سلسلة اشتغالات حول نصوص مميزة في القصة القصيرة (9)
السخرية والأسطرة في قصتي: الذئاب والوهم من مجموعة (سر ما جرى للجد الكبير) للكاتب الليبي :علي الجعكي.تمثل قصة الذئاب في اعتقادي واحدة من أروع القصص التي كتبها الأستاذ علي الجعكي حيث قوة الوصف والقدرة على رسم وتشخيص النهايات ، النموذج الذي يعيش تلك اللحظة عبارة عن ذئب جريح. جمالية الوصف وقوة الصورة جعلت من النص تأملا حقيقيا في الموت والنهاية والقتل. أيضا قصة الوهم فيها جانب من السخرية طيب. الدراسة حول القصتين، كما ارفقتهما مع الدراسة.
يتمتع
علي الجعكي بقدرة مميزة في خطابه السردي على ممارسة فعل الوصف، ونجد ذلك الوصف (عبر
الصورة الساكنة أو المتحركة) في بعض النصوص يتحول من الوصف العادي لفعل أسطرة لما
يتم وصفه، حيث نتحول مع الراوي من وصفه العادي إلى الحدود القصوى للكلمات. وغالبا
ما يكون تركيز الراوي على اللقطة أو الحدث البسيط الذي يشتغل عليه بقوة ليحقق طرح
رؤيته أو موقفه من شيء ما.
في نصه (الذئاب) أحد نصوص مجموعته القصصية (سر
ما جرى للجد الكبير)، نتابع صورة الذئب الجريح الكسير، ونجد علي الجعكي من خلال
التصوير والأسطرة يمارس طرح رؤيته وفلسفته، حيث تميزت قصة الذئاب بقدرة الراوي المميزة على الجمع بين جوانب
متعددة للقطة واحدة ترسم حالة ذئب جريح يعيش نزفه الأخير وعبر هذا الذئب ومفهوم
الخيانة الذي نمتلكه نحن كقراء يطرح على الجعكي رؤيته. لنلحظ هنا كيف دخل الرواي
للقطته وكيف انطلق مصورا ما يحيط بذلك الذئب
"أشعة شمس الغروب تتسرب من خلال الأغصان
المتشابكة، فترسم دوائر ضوئية متداخلة على الأرض، وعلى الجذوع المغروزة في الرمل .
بقع الظل تتلاشى عند أطراف
دوائر الضوء الخافتة، فيتغير اللون من الرمادي الحالك إلى لون ألسنة اللهب .
بعض العروق الناتئة على سطح
الأرض تلتحم بالجذوع وتنغز أطرافها تحت الرمل." [1]
إن الراوي كما نرى يقوم
بتصوير الفضاء المكاني المحيط بالذئب ونلحظ كيف تساهم هذه الصورة بما احتوت عليه
من ألفاظ تميل للعنف من أسطرة ذلك الكائن الذي سنلحظ حضوره فيما يلي، ومن هذه
الكلمات (المغروزة، تتلاشى، الرمادي الحالك ، ألسنة اللهب، العروق الناتئة،
الرمادي الحالك) مع كم من ألفظ تحيل على قاموس العنف الذي سنجد مبرراته بعد قليل.
"دائرة من الضوء تشع
على وجهه الترابي الهامد .. اللون اللامع في عينيه يكسر الضوء، فينعكس على
الخرزتين اللزجتين، وينفلت بين الأهداب المغبرة شعاعاً دقيقاً .. تطرف عينه قليلاً
لتطرد ذبابة متوحشة تطنّ داخل رأسه .. تنتصب أُذناه في همود .. يئن مع صوت الريح
المتكسر على الجذوع المتصالبة .. يتألم في هذا العمق وحيداً."[2]
إننا
هنا أمام ذلك الكائن الذي تمّ أسطرته أمامنا، وهو في لحظات سقوطه ويتحقق للراوي عبر
هذه الأسطرة مع التأكيد (على حقيقة أن ما يحدث يقين)، رسما لرؤية في الألم عندما
يصيب تلك الكائنات المتوحشة ثم كيف يقضي بعضها على الأخر عند سقوطه، بالطبع هذا
ليس إلا جزءا من قراءة سريعة لما يقوله النص الثري ومن الممكن لقارئ أخر أن يرى
فيه المزيد من الدلالات. لنتابع كيف يقوم الذئب القادم أو الكائن الليلي القادم
بإنهاء حياة ذلك الكائن التعيس
"..
عيون ملتهبة تحدق إليه في الظلام .. تقترب منه ... تبتعد قليلاً ثم تدور حوله دورة
كاملة . يتبعها بنظراته الزائغة .
تقعي
حوله في دائرة ضيقة ... يتقدم أحدها فيشم الجرح .. يدور حول الجسم الممدد .. يقترب
من الرأس الهامد .. يزداد الأنين كآبة .. يلقي برأسه بين قائمتيه المغروزتين في
الرمل .. كان العنق المعفّر في المواجهة .. يهرُّ القادم قليلاً .. يلعق مقدمة
أنفه .. يتقدم نحو العنق، يركز نظره على نقطة واحدة تبرز قليلاً تحت نهاية الفكين
.. يتقدم ببطء .. يحني رأسه قليلاً ويفتح فكيه القويين حتى يلامس العنق .. ينشب
أسنانه في لحم العنق .. يضغط بقوة .. يتحول الأنين إلى حشرجة مكتومة .. تنسحق
الحنجرة تحت الضغط الهائل ... خيط رفيع من الدم ينساب حول الفكين القويين .. ينبثق
من جانبي العنق ..تخرج المخالب الحادة من مكامنها، تحفر خطوطاً عميقة على سطح
الأرض ... يتحرك الذيل بطيئاً وينكمش في شكل هلالي .. يتهدل الشدق وتنغرز الأسنان
في لحم اللسان .. يهرب اللون من الخرزتين الغائمتين."[3]
إننا
كما نرى أمام صورة هائلة التعبير، فبعد
أسطرة ألم الذئب، وهول ما يعانيه، ورسمه عبر الصورة الثابتة رسما فاجعا، نجد السرد
يتحرك وندخل ما يمكن تسميته بالسينمائية في التصوير حيث نتابع صورة الذئب وما
يعانيه من ألم وهو يعوي ثم بعد قليل تحضر الذئاب الأخرى ويتقدم أحدها ليلتهم ذلك
الذئب ويتحقق بذلك القانون الأبدي الخاص بالموت و الحياة و الكائنات.
وفي
أخر النص نجد أمامنا تلك النهاية الفاجعة والطبيعية في الوقت نفسه حيث ينظر القاتل
بصمت للمقتول ينكس رأسه ثم ينطلق بعيداً عنه
"
ينكس رأسه، ويضع ذيله بين قائمتيه الخلفيتين .. يدور دورة كاملة حول الجثة ..
يشم العنق المهشم ويختفي بين الجذوع ... ينهض القطيع .. يدور دورة كاملة حول الجثة
.. يشم العنق المهشم، ويختفي في ظلام الغابة."[4]
لقد
أستطاع الراوي وخلفه الكاتب أن يطرح بطريقة غير مباشرة رؤيته في التوحش وفي كينونة
الكائن (الذئب) وفعل الرغائب الدفينة في القتل والموت.
السخرية
والأسطرة العكسية في قصة "الوهم"
السخرية
الحادة وغير المباشرة كانت في قصة الوهم أداة الكاتب للتعبير عن الحالة التي
تعيشها الشخصية، تلك الحالة من القرف والشعور بالرغبة في التحول من المكان ومغادرته
بعيدا عن عبث رفيقه ودعواته الماجنة في التفاعل مع العاهرة، نجد الصورة تتأسس منذ
البداية من خلال رسم للفضاء المكاني فيه بعض الطول، ولكنه رغم ذلك كان ضروريا
لوضعنا في السياق الحقيقي لألم الشخصية ونزفها الصامت على ما تجده من فعل ولا
تعانده
"كنبتين
جافتين ننغرز في رمل أغادير المشبع بالماء والأصداف والزلط الملون .. وراءنا جرف
صخري شاهق برزت الأسنان المنشارية بين انكسارا ته المفاجئة ناحية البحر .. أمامنا
امتداد هائل يرتطم قاعه في غموض .. يسكنه عالم من العنف والأسرار القديمة .."[5]
إن
الراوي كما نرى يمارس شيئا فشيئا وضعنا في سياق قلق شخصيته من خلال الصورة الساخرة
والألفاظ المعبرة عن التذمر والقلق كما نجد ذلك من خلال المسافة بين الحوارات حيث
يجد هناك المفضل للسخرية من الذوات المجتمعة هناك على ذلك الشاطئ الأطلسي
"..
وها أنا في هذا القيظ أجرّب شيئاً جديداً في حياتي، مع بقايا امرأة احترقت بجمر
التجربة حتى الثمالة، فأضحت سراباً لا تفصلها إلا خطوات عن العدم .
- معلمة مليكة عليك بترويض هذا المتخلف ولك
مني ألف درهم.
وأخرج
ورقة مالية دسمة مررها أمام ناظريها، ثم خبأها في سترته.
بسمة
خبيثة ارتسمت على فمها المحشو بقطع عظمية هائلة .. فرح غامض ظهر على وجهها المتغضن
. رعشة سرت بجسدها ارتعش معها جلبابها القديم."[6]
تبدو
كما نرى ألفاظ السخرية حاضرة، وهي بالطبع ليست السخرية الطبيعية، إنها سخرية تناسب
اللحظة وشِدة تألم الشخصية ما يحدث له، السخرية تتمحور غالباً حول الشخصية الموشومة
بالعار أو تلك التعسة التي وضعها قدرها أمام ضيفنا القلق.
وتستمر
تلك الصور السوداء التي ترسم بسخرية مرة حِدة الوضع المتأزم وما تعانيه تلك الذات
أمام وطأة التجربة الجديدة
"اتسعت
بسمتها وامتدت يدها إليّ فاقتادتني خارج الفندق، إلى هذا الجزء من الجحيم المنتحب
تحت أقدام الأطلس .
وحيدين
ندهس الرمل والقواقع والأسماك الصغيرة الميتة التي لفظها البحر .. نبتعد عن أطراف
المدينة كجرذين موبوءين .. نعرض جسدينا لآلاف من الأسياخ الملتهبة، نغوص في عرقنا
النتن وأفكارنا المفككة .. يبتلع أقدامنا ا للهب
.. تملأ خفّينا شظايا الرمل وتتسرب بين أصابعنا .. نحاول خلع أحذيتنا لكن
الرمل لا يطاق"
بالطبع
هنا تحليلنا مركز على فعل السخرية لكن سنجد أنفسنا أمام أسطرة للحال وللألم.
وهنا
نجد أمثلة لذلك حيث (الراوي/الشخصية) يرسم اللعنة التي يعيشها عبر ألفاظ تتناسب مع
واقع الحال مثل (ندهس، الميتة، كجرذين موبوءين، الأسياخ
الملتهبة، عرقنا النتن).
إننا
كما نرى أمام التحول من السخرية التي مركزها (الأنثى) إلى أسطرة ألم الاثنين معا
وحِدة الوهج النهاري، ثم بعد أن أصبحت الشخصية أمام الأمر الواقع نجد الراوي
يستخدم الأسطرة العكسية وهي بعيدة بعض الشيء عن السخرية (عبر ما تتميز به من حِدة
وموقف معادي من المستهدف بها).
"
يا للفظاعة .. يا لهذا الجسد المتآكل .. جلد محروق وعظام ناتئة لا تمت للحياة بصلة
. معالم الجسد تتداخل في بعضها مكونة عموداً جافاً انتصب بجانبي ... شعرت بغثيان
شديد .. يا لضآلة هذا الإنسان الكريه .. الحياة وهم كبير كما قال صاحبي .."[7]
إن
الصورة السابقة ترسم أمامنا وبقوة حِدة توتر الشخصية وموقفها ويصبح هنا من الممكن
في هذه اللحظة الدرامية ومع هذا النمط من التصوير أن نجد الرؤية كاملة تطرح، ولكن
الراوي رأفة بشخصيته يجد له معبرا للمزيد من الألم وحتى لا يفقد احترامه الذاتي
لذاته أكثر فيتم استخدام (الحشيش) أو المخدر أداة لذلك وبعد أن يزيد من التوتر
سيكون من الممكن تفعيل الخطاب ورفع الدراما وذلك لطرح رؤيته أو موقفه وهي رؤية
رافضة بلا شك ولكنها في الوقت نفسه ترسم الشخصية المستكينة
"
أخرجت من حقيبة يدها لفافة رخوة، وعلبة سجائر .. أفرغت سيجارة من محتواها
وملأتها عجينة مخلوطة بقطع التبغ .. أشعلتها وقدمتها لي ..
- عليك أن تبتلع الدخان لا أن تخرجه من فمك وأنفك
.. ابتلع .. ابتلع ... دع الدخان يشربه صدرك ورئتيك .
(...)ابتلعت
دموعي وإفرازاتي الحمضية، أعوامي المثقلة بالقحط وبكل مآسي العالم . الكير ينتفخ
بعاصفة هائلة تضغط على جدرانه (....)أبتلع كل شيء .. هيكل معلمتي بجلده العطن .
القواقع والحصى والطحالب الجافة ألقي بها في أشداق ثقب أسود هائل كالجحيم ...
أنياب أسطورية تطحن بشراهة .. تفتت أعماقي النائية، الضاربة في صحراء من الرماد
والصخور المحترقة. "[8]
إننا
كما نرى أمام التحول من الحال العادي والأسطرة العكسية الخفيفة بعض الشيء، لواقع
الحال بعد تناول المخدر والوقوع في اللحظة الحرجة التي كان النص كله قد بنى
لتصويرها. هنا يبدأ الرسم السوداوي كأنما الشخصية الذكر يريدان يكفِّر بذلك عن
لحظة الأنزلاق أو لحظة الاقتراب من تلك الهشاشة. وذلك الفقد للسامي فينا. فيعود
ليملم الذات، ويعيد لها لحظة تركيز كما يمارس فعل لعن غير مباشر لرفيقة تجربته عبر
الأسطرة العكسية
"أهشّ
الذباب الذي يقتاتها ... أجمع الأعضاء المرتعشة . أصفها على الرمل .. المدّ كان
يبعثرها .. أعيد ترتيبها .. تخرج المعلمة من الأشلاء المطوحة .. من قطرات الدم ..
من عفن الأحشاء تلم شتاتها . ترقص على الجسد الممدد بأقدامها المشققة .. بثقل
أعوامها الجدباء .. أتقزز من رائحة جلبابها"[9]
إننا
كما نرى أمام موقف خاص من قضية الدعارة والممارسات الخاطئة وغير الشرعية، لم يقم
الراوي لطرحها وتصويرها باتخاذ موقف الناصح وإنما تفاعل مع ذات الشخصية وعبر كل
القرف الممكن ومن خلال أبعاد ذاته المتشظية قام بتصوير قصته فكانت تعبيرا (من رؤية
ذكورية) عن الألم الذي تتسب فيه هذه الخطايا.
الأسطرة كانت في نص الذئاب لطرح رؤية في الخيانة
وفي الموت والألم والعجز بينما هنا لرسم موقف مما سبق ذكره نجدنا مع السخرية في
البداية ثم مع الأسطرة العكسية حيث تحولنا من اللفظ البسيط الساخر إلى الصور التي
ترسمها قناة شخص مهتاج يعيش لحظة متأزمة فكانت بذلك أفضل تعبير ممكن عن الرفض
وكراهية الخطيئة عموما وإن كان كما رأينا على الأنثى أن تتحمل وزر الخطيئة وحدها
فالرفيق المصاحب الذي دعاه لذلك لم يكن ضمن دائرة الرصد تلك.
قصة
الذئاب
شعة شمس الغروب تتسرب
من خلال الأغصان المتشابكة، فترسم دوائر ضوئية متداخلة على الأرض، وعلى الجذوع
المغروزة في الرمل . بقع الظل تتلاشى عند أطراف دوائر الضوء الخافتة، فيتغير اللون
من الرمادي الحالك إلى لون ألسنة اللهب . بعض العروق الناتئة على سطح الأرض تلتحم
بالجذوع وتنغرز أطرافها تحت الرمل . دائرة من الضوء تشع على وجهه الترابي الهامد
.. اللون اللامع في عينيه يكسر الضوء، فينعكس على الخرزتين اللزجتين، وينفلت بين
الأهداب المغبرة شعاعاً دقيقاً .. تطرف عينه قليلاً لتطرد ذبابة متوحشة تطنّ داخل
رأسه .. تنتصب أُذناه في همود .. يئن مع صوت الريح المتكسر على الجذوع المتصالبة
.. يتألم في هذا العمق وحيداً . خيط من اللعاب اللزج اندلق من شدقه المتهدل، وكوّن
فقاعة بين قائمتيه الأماميتين .. خيط اللعاب الدقيق تقوسه الريح فينسكب على
قائمتيه وينزلق ليبلل الرمل .
يعض على نواجذه بقوة،
فتصدر أسنانه صريراً مبحوحاً يذوب في هيجان الريح .
قائمتاه الخلفيتان
هُرستا تماماً، وسحق جزءاً من عظام فقراته ناحية الذيل . الدم تيبس على شعره
الأشعث مكوناً طبقة سميكة على ظهره وفخذه .. النتوء النازف يغطيه ذباب مزعج، يطير
قليلاً ثم يرجع ليعلق مزيداً من الدم .. يحاول أن يطرده بحركة يائسة من ذيله ..
مساحة الوجع تتسع حتى
تلف كامل جسده، وتزرع قشعريرة في أعضائه .. يئن بأنفاس متقطعة .. ربما يبكي في
داخله فالدمع يبلل وجهه الكامد، وتختفي قطراته بين الشعيرات العطنة .. دائرة
بيضاوية سوداء تغطي كتفه الأيسر، وجزءاً من عنقه وأذنه اليسرى، لون بقية جسمه كلون
السهوب الرملية المتاخمة للغابة . عرقوبه الأيمن تسوّره دائرة ناصعة البياض ..
خطمه كان يلامس الأوراق الجافة المنتشرة تحته ... يتشممها فيحرك زفيره حبيبات
الرمل تحت منخريه الملتهبين .
في قلب الغابة رقد
رقدته الأخيرة .. ابتعد عن القطيع عند إحساسه بالعجز .. لملم بقية جسده المصدع،
وانعزل منكسراً .. ربما أتى من مكان بعيد يجر قائمتيه المهشمتين حتى غلبه الألم،
وهدّه النزف .. أثره واضح بين جذوع الغابة .. مخالبه الحادة تركت خدوشاً عميقة على
وجه الأرض .
تفاصيل وجهه القاسي
تظهر تحت ضوء الغروب .. الفك السفلي انفرج قليلاً عن أسنان قوية مغروزة بعناية في
أديم وردي، تحيطه شفتان دقيقتان .
أنيابه الطويلة
معقوفة إلى الداخل، تنتهي برؤوس دقيقة .. لسانه اللدن يلعق مقدمة خطمه فيزيل ما
علق به من غبار .. بياض عينيه تحول إلى اللون الوردي، تتخلله شبكة من العروق
الحمراء .. رائحة كريهة تعبق حول جراحه .. الذباب يزعجه .. ينتفض جسمه بوهن تحت
اللسعات القوية .. حبيبات الرمل تملأ فراغات أنفه، وحول عينيه .. تغطي قوائمه ...
تنسحق تحت صرير أسنانه .. الظلمة تزحف على الغابة فتلتهم بقع الضوء .. الجذوع
الضخمة تصبح سداً من العتمة ... أصوات كئيبة تنبعث من بعيد .. الحيوانات الليلية
تخرج للبحث عن طعامها .. صفير الجنادب يئز في أذنيه بقوة ... الظلام وصوت الريح،
وخشخشة الأغصان تثيره ... تولِّد في داخله إحساساً بالعجز، وبالرغبة في أن يطلق
لصوته العنان معبراً عن ألمه ... عن نفسه المعذبة .. يرفع رأسه عن مستوى جسمه،
فيشمخ عالياً .. يجمع ما بقى له من قوة، ويلقي بها إلى حنجرته، فيخرج عواءً كئيباً
يشق الغابة طويلاً ممطوطاً .. عوووووو ... عوووووووو . يريح رأسه على الأرض بين
قائمتيه المتباعدتين .
الصدى يرجع الصوت بين
الأجمات .. يتردد العواء بعيداً كأنه في وادٍ سحيق .. يتنامى بين الجذوع شرساً
مخيفاً، يسكن قلبه ... عووووووو ... عوووووووو . ضجيج الدم يعلو في شرايينه ..
يزداد العواء الغريب كآبة .. يقترب مصدره .. النباتات الجافة والأغصان تتكسر تحت
خطوات ثقيلة قادمة ، لهاث ساخن يقترب منه .
السواد الحالك يمنعه
من الرؤية .. طبول بعيدة داخل أذنيه تدق ... تصرخ ... العواء الآتي من بعيد يمزقه
.. الضجيج يعمق جراحه ... كل خلية في جسمه تصبح طبلاً هائلاً يهيجه .. يملأه رعباً
ورغبة في النهوض .. الفرار... يضرب رأسه على الأرض بقوة، حتى يقطع هذا السيل
الجارف من الأصوات المبهمة .. هذا الكابوس القاتل ... الأنفاس الساخنة تلهب وجهه
.. يئن .. عيون ملتهبة تحدق إليه في الظلام .. تقترب منه ... تبتعد قليلاً ثم تدور
حوله دورة كاملة . يتبعها بنظراته الزائغة .
تقعي حوله في دائرة
ضيقة ... يتقدم أحدها فيشم الجرح .. يدور حول الجسم الممدد .. يقترب من الرأس
الهامد .. يزداد الأنين كآبة .. يلقي برأسه بين قائمتيه المغروزتين في الرمل ..
كان العنق المعفّر في المواجهة .. يهرُّ القادم قليلاً .. يلعق مقدمة أنفه ..
يتقدم نحو العنق، يركز نظره على نقطة واحدة تبرز قليلاً تحت نهاية الفكين .. يتقدم
ببطء .. يحني رأسه قليلاً ويفتح فكيه القويين حتى يلامس العنق .. ينشب أسنانه في
لحم العنق .. يضغط بقوة .. يتحول الأنين إلى حشرجة مكتومة .. تنسحق الحنجرة تحت
الضغط الهائل ... خيط رفيع من الدم ينساب حول الفكين القويين .. ينبثق من جانبي
العنق ..تخرج المخالب الحادة من مكامنها، تحفر خطوطاً عميقة على سطح الأرض ...
يتحرك الذيل بطيئاً وينكمش في شكل هلالي .. يتهدل الشدق وتنغرز الأسنان في لحم
اللسان .. يهرب اللون من الخرزتين الغائمتين . ينكس رأسه، ويضع ذيله بين قائمتيه
الخلفيتين .. يدور دورة كاملة حول الجثة .. يشم العنق المهشم ويختفي بين الجذوع
... ينهض القطيع .. يدور دورة كاملة حول الجثة .. يشم العنق المهشم، ويختفي في
ظلام الغابة .
قصة
الوهم
كنبتين جافتين ننغرز
في رمل أغادير المشبع بالماء والأصداف والزلط الملون .. وراءنا جرف صخري شاهق برزت
الأسنان المنشارية بين انكسارا ته المفاجئة ناحية البحر .. أمامنا امتداد هائل
يرتطم قاعه في غموض .. يسكنه عالم من العنف والأسرار القديمة .. الحياة والموت
يتحدان في أعماقه حتى تلاشى الخط الفاصل بينهما .. القواقع تنتشر من حولنا في
أحجام وألوان مختلفة ... تلتصق بجدار الجرف وبالصخور تحت الماء .. فوق الرمال
الملتهبة تترك خطوطاً بيضاء متقاطعة من سائل رغوي جاف .. الطحالب والنباتات البحرية
تكوّن شباكاً رثة .. نسيجها الآسن يغلف الصخور المسننة، ويغطي جزءاً من الشاطئ ...
وهج الظهيرة يشوي جلدينا فنتبادل سكب الماء المالح على جسمينا .. قروح كتفي تلتهب
.. الألم يخدر جلدي فيحتقن وجهي بضراوة .. يشعل حريقاً بداخلي .. آه لهذا الجحيم
.. لابد أن أصحابي ينعمون بهواء الفندق المكيف وبمياه ((عين حرازم)) المبردة . قال
لي صديقي ذلك المحارب القديم أن على الإنسان أن يجرب كل شيء، حتى وإن كان عكس
قناعاته .. هذا ما قاله ذلك المجنون الساخر الذي يخلط بين الجد والهزل حتى في أصعب
الظروف .. وها أنا في هذا القيظ أجرّب شيئاً جديداً في حياتي، مع بقايا امرأة
احترقت بجمر التجربة حتى الثمالة، فأضحت سراباً لا تفصلها إلا خطوات عن العدم .
- معلمة مليكة عليك بترويض هذا المتخلف ولك
مني ألف درهم .
وأخرج ورقة مالية
دسمة مررها أمام ناظريها، ثم خبأها في سترته .
بسمة خبيثة ارتسمت
على فمها المحشو بقطع عظمية هائلة .. فرح غامض ظهر على وجهها المتغضن . رعشة سرت
بجسدها ارتعش معها جلبابها القديم .
- يا صديقي لم أجرب هذا الشيء .. ولست على
استعداد لمثل هذه الأمور .
- إنك تجذف عكس التيار أيها الغبي .. الدنيا عفن
يا صاحبي .. عليك أن تعطيها ظهرك وتعيشها بالطول والعرض، وبكل الاتجاهات، وهم هذه
الدنيا، ما هي إلا ساعات ننعم بها ثم ننفق كأسلافنا ... ستتلاشى أيها الملتزم كما
تلاشى من سبقوك .
- ألا ترى معي أن مثل هذه الأشياء تنحرف بنا
عن الطريق الصحيح، بل تجعلنا نحرق ذواتنا تحت وثنها ؟؟
- يا عزيزي الحياة معركة كبرى، وعلينا أن نخوض
غمارها حتى ننعم بلذة النصر، وتلك هي النشوة الكبرى ... حتى وإن كنا نصارع عكس
الاتجاه الصحيح كما تدّعي لابد أن نصل إلى نقطة، ووصولنا في حد ذاته نصر لأنه توّج
سباحتنا عكس الآخرين . عليك أن تجرب فقط أما أن تكون عبداً لشيء بعينه، فذلك من
ضعف الإرادة، وكلنا يعرف أن عزيمتك قوية لا تؤثر فيها تجربة عابرة كهذه .. ضع في
رأسك أن كل شيء قبض ريح .
لا أدري لماذا أخذت
تحاصرني هذه الكلمات الغريبة . يا له من شيطان همجي هذا الصديق المعتوه .. سيطرت
عليّ أفكاره السوداء، وأخذت تدق في داخلي كالنبض .. تشعبت كجذور نبات سام في كل
أطرافي .. لماذا لا أجرب لمرة واحدة ؟؟
كان مكوماً فوق سريره
كالأفعى ينفث السم حوله، فيتبرعم رذاذه في أعماقي .. لماذا لا أجرب .. أليسوا
بشراً مثلي هؤلاء الأصدقاء الذين يعيشون معي ؟؟
إنّ الدنيا تتغير كل
يوم، والقناعات تتجدد كقطع الملابس . سأجرب لمرة واحدة ثم أبتعد عن هذا الطريق ..
خطوة واحدة لا تكفل الوصول إلى الهاوية التي أخشاها . الدنيا تجربة كما قال صديقي
.. بل هي وهم كبير ..
- معلمتي ... هيا إلى الدرس، وهنيئاً لك
الألف درهم، لكن شرطي أن يكون شاهدي الوحيد هو البحر .
سأعمد تجربتي
بالمحيط، لعلّي أطهر نفسي من هذه الدرنة التي زرعها فيّ صاحبي .
اتسعت بسمتها وامتدت
يدها إليّ فاقتادتني خارج الفندق، إلى هذا الجزء من الجحيم المنتحب تحت أقدام
الأطلس .
وحيدين ندهس الرمل
والقواقع والأسماك الصغيرة الميتة التي لفظها البحر .. نبتعد عن أطراف المدينة
كجرذين موبوءين .. نعرض جسدينا لآلاف من الأسياخ الملتهبة، نغوص في عرقنا النتن
وأفكارنا المفككة .. يبتلع أقدامنا ا للهب
.. تملأ خفّينا شظايا الرمل وتتسرب بين أصابعنا .. نحاول خلع أحذيتنا لكن
الرمل لا يطاق .
يا لهذه الحياة
اللعينة .. لماذا ننساق وراء رغبات خرقاء متأثرين بحكم مجنونة تحطم كل ما بنيناه
في لحظة ضعف ؟؟
شعور بالقنوط اجتاحني
كمطر استوائي .. وددت أن أتراجع وأعود إلى الفندق، لكنهم حتماً سيضحكون ملء
أشداقهم . بل سيجعلون مني نكتة .. لذلك واصلت السير .. ضحكت في داخلي لهذا الموقف
الذي أمر به عندما تذكرت ذلك الجليل الذي باركني ذات يوم . جعل مسبحته حول عنقي.
قال يومها إنه سيكون لي شأن .. منذ ذلك اليوم جعلت من نفسي قديساً .. لكن صاحبي
المجنون مزق ثوب القداسة عن نفسي المضطرمة .. ربما حررها من نير قديم .. نزع
المسبحة عن عنقي بأفكاره الحادة وتعاليمه الغريبة . ربما سيكون الشأن على يد هذا
القديس المجرب الذي فهم حقائق الأشياء .
رمت حقيبة يدها فوق
جزء ناتئ من الصخور .. خلعت جلبابها وحذاءها وبقية أسمالها .
يا للفظاعة .. يا
لهذا الجسد المتآكل .. جلد محروق وعظام ناتئة لا تمت للحياة بصلة . معالم الجسد
تتداخل في بعضها مكونة عموداً جافاً انتصب بجانبي ... شعرت بغثيان شديد .. يا
لضآلة هذا الإنسان الكريه .. الحياة وهم كبير كما قال صاحبي .. الإنسان أيضاً وهم
.. مخلوق من سراب .. بل هو كذبة كبرى .
أخرجت من حقيبة يدها
لفافة رخوة، وعلبة سجائر .. أفرغت سيجارة من محتواها وملأتها عجينة مخلوطة بقطع
التبغ .. أشعلتها وقدمتها لي ..
- عليك أن تبتلع الدخان لا أن تخرجه من فمك وأنفك
.. ابتلع .. ابتلع ... دع الدخان يشربه صدرك ورئتيك .
وابتلعت كتلاً من
الجحيم .. من الرمل الساخن والصخور المسننة .. من الملح والجيف المتفسخة على
الشاطئ .
ابتلعت كلمات صاحبي
المتقاطعة، وحكمه المتشظية سحباً كثيفة من الأبخرة العفنة، المعتقة في المراحيض
القديمة . ابتلعت آلامي المزمنة .. وأحلامي الصغيرة المجهضة .
ابتلعت دموعي
وإفرازاتي الحمضية، أعوامي المثقلة بالقحط وبكل مآسي العالم . الكير ينتفخ بعاصفة
هائلة تضغط على جدرانه حتى الانفجار ..
ينقصف الخيط الرفيع الذي يشدها .. يتمزق اللحم بعنف، تتفتق أربطته الجلدية
المهترئة .. الحمم الثائرة تضغط على القشرة الهشة .. تتشقق .. فرقعة كونية تهز
الشاطئ . نفخة الصور تثير رمال الأودية البعيدة .. زوابع الرماد وغبار النيازك
تجتاح جسدي المثخن .. أشلائي تلطخ وجه البحر .. قطع اللحم اللزجة تلون الصخور ..
ابتلع ... ابتلع ... أبتلع الكون بأسره .. المدن المنسية تحت وطأة الطاعون ...
حرائق الغابات العذراء .. قطعان الحيوانات المنقرضة عبر التاريخ .. ترسانات
الإسمنت .. الواجهات الزجاجية الملونة .. لوحات الإعلانات الجميلة .
أبتلع كل شيء .. هيكل
معلمتي بجلده العطن . القواقع والحصى والطحالب الجافة ألقي بها في أشداق ثقب أسود
هائل كالجحيم ... أنياب أسطورية تطحن بشراهة .. تفتت أعماقي النائية، الضاربة في
صحراء من الرماد والصخور المحترقة .
صورة شيخي الجليل
تظهر بين زبد البحر مهشمة .. مركبة بالمقلوب .. تؤطرها ألوان قزحية تتلألأ كذرات
من الضوء .. دخان كثيف يخرج من شعره الناصع .. من لحيته وأنفه ... من عينيه
المبللتين .. يتأرجح مع ألسنة الموج فوق الخط الفاصل بين الأفق والبحر ... صاحبي المكوم
فوق سريره يهتز في حركة بندولية قريباً من الشمس الغاطسة في المحيط .
يحدث دوامات هائلة
على وجه الماء فينكسر شعاع أحمر كخيوط الدم .. ألمُّ قطعي الممزقة والموزعة على
الصخور .
أهشّ الذباب الذي
يقتاتها ... أجمع الأعضاء المرتعشة . أصفها على الرمل .. المدّ كان يبعثرها ..
أعيد ترتيبها .. تخرج المعلمة من الأشلاء المطوحة .. من قطرات الدم .. من عفن
الأحشاء تلم شتاتها . ترقص على الجسد الممدد بأقدامها المشققة .. بثقل أعوامها
الجدباء .. أتقزز من رائحة جلبابها .. من البول والعرق وروائح الأسرّة الرخيصة ..
أعيد ترتيب قطعي المحطمة .. أصفّ جسدي قطعة قطعة . أتمدد على خشونة الرمل وأسنان
الحجر ... الرأس ناحية البحر .. المد يضرب فروة الرأس ويملأ فتحاته بفلول الموج ..
خيط رغوي ينسكب من جانب الفم وينحدر إلى البحر ... أخضر .. أحمر .. في لون الوهم .. في لون التجربة المرة .. في حدة الصخور
يتجمد الخيط اللزج .. يتكور حول نفسه .. ينكفئ حصاة ضخمة تحت أقدام البحر .
[1]
علي الجعكي /مجموعة سر ما جرى للجد الكبير/قصة الذئاب.
[2]
علي الجعكي /مجموعة سر ما جرى للجد الكبير/قصة الذئاب.
[3]
علي الجعكي /مجموعة سر ما جرى للجد الكبير/قصة الذئاب.
[4]
علي الجعكي /مجموعة سر ما جرى للجد الكبير/قصة الذئاب.
[5]
علي الجعكي /مجموعة سر ما جرى للجد الكبير/الوهم
[6]
علي الجعكي /مجموعة سر ما جرى للجد الكبير/الوهم
[7]
علي الجعكي /مجموعة سر ما جرى للجد الكبير/الوهم
[8]
علي الجعكي /مجموعة سر ما جرى للجد الكبير/الوهم
[9]
علي الجعكي /مجموعة سر ما جرى للجد الكبير/الوهم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق