتيها ترتسم ابتسامة وتحدث بصوتها همهمة جذلة وهي تتذكر الفقي عبد السلام زوجها على غير ما تعود الناس أن يعرفوه " .
إننا كما نرى في المقطع (أ) مع اشتغال مبروكة بعمل الخبز حيث الراوي يركز عليها خارجيا بينما سيكون التلميح للعمق الداخلي من خلال الحضن والذراع، بينما يعود الصوت وقرقعة القبقاب التي تدل على التكوين الجسدي للشخصية في (ب) ثم في (ج) يدخل مباشرة لها ويصور خارجيا ما يفترض إن الشخصية تفكر به، ثم في (د) نجدنا مع الحالة النشوة التي تعيشها نتيجة لكل ما سبق.
 بينما نجد التلميح لطبيعة العلاقة الكائنة بينها وبين الزوج (عبد السلام) الذي يبدو مختلفا عن كل تصورات الناس حوله.  
إن الراوي وقد أخذ يرسم الجانب الأكثر فعلا على عمق الشخصية وهو إحساسها بوجودها كأنثى، سينطلق الآن ليرسم ما تفكر به، وهو إذ يقوم بذلك فإنه يمارسه دون الوقوع في المباشرة أو السطحية في السرد التي كانت تسم غالب كتابات القصة ذلك الزمن. 
" (أ)  وانحنت على المكنسة من جديد وهي تحاول أن تتذكر آخر مرة اشترى فيها الفقي عبد السلام قفطان لها وابتسمت/ بعد أن أدركت أن المدة طويلة.. من العيد اللي فات خلاص..(ب) مستحيل أن يرفض هي تعرف كيف تقنعه"  
في (أ) الراوي يمارس التصوير السينمائي لحركة الشخصية البطيئة، وهي تمارس أشياء منزلية عادية يومية، بينما يدخل للعمق ويعبِّر عما تفكر فيه في (ب) من خلال تلك الثقة التي تمتلكها الزوجة في ذاتها (هي تعرف كيف تقنعه).
بينما ستكون نهاية القصة مع تعانق البعد السمعي للصورة الذي يتجسد من خلال ارتفاع صوت الزوج بالآذان، مع البعد الداخلي العميق للشخصية، وما تفكر به، لتكون قفلة النص هذه متوازية مع بدايته، حيث كان القاص قد بدأ النص من خلال صوت (مبروكة) وما تفكر به.
"(أ) صوت الفقي عبد السلام ينطلق من مئذنة المسجد منادياً لصلاة الظهر.. (ب) وأسندت ظهرها  إلى الحائط (ج) وعيناها تتطلعان إلى أعلى لعلهما تحلقان بعيداً(د) مع صوت الفقي لعلها تحاول أن تحمل له أمنيات .. قد يكون من بينها قفطان .. ردي أو حتى تستمال" 
  إننا نتابع في المقطع السابق كيف يمارس الراوي تلاعبه السردي وهو يطرح رؤية الشخصية وينجز فعل بناء عمقها أمام المروي له ويجند لذلك تقنيات سردية مختلفة فهو يوظف الجانب السمعي في (أ) مع حضور شخصية الزوج وتعالي صوته في الفضاء، مما يعكس إحساس الزوجة الطاغي بتميزه، ثم في (ب) صورة الزوجة (مبروكة) وهي تمارس فعل استعداد للتأمل، ثم في (ج) تبدأ تلك الزوجة التحليق مفكرة ليمتزج التفكير في (ج) بالبعد السمعي في (د)، ونكون بذلك أمام نفس الاشتغال الذي أسس به القاص بدايات قصته، وهو ينطلق من البعد السمعي للبعد الداخلي العميق ليطرح الأمنيات والأفكار التي تهجس بها تلك الذات.
لعل ما يميز هذه القصة إضافة لكل ما سبق أن القاص وظف فيها صورة البيت الليبي العادي وفي يوم عادي حيث لا أحداث كبرى باستثناء حدث زواج الجيران  الذي يمثل في وعي المرأة الليبية الشعبية قديما وحديثا حدثا مميزا ومهما. 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق