الجمعة، مايو 11، 2018

جماليات الكتابة القصصية عند وفاء العمير



سلسلة اشتغالات حول نصوص مميزة في القصة القصيرة (10)
أضع هنا دراسة بعنوان : جماليات الكتابة القصصية عند وفاء العمير، وهي دراسة سابقة حول قصتين تم نشرهما في موقع القصة العربية للكاتبة. ا. وفاء كاتبة مميزة وتتمتع في بعض نصوصها بلغة شعرية خاصة مميزة وبقدرة على رسم حالات النفس المرهقة. أرفقت مع الدراسة مادة القصتين وهما:ذات مساء، و وجع يحتدُّ .

مدخل
 تكتب وفاء العمير القصة بلغة عالية الشعرية. هذه الشعرية مع رمزية في اللغة وحضور الهم الأنثوي باستمرار ضمن النص. قمت بانتقاء بعض النصوص التي كتبتها الكاتبة في أزمنة معينة ونشرتها في موقع القصة العربي  ، وكانت تتسم بخصائص مميزة وذلك  لمحاولة اختبارها بواسطة أدوات السرديات.
قصة (ذات مساء) 
نتابع بداية قصة (ذات مساء) يتحدث فيها الراوي عن البيت القديم وعن آلام الناس آنذاك وعن حالة إنجاب، لنلاحظ ما يبيحه النص من إمكانيات للسردي لكي يبدأ تحليله:
 " ذات مساء .. في وسط الحوش الترابي الداخل إلى صمت المكان .. ثمة ثرثرة نسائية خافتة حول موقد وإبريق شاي وأكواب موزعة على امرأتين تسكنان جداراً وحصيرة ." 
من الواضح أن راوي القصة بدأ السرد بالتأطير من خلال الإيحاء الزمني الذي يحققه تعيين زمن ممكن في مساء ما. يتم بعدها بنفس تقنية التأطير، تعيين الموضع المكاني للحدث: (في وسط الحوش). كما نجد بالإضافة لما ذكر سابقا، تلك الصورة الحاملة لمكونين، (ليسا من نفس المستوى) متناقضين. حيث الحوش يتحول ليكون له مكان في حاسة السمع (الداخل في صمت المكان) فيما نجد بعد ذلك الصورة التي ترسم ثرثرة تخرق الصمت ولكنها أيضا ثرثرة بصوت منخفض. 
الحوش الترابي الداخل في صمت المكان الذي تسكنه امرأتين (تسكنان جدارا وحصيرا) هو بيت القابلة (التي تولد النساء) فيما يبدو. يمكن أيضا أن نلاحظ في المقطع التالي كيف خُرِقَ هذا الوضع الخاص من خلال المشهد الثاني:
 "دخل أحدهم تمتطيه عشر من السنوات .. صاح في فزع يستغيث لأمه في الخارج ..هرولت المرأتان تاركتي أكواب الشاي والإبريق في الموقد الأسود العتيق .." 
   نحن في تصوير مشهدي على حاسة البصر كما أن موضوع الرؤية هنا مهم، حيث نلحظ بعض الكلمات الدالة على طبيعة مكون الشخصية التي ينطلق منها الراوي وهو يروي، فالعمر كما نرى يمتطي الإنسان (تمتطيه عشر من السنوات) كما نتابع تركيز الراوي على ما تركته المرأتان (تاركتي أكواب الشاي والإبريق في الموقد الأسود العتيق) إن الشاي والإبريق مهم جدا للمرأتين. هذه الرؤية كما هي عادة كل من يتقن السرد، تنعكس إلينا بشكل غير مباشر، ولعل هذا الموضوع من أهم الموضوعات التي تشتغل عليها السرديات.
يستمر التصوير السينمائي في القصة حيث في المقطع التالي نجد الصورة تأخذ أبعادا مختلفة بعضها واضح جلي والبعض الأخر غير جلي ويحتاج لجهد لفهمه لنتابع هذا المقطع هنا:
"في الزقاق الضيق ثمة امرأة تتوزع ألماً .. يتسلق أنينها المكتوم جدار صدرها المتهاوي، وكفّها يطبق على بطنها الّذي يتحرك فيه طفل .. ينازعها ليخرج .."
الراوي كما نرى ينظر من خلال وعي الشخصيتين وما يريانه من أشياء أيضا في مواجهتهما تلك الثنائيات المميزة التي تعبر عن وعي سردي مميز، حيث نجدنا أمام صيغ أفعال خاصة، بالإضافة لحضور جانب التأطير في السرد، و حضور الصورة السينمائية. كما تتشكل البنية السردية للحكاية بشكل مميز، حيث نلحظ مقابل المرأتين القادمتين هرولة نحن نتابع صورة الأم التي تسرد لنا ما تعيشه من خلال ثنائيات مثل (تتوزع الما، أنينها المكتوم، صدرها المتهاوي، ينازعها ليخرج) كما نتابع تلك العلاقة الخاصة بين مكونات الحكاية (الفواعل هنا وليس الشخصيات) ونحن نتحدث عن جدار بيت المرأتين في مقابل جدار الصدر المتهاوي وفي كل الحالتين حتى عند وجود صوت لتلكم النسوة فإنه دائما خفيض (ثمة ثرثرة نسائية خافتة، أنينها المكتوم).
إن هذا التوافق في قضية الصوت يتضح لو ركزنا أكثر حيث الصياح أسلوب الذكور في التعبير حتى ولو كانوا أطفالاً، لنتابع صورة الطفل ذي العشر سنوات وكيف صاح (دخل أحدهم تمتطيه عشر من السنوات .. صاح في فزع يستغيث) وكذلك صياح أخيه الوليد هنا (مضرجاً بالدماء .. وبالصراخ .. والفزع). بينما تمتاز النسوة كما رأينا هنا بالصمت، هذا ما نقصده بالبناء المميز للشخصيات وهذا يدخل ضمن ما نعرفه بسرديات الحكاية. لنتابع بقية هذه القصة:
" تمدّ إحدى المرأتين يدها من تحت الثوب الرمادي الباهت .. تتلقى الطفل في كفها .. مضرجاً بالدماء .. وبالصراخ .. والفزع ! .. يتخطى الجمعُ المكهرب الظلام وسكون الليل ، يدخلون بيتاً جاثماً في آخر الشارع .. ويغلقون خلفهم باب المساء !" 
إننا كما نرى مع مزيد من السينمائية مزيد من حضور الحواس غير البصرية الحاسة البصرية تحضر كما هنا (مضرجا بالدماء)، ثم ننتقل لحاسة السمع (الصراخ)، ثم نخرج من صورة الحواس لندخل في البعد العميق لذات الطفل التي يتم تصويرها من خلال (فزعا).
الاشتغال السابق كان على مستوى الممارسة السردية بينما نتابع قفلة النص حيث تبرز بنية المكان و الزمان مع بنية الشخصيات والأحداث وتأخذ بعدا يحتاج لمزيد البحث ضمن ما نعرفه بسرديات الحكاية حيث تحدث العودة للبيت من جديد وإذ يدخلون البيت فإنهم يخرجون من الظلام والسكون. يمكن أيضا هنا متابعة بنية العنونة أو دور عنوان هذا النص (ذات مساء) في بناء حكاية القصة ودلالات ذلك كله حيث الزمن من الممكن أن يكون أي مساءًا إنه فقط مجرد مساء ما، وهو ما يعكس البعد الذاتي ورؤية وفهم الراوي والشخصيات للمساء وللصمت، وهو ما يمكن بحثه ضمن موضوع الرؤية وهي من موضوعات مستوى الخطاب. 
2-4 3  قصة وجع يحتد 
في قصة وجع يحتد لوفاء العمير، نجدنا منذ اللحظة الأولى نتابع جمالية تصوير المناطق بين الحوارات. هذا النص من الممكن أن يدرس من خلال جمالية توظيف الصيغة السردية والانتقال من الحوار لرصد الراوي ثم العودة للحوار، كما يتميز أيضا  بطبيعة الرؤى المتباينة وتلك التعبيرات الظاهرة التي تعكس رؤية غير معقدة كما نجد رؤية أخرى عميقة تمثل كل ما يبكيه الراوي في هذا النص المميز لنتابع هنا هذه الصورة التي يبدأ بها الراوي نصه:
" رتّبتْ الكلمات الهائجة وأضاءتْ الجدران بغضب لا يفترّ ينشق عنها إلى الهواء " 
 في مقابل هذه الصور نجدنا نتابع تلك الصورة المضادة للزوج نجدنا أمام سب الخلاف بينهما
"طوّح حقيبة الغياب أمام زجاج صوتها المتكسِّر وقال :
ـ عندما أعود لا أريد أن أراك في البيت !" 
القصة أُِسستْ من خلال أوضاع سرد متقابلة لنتابع الرد من الأنثى والذي يرسم الرؤية المقابلة وفي الوقت ذاته الحكاية المكونة من شخصيات متضادة :
"تبتلع حجارة تكومتْ غصاتها في صدرها المتورم بالفجيعة :
ـ لن أذهب إلى بيت أهلي إلا وورقة الطلاق بيدي !" 
 إننا كما نرى بالإمكان تحليل هذا النص من خلال الرؤية المتباينة لشخصياته وهذا ضمن موضوعات الخطاب، و من الممكن تحليل أبعاده الجمالية خلال تلك المسافة بين السرد المعلن والسرد المضمر في المقطع التالي الأخير من هذه القصة:
"(أ) يلطمه الباب الزجاجي عندما عبره مسرعاً ، (ب) تمرق طفلته الصغيرة من بين قدميه المرتبكتين ،(ج) تنثر الضحكات البريئة على وجهه الحانق ،(د) يغلق على نهرها العطري ذاكرة مطفأة ..(هـ) يُخرِج من أنفاسه طريقاً محروقاً ويذروها في رماده. " 
في (أ) نحن مع ارتباك الزوج ثم ظهور شخصية الطفلة التي جاءت لتكسر الوتيرة وتكون أداة ترسم عبر حضورها في (ب) و(ج) مواضع ممكنة لعدم تأزم البيت العائلي. كما يمكن ملاحظة حضور الحاسة البصرية والصورة المتحركة مع ظلال للتداخل بين الصورة السمعية واللمسية  في (ج) و (د) البعد اللمسي المجازي من خلال احتراق ابنته نجده في (هـ) هذا كله فيما نعرِّفه بسرديات الممارسة السردية كما نلحظ من خلال كثرة ظروف المكان عملية التأطير.
نحن في هذا التحليل نشتغل ضمن سرديات الحكاية التي تعنى بأوضاع واحد من مكونات أربع للحكاية وهو هنا مكون الشخصيات كذلك علائق الأحداث ببعضها البعض.
لنلاحظ هنا طبيعة الفضاء المكاني الذي تتأسس فيه أفعال الشخصيات مثل الجدار والزجاج وغيره، وهي مكونات من الممكن لو درست هنا وفي نصوص أخرى للكاتبة، (وهي دراسة تناصية ضمن مستوى النص)، لأمكن لقبض على جزء من بعد هذه النصوص الدلالي، ولأمكن فهم بعض أبعاد تشكيلاته الجمالية وكيفية تحققها. وهذا يعني أن هذا النص يتميز ببعد مميز على مستوى التفاعل النصي وفي جانب التناص خاصة، والبحث ضمن ذلك، عن المعاني العميقة وأيضا متابعة البعد الجمالي لتوظيف العنوان. من جانب سرديات الحكاية نحن أمام نص مميز البناء من الممكن رسم مكوناته الشخصية كذلك من الممكن رسم الأحداث الحاصلة، كما يتميز هذا النص بإمكانية تحليله من زاويته الرمزية عبر متابعة مدى انحراف هذا السرد غير المباشر و العميق. 
2-4-4 خلاصة
تبني وفاء العمير شخصيات قصتها بحنكة مميزة، وتستطيع كعادتها في القصة القصيرة، أن تمارس إظهار تباينٍ خفيفٍ بين شخصياتها عبر ما ينعكس من الصور بشكل غير مباشر، هذا التباين قد يكون تقابلا أو تضادا وقد يكون على أي من عناصر الحكاية الأربعة. ويندرج هذا النوع من الاشتغال  ضمن سرديات الحكاية بحثًا عن المفارقة أو لتلك الأوضاع المتقابلة أو المتضادة لمكونات الحكاية الأربعة: (الحدث، الشخصية، الزمن، المكان).
تتميز في مستوى الخطاب، بالرؤية شديدة الخصوصية التي تنتجها، مما يحقق لها تميزا في هذا الباب، كما نجد على مستوى الممارسة السردية، الحضور المميز للاشتغال على عديد الحواس التي قد تكون ثابتة أو متحركة. 
التفاعل النصي عبر المناص والتناص مميز الحضور في بعض نصوصها مما يرشح المستوى النصي ليكون أداة لاستنطاق جماليات نصوصها. 
قصة ذات مساء
ذات مساء .. في وسط الحوش الترابي الداخل إلى صمت المكان .. ثمة ثرثرة نسائية خافتة حول موقد وإبريق شاي وأكواب موزعة على امرأتين تسكنان جداراً وحصيرة .
دخل أحدهم تمتطيه عشر من السنوات .. صاح في فزع يستغيث لأمه في الخارج ..
هرولت المرأتان تاركتي أكواب الشاي والإبريق في الموقد الأسود العتيق ..
في الزقاق الضيق ثمة امرأة تتوزع ألماً .. يتسلق أنينها المكتوم جدار صدرها المتهاوي ،
وكفّها يطبق على بطنها الّذي يتحرك فيه طفل .. ينازعها ليخرج .. تمدّ إحدى المرأتين يدها من تحت الثوب الرمادي الباهت .. تتلقى الطفل في كفها .. مضرجاً بالدماء .. وبالصراخ .. والفزع ! .. يتخطى الجمعُ المكهرب الظلام وسكون الليل ، يدخلون بيتاً جاثماً في آخر الشارع .. ويغلقون خلفهم باب المساء !
قصة وجع يحتدُّ
 رتّبتْ الكلمات الهائجة وأضاءتْ الجدران بغضب لا يفترّ ينشق عنها إلى الهواء ، طوّح حقيبة الغياب أمام زجاج صوتها المتكسِّر وقال :
ـ عندما أعود لا أريد أن أراك في البيت !
تبتلع حجارة تكومتْ غصاتها في صدرها المتورم بالفجيعة :
ـ لن أذهب إلى بيت أهلي إلا وورقة الطلاق بيدي !
يلطمه الباب الزجاجي عندما عبره مسرعاً ، تمرق طفلته الصغيرة من بين قدميه المرتبكتين ، تنثر الضحكات البريئة على وجهه الحانق ، يغلق على نهرها العطري ذاكرة مطفأة .. يُخرِج من أنفاسه طريقاً محروقاً ويذروها في رماده .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق