سلسلة اشتغالات حول نصوص مميزة في القصة القصيرة (12)
أضع هنا دراسة سابقة حول مجموعة عبدالله السعداوي القصصية عودة الديناصور. المرحوم عبدالله السعداوي ظاهرة ادبية خاصة ، رجل أستطاع في زمن مرض عضال (جعله غير قادر على القيام بأي حركة) أن يكتب مجموعة قصصية وديوان شعري وكتاب سردي أقرب للسيرة.تجربة شديدة الخصوصية ودرس في قدرة الإنسان على مقاومة الآلم والتغلب على الظروف وقهرها. الدراسة تناولت بشكل عام المجموعة القصصية المذكورة. نسأل الله له القبول والرحمة
تنتمي نصوص هذه المجموعة من حيث (الجنس
الأدبي) إلى ما يعرف بالقصة القصيرة جداً ويتركز البعد الرئيسي في أغلب النصوص من
المحورين الرئيسيين في القصة القصيرة وهما:
1.
الحدث الذي
يحصل في زمن ما لشخص ما (غالباً).
2.
لحظة التنوير
الكلاسيكية والتي تأتي غالباً لتقلب التوقعات أو لتزيد من تأسيس ما طرح منذ البدء.
كما تتميز نصوص هذه المجموعة، بمستويين
من الرمز مستوى قريب يكاد أن يكون معلناً بل لدرجة الوعظ المباشر في بعض الأحيان، ومستوى
أخر من الرمز عميق والذي نستشفه من خلال بعد النص الكلي.
كما أن المجموعة من خلال رصيد الشخصيات
المتعددة فيها وكذلك الأحداث والمواقف المختلفة والمتباينة ومن خلال اختلاط
الواقعي بالعجائبي، تطرح رصيداً ثقافياً متنوعاً ومادة متنوعة في تناصاتها. يتحرك
كل ذلك وبدون أدنى شك ضمن منظومة القيم الأصيلة التي من الواضح أن الكاتب يزخر
بها.
نسجت نصوص هذه المجموعة عبر مستويات
متداخلة من حيث (الحقيقة والخيال) فنجد نصوصاً تحكي حكايات من الممكن أن تحدث في
الواقع أو في الحياة المعاشة. ونجد نصوصاً ذات بعد غرائبي وعجائبي تعتمد في تحققها
على طبيعة تلك العلاقة الأدبية التي أنشأها الكاتب معنا عبر لغتي الواثقة.
الغرائبي والعجائبي تأتي غالباً في لحظة
التنوير (اللحظة النهائية من القصة، وتأتي غالباً لتضفي على النص قوى المدينة إلى
القرية إلى النهر والغابة والجبل وغيرها. إي إننا أمام فضاءات مختلفة تأتي كلها
لتضيف من خلال نوعها زخماً لمادة الحكاية).
الرصــد
الثقـــافي للنصـوص:
تطرح
المجموعة في مجملها قيماً ثقافية واجتماعية ويتخذ كاتبها موقفاً واضحاً من كل ما
يحدث لنا ومن حولنا.
وتتمفصل غالب القصص البعدين. بعد وجداني
عاطفي يتخذ فيه الكاتب موقفاً من قضية ما والبعد الثاني بعداً فكرياً تتحول من
خلاله أمامنا مادة النص يطرح رؤية أو فلسفة الكاتب من قضية من قضايا الحياة
الكبرى.
وقد لاحظنا كيف انقسمت النصوص للعديد من
الرؤى المختلفة عبر هذان المحوران.
فنجد أمامنا انسحاق إنسان هذا العصر
وهزيمته وإرهاقه من خلال نصوص الصداع، القنبلة، عندما تضرب العصافير، القمقم.
ونجد موقفاً عاطفياً من إنسان هذا
العصر، موقفاً من زيف معيشة والأكاذيب التي يغلف بها حياته ويبرز هذا في نصوص
(الأجوف، اجتهاد الرواة) كما نجد طرحاً لشره هذا الإنسان للقتل والموت وعدم امتلاك
الآدمي لأي قيمة من خلال نصوص (الرخيص، الخروج عن النص).
كما نجد رصداً لطبيعة التحولات
الأخلاقية والاجتماعية والثقافية عبر (عودة الديناصور، التنور، توفيق الصيدلاني).
ونصوص ترصد التحولات الاقتصادية مثل
(الجراد، الرجل الذي ابتلع لسانه). وتطرح أمامنا أثر تلك التحولات على الإنسان فعل
إضافية، تخرجني من المباشرة والعادية في الطرح. كما تأتي لتطرح المزيد من التشطئ
والقلق الذي تعيش تلك الشخصيات. كما أنها تأتي من خلال تناصات مختلفة مع الشخصيات
أو الكائنات الأسطورية في ثقافتنا وسيرنا الشعبية، تأتي تلك الكائنات ولكن ليس
لمجرد الحضور وإنما ليطرح عبرها مجموعة متداخلة من الرموز، فمارد القمقم في نص
القمقم صار حائراً عندما اصطدم بالشخصية (حسن) وهو يتركه رافضاً أي مساعدة،
والديناصور الذي خرج في نص عودة الديناصور رأينا أمامنا أثاره دون أن نراه،
والمقتول يغيب في ضمير القاتل في نص (الجثة9 وذلك من خلال وعي الجماعة البشرية
التي رأت الجثة.
إننا وكما رأينا أمام توظيف فني جميل
لمكوناتنا الثقافية والاجتماعية والأسطورية يتحقق عبرها طرح لفلسفات خاصة.
مكونـــات
الحـكـاية في المجموعـــة:
تتكون
حكاية أي قصة من أربع مكونات رئيسية، حدث، شخصية، وزمان ومكان.
وقد لاحظت من خلال نصوص المجموعة، أن
أحد أكبر مكامن القوة في كتابة صاحبها هو قدرته على خلق أحداث جديدة ومختلفة
ومتغيرة باستمرار - مع شخوص مناسبين لنوع ذلك الحدث – يتحقق عبرهم طرح لبعد فكري
وفلسفي لدى الكاتب إننا أمام اختيارات متميزة فبطل عودة الديناصور هو أستاذ
التاريخ الطبيعي، وبطل يوم الثأر من البحر هو الرايس قدورة، كما أن نص صعود وهبوط
والحسناء يأتي من خلال شخصيات نمطية ترسخ الأفكار المراد طرحها.
إننا باستمرار أمام اختيارات لأحداث
وشخصيات تحدث أزمنة مفتوحة (وإن كانت تخص هذا العصر بدون شك) وفي فضاءات مكانية
تجريدية غير محددة بدقة وإن أيضاً لا تخرج من فضاءتنا.
إن هناك دقة في اختيار الأمكنة
والأزمنة. ففي نص الجثة مثلاً نحن أمام أهل القرية، إننا بلا شك أشعر بأن جريمة
القتل لها صدى في القرية أكثر من المدينة، ولنلاحظ قوله على لسان راوية (كان
منظراً مذهلاً لم يتعود هؤلاء القرويين على رؤيته) إن هذا الحدث قد حدث كما سنرى
بعد المغرب بقليل (بعد غروب الشمس بقليل).
إننا ومن خلال أغلب النصوص لاحظنا
توفيقاً في نسج حبكة للقصص جيدة تترابط من خلال الحدث والشخصيات والزمان والمكان،
كما أن الكاتب يستخدم الأسماء المنطقية
للشخصيات لتحقق له بعداً رمزياً إضافياً من مثل (حسان الوسنان) في نص
الصداع والذي قام من النوم على صداع وكذلك السجين رقم 87 وكذلك عنوان
"القرش" لنص القرش وقصة تحول الإنسان لقرش.
إننا كما نرى أمام ربط متميز لأسماء
الشخصيات ولعناوين النصوص مع بنية الحكاية الكلية للنص تحقق كلها في مجملها
أبعاداً رمزية متعددة وانفتاح في الدلالة يجتمع كل ذلك ويحدث في فضاءات مكانية
مختلفة تبدأ ونجد أمامنا الشخصية النمطية للظلم والقهر والطبقية والتي تنقسم
لشخصية الغني والمرابي وشخصية الزعيم والشيخ والتي نراها بوضوح في نصوص (الثري في
المقبرة، المرابي الصغير، المواطن الصالح، والسراب، السيد والمدير، المدينة
المشبوهة).
كما نجد من زاوية أخرى الشخصية النمطية
للمقاومة كمثل الرايس قدورة في (يوم الثأر من البحر) والحفيد في نص (المفتاح). كما
يطرح المجموعة القصصية كماً من الشخصيات الإنسانية، مثل العم فرحات في (القلب
الكبير) والجدة في نص (المفتاح) وزينب الأم والجدة في نص (زينب).
إن كل ذلك الكم من الخليط الممزوج بجمال
تصحبه لغة ساخرة من الواقع كما في (النرجيلة، الوالي، باقات الزور، الوهم) أو
رومانسية في الرؤية كما في (الشحرور والصياد، وعدو الأقفاص، وعلوان الذي سرق
النهر).
البعد الثاني من الأبعاد الثقافية
الموجودة في نسيج هذه النصوص هو البعد الفكري والذي نجده من خلال النصوص التي
تشتغل بنيتها الكلية لتحقيق بعد فكري محدد.
فنجد رؤية خاصة في الموت والحياة وفي
البكاء والسعادة تمثلها قصة (الموكب الكبير).
ونجد رؤية في الشيخوخة والشباب وطبيعة
الحياة التي لا تتوقف من خلال نصوص (صعود وهبوط، الحسناء) ورؤية في العمق الخبيث
للإنسان وطبيعة الأنانية من خلال نصوص (تصرف حضاري، سليمان الذي هلك).
ونجد رؤية في مفهوم الفن وعلاقة الفن
بالتلقائية من خلال نص (الفنان الصغير).
ونجد رؤية في مفهوم الهوية من خلال نصوص
(الهوية، حسان الذي خلع ثوبه، الديك الذي فقد هويته). ختاماً: إننا كما نرى مع
رصيد ثقافي متنوع يطرح كله في مجمله رؤية وموقف من كل ما يحيط بنا. وعبر مستويات
من الرمز مختلفة تتضافر لتحقيق ذلك عشرات الشخصيات والأمكنة والأحداث ويتم عبر كل
ذلك رصد مرحلة زمنية طويلة غالباً من عمر تلك الشخصيات.
عن العنونة بعودة الديناصور:
يمثل عنوان المجموعة الذي يفترض أن يكون هدفنا
الرئيسي والذي حِدنا عنه بعض الشيء لأسباب سأوضحها فيما بعد، يمثل حالة إعلان عن
حدث، والحدث كما سبق أن عرفنا هو أحد أهم فعاليات القوة في هذه المجموعة، كما أن
الديناصور بهذا الشكل يمثل فاعل معروفا ومتداولا ضمن رصيد الثقافي والعلمي بعد
علوم الحفريات وغيرها ككائن كان موجود سابقا وانتهى وجوده هنا بيننا، وعودته تعني
جعله رمزا للموت وللقتل، أستخدم هذا العنوان عنوانا للمجموعة وعنوان للقصة
الرئيسية فيها.
ولقد شعرت في البداية وأنا أقرا العنوان
بالخوف على الكاتب من السقوط في المباشرة، ولكن مع قراءة النص وجدت أن الكاتب وهو
أستخدم الخطاب الغرائبي وصنع عبر الغرائبية المذكورة تناقضا في الرؤية بين الأستاذ
الذي يرى الحدث امامه وبين العالم كله، وأنحاز الراوي للأستاذ ولما حدث له عندا
حدث العالم عن ذلك الديناصور. لقد كانت طاقة الغرائبية مع السرد السهل والخفيف
مادة لجعل الكاتب يحقق كل مقصده دون ان يقع في شرك التقريرية التي يمتلكها فطريا
هذا العنوان، وكان النص ككل نصوص المجموعة بكاء عن الزمن الضائع واستدعاء للقيم
المفقودة وحلم بزمن اخر.
كتب عبد الله السعداوي (غفر الله له)
هذه المجموعة القصصية بعد ان سقط طريح الفراش تحت وطأة المرض وكان كل ما يتحرك من
جسده النحيل لسانه فقط، وكان القلب تحت جهاز خاص يقوم استخراج الزفير لأن عمل
الرئتين على إخراج الزفير كان قد توقف. ضمن هذا الوضع وبهذه الكيفية كتب عبد الله
السعداوي نصوص مجموعته عودة الديناصور وكذلك مجموعة شعرية اخرى واستمر على هذا
الحال لعدة سنوات كتب في أخرها سيرة اسماها قريبا من التراب ضمنها حكايات
من الماضي والحاضر وطرح فيها رؤيته في الموت والحياة ، ضمن هذا الوضع وعن طريق
الإملاء الشفوي كتبت هذه المجموعة المحتوية على ما يربو عن السبعين نصا، كانت تنبض
حياة وقوة وكانت بذلك تنفيس عن الم الفراش والمرض والعجز .وأستطاع بذلك هذا المرض
أن يستفز مبدعا ظل طويلا لا يفكر أن يكتب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق