الاثنين، مايو 07، 2018

          البعد الإدراكي في السرد قصة السوأة لعبدالله الغزال نموذجا
نتناول في هذه الدراسة قصة السوأة لعبدالله الغزال وهي من أكثر نصوص المجموعة شعرية وجمالا. نضع الدراسة حول البعد الإدراكي وكيفية تناوله في السرد ثم نرفق نص المدخل الذي وضعه الكاتب لمجموعته القصصية. كما نضع قصة السوأة التي تناولناها بالدراسة.
تمثل مجموعة السوأة لعبد الله الغزال تجربة خاصة في رصيد القصة الليبية والعربية بما احتوت عليه من قدرة تصويرية ومن شعرية عالية، كذلك وعي الكاتب بدور كل ممكنات النص في خلق المجموعة القصصية فوظف العناوين، و العتبات السابقة للنصوص، وكذلك حضور شخصيات خاصة رسم عبرها رؤيته للعالم الأشياء، وكان لقيامه عبر اللغة المميزة بأسطرة الشخصيات وأسطرة الفضاء المكاني للحدث وأسطرة كل ما يحدث الفرصة لكي ينطلق ويتأمل في تلك المستويات التي قام بأسطرتها لنتابع هنا كيف يتم فعل الأسطرة في العتبة السابقة للنص حيث نحن هنا مع الكاتب وهو ينقلنا من أجواء النصوص التسجيلية العادية لعوالم أخرى، ثم ينطلق من تلك العوالم ليمارس فعل تأمله المستمر للكون والأشياء ويطرح رؤيته الخاصة فيما يحيط به من موجودات.


مدخل
يحاول الباحث في هذه الورقة التعريف بالبديل الإدراكي للبصري في نظرية السرد كما سيأتي ببعض المقاطع يتلمس فيها الأبعاد الإدراكية التي تشتغل عليها رؤى السرديات الحديثة.
أولا/ الرؤى النظرية للإدراك في السرديات
توطئة عن التحولات في مفهوم الفضاء والزمن
كانت نظرية الفن منذ ليسنغ في القرن السابع عشر، تعتمد فكرة وجود نوعين من الفنون هما : الفنون الزمنية مثل السرد بأنواعه المختلفة، و الفنون المكانية/ الفضائية مثل الرسم، ولكن مع تطور الرؤى النظرية وظهور مفهوم الإيهام الثانوي في نظريات النقد،وظهور مفاهيم الفضاء الجديدة في السرد، تبين أن الزمن يمثل عامل إيهام ثانوي في اللوحة كذلك الفضاء يمثل عامل إيهام ثانوي في السرد. عامل إيهام يعني أداة عن طريقها يتم تمثل الأشياء ذهنيا، كما صار الحديث متواترا عن ضرورة التفضية للوصول للمعنى.
البعد الإدراكي وحضور الأُطر
يتم تلقي النصوص السردية من خلال القراءة وتستلزم مسألة إدراك المقروء،وجود إطار تدرك الأشياء عبره، حيث كل قيمة يعبر عنها (بلانهاية) تحيل إلى مجهول/ غير مدرك. فالزمن يدرك عبر الساعات و الدقائق أو عبر ظروف الزمان المختلفة أو عبر إشارة إلى الليل او الصباح أو معالم تحديد الزمن المختلفة مثل الشمس او القمر. كذلك تدرك الأرقام في إطار الأرقام فرقم (1) يدرك من خلال وجوده في سلسلة الأعداد وباعتبار انه فوق (0) وتحت (2). كما تدرك الأشياء من خلال ورودها عبر حاسة من الحواس فالحواس بهذا الشكل هي أطر لتمثل أو إدراك الأشياء المنتصبة أمام مؤسسة الوعي.

أنواع الأطر الإدراكية
عند تفحص الأطر المسيجة لوعينا نجد منها الأُطر التالية :
أ‌)        أُطُر حسية ومنها الإطار المكاني، والإطار الزماني، والأشياء المنتصبة أمام حواسنا الخمس.
ب‌)   أطر مفاهيمية تدرك بالذهن إي علاقة ذهنية تنتج إطارها عبر ترابط شيئين أو أقترنهما أو تشابهما.




البعد الحواسِّي في السرد
بالتوازي مع البعد البصري في الرسم، نجد البعد الحواسي في السرد، ويتحققمن خلال تلك الصور التي تحيل إلى حاسة ما أو إلى شيء يمكن تمثله بواسطة حاسة ما، حيث يتم تلقي الأشياء المحيطة بنا والمنتصبة أمام حواسنا من خلال تلقيها عبر انتصابها أمام الحواس المُستفزة والجاهزة فطرياً للتلقي ضمن فضاء محدد يختلف من حاسة لأخرى.
1) المرئيات: وهي كافة الأجسام والأطياف المدركة بصرياً.
2) المسموعات: وهي كافة الأصوات المدركة عبر حاسة السمع والتي تنتصب من خلال اختراقها لفضاء الصمت ذي العلاقة بحاسة السمع فتعكس من خلال انتصابها أمام الحاسة فضاءها الخاص الذي يحويها.
3) المدركات شَميَّاً: وهي كافة الروائح التي تخترق فضاء الشم لدينا نحن الممتلكين لتلك الحاسة فتحقق عبر انتصابها ضمن حيز الشم لحيز واختلافها النوع تحقق إدراكها وتميزها.
4) المدركات لمسياً: وهي كل تلك الأجرام والأجسام الملموسة والتي تخترق حيز الحاسة اللمسية وتتحول من خلال انتصابها أمام لمس اللامس منتصبة في حيز الملموسات لذلك اللامس.
5) المدركات تذوقياً: وهي كل تلك الأشياء التي يتم تذوقها عبر حاسة التذوق فتخرق فضاء الحاسة لدى المتذوقين وتُحدِث من خلال طعمها المتحقق تواجده لدى المتذوق، طعمها النوعي الذي تُدرَك عبره.
محاور الأشتغال الحواسِّي
المحور الأول: وهو محور الحاسة النوعية التي يشتغل عليها الراوي، هل هي بصرية أم سمعية أم شمية في شكل رائحة ما وهكذا.
المحور الثاني:اشتغال على الحواس بين المتحرك والثابت، بحيث تتحول المتحركة إلى صورة متحركة والثابتة لصورة ثابتة مكثفة.
المحور الثالث:هو محور تلك الشخصيات بين الواقعية والخيالية وهو محور معروف في كافة التشخيصات السردية.

ثانيا/ الجانب التطبيقي
نتابع المقاطع التالية التي أقتطعت من قصة السوأة أحد نصوص مجموعة السوأة [1]التي صدرت في الفترة القريبة الماضية عن جامعة مصراتة في طبعتها الثانية ولعله من المهم التذكير هنا أن هناك تباينا كبيرا بين الكتّاب في توظيف هذه التقنيات السردية.
نبدأ من خلال المقطع الأول من قصة السوأة (مع الإشارة إلى أن الأحرف (أ،ب،..) هي من وضعي وليست من المتن الأصلي للقصة.
المقطع الاول
"(أ) الصيف ..!
(ب) غاااااق     غااااق      غااااق ..
رددت جنبات الوديان النداء الفاجع منذ الصباح الباكر.
(ج) ربض الكائن في ملبثه الخفي يرقب انبلاج أفياض النهار، ويرصد طوفان السراب وهو(د) يسلخ الأرض.(هـ) يصيح باللحن المكلوم، ثم يصمت. يسكن حينا. يتجمع في صدره الشجن كما تتجمع نقاط النار صانعة(و) فقاعة ساخنة.(زـ) يفور القاع. يصعد الألم إلى الحنجرة. يحرقها بالأسي. يصبر. يكافح الألم زمنا. (ح) يتململ، ثم يمد رأسه مرغما ويولول مرة أخرى(ط) خارقا السكون الوحشي بالهتاف الموجع المحزون. (ي) تتصايح ألواح الجلاميد الصخرية البعيدة بالصدى، وتردد الكهوف العليا المحفورة في قمم الجبال الأبدية النداءَ الموحش على نحو أشد إيغالا وشناعة في الإيماء المخيف."[2]
يرسم الراوي في المقطع السابق مشتغلا على البعد السمعي كيفية خروج الصرخة من باطن الغراب. هذا الغراب سيكون شاهدا على حالة تكرار مشهد القتل الأول القديم، الذي يتكرر هنا ويستخدمه الراوي ليعبر عن رفضه للقتل بشكل غير مباشر. لنتابع كيف يتم تشكيل الرؤية من خلال وعي الغراب،عبر حاسة السمع التي تتحول من الحين للأخر لحاسة لمس، ونحن نكاد نشعر  نبدأ في (أ) بالتأطير الزمني للحدث حيث الحدث يحصل في الصيف. ثم في (ب) نجدنا مع البعد السمعي حيث نسمع صرخات الغراب، وهي تعد مكونات على مستوى السمع تشبه لحد كبير حضور الأشياء في البعد البصري، في (ج) نتابع البعد البصري أو صورة على حاسة البصر. وينتقل بنا الراوي في (د) إلى البعد اللمسي من خلال الحديث عن شدة الحرارة التي تسلخ الأرض، ثم نجد الراوي في (هـ) ينتقل لحاسة السمع حيث نلحظ حدثا يحدث على مستوى الحاسة السمعية من خلال كلمة (يصيح)  ثم نجد بعدهافي نفس المقطع مكونا سمعيا هو يتجسد عبر الشجن المتجسد في الصدر.
في (و) نتابع الأنتقال إلى حاسة اللمس ثم في (ز) ننتقل للحاسة البصرية في البداية عبر صورة بصرية مادية لمحاولات الغراب الصراخ ثم في (ح) نجدنا في نفس الصورة البصرية ولكن عدسة السرد تكون خارجية حيث يرصد ذلك الغراب خارجيا.
 في (ط) نحن من جديد مع أشتغال على حاسة السمع يقوم به الراوي وهو يرصد صراخ الغراب ثم في (ي) نتابع صدى صوته ذلك حيث يتجسم الصوت ويمارس فعله فيما تقترب الصوة هنا من الغرائبية عبر كلمات تحيل للمطلق وللحدود القصوى للأشياء مثل (الجلاميد الصخرية، الكهوف العليا، الجبال الأبدية، النداء الموحش).
المقطع الثاني
" (أ) مع صعود النهار الصيفي البطئ،(ب) توالى (ج) النغم المحموم (د) خارقا حرمة الصمت الكئيب الذي يلف الصحراء. (هـ) استمر النعيق ..
غاااااق     غاااااق      غاااااق ..
يعود الصدى البعيد يتردد في (و) الفضاء المحروق بالشمس. (ز) يسرع السراب وتبدأ ألسنته الوحشية في التسكع. يلمع وجه النهار بالوميض،(ح) وتمرق سحالي التراب. تهرب سريعا متسحبة (ط) فوق الأرض المتلظية (ي) لتختفي في الشقوق المعتمة،(ك) ثم يعم السكون ليهتكه الكائن الخفي مرة أخرى بالصياح الفاجع المجهول.
في (أ) نلحظ تداخل الزمن بالمكان في فضاء واحد يربط الزمن بالمكان من خلال كلمة الصعود البطيء وهو في الحقيقة صعودًا للشمس. في (ب) نجد الظاهرة التي عرّفناها في كتابات سابقة بالترهين، وهي ترابط مكون من مكونات الحكاية بأخر حيث نجد ترابط حدث صعود النهار مع توالي النغم. هذا الترهين بأعتباره ربطا مفاهيميا ينتج مؤشرا يعلي من قيمة المدرك.في (ج) نجد البعد سمعي بينما في (د) يصبح للمسموع جرمه او جسده ضمن حاسة السمع. بينما في (هـ) نجد رصد فعل على مستوى السمع، بينما في (و) نجد الفضاء يرتبط قريبا من اللمس ثم في (ز) نجد صورة بصرية غير تشتغل على محور غير المعقول حيث السرب وهم وهو لا يتسكع واقعيا.أيضا الصورة التالية بخصوص لمعان وجه النهارثم في (ح) نحن مع صورة بصرية ممكنة التحقق/معقولة.
في (ط) نعود لحاسة اللمس ثم لحاسة البصر في (ي) في (ك) نعود لحاسة السمع وهي الحاسة المركزية في القصة.
المقطع الثالث
ظهر الكائنان البشريان في لوحة القائلة فجأة. بدت النقطتان المتحركتان اللتان تخرقان طبقات السراب تصارعان الظهور رغم طوفان الألق. ظهرت ملامح النقطتين شيئا فشيئا. ولكن سيل السراب المتألق بالوميض مضى يتسحَّب سائرا فوق الوهاد، ويتسلق التلال المكسوة بالهشيم الممتدة حتى تخوم جدران الأبنية البعيدة فيغمرها بصهير شفيف من الألق المخادع."
نلحظ في الصورة السابقة البعد السينمائي حيث نحن أمام صورة متحركة تدرك من عين رائية تنظر من مسافة كبيرة البعد في السماء حيث تبدو الشخصيات كنقط مموهة تلوح وتختفي. هذا هو الغراب الذي كان سلفه القديم شاهدا على قصة قتل هابيل لقابيل يشهد عملية القتل هذه.
المقطع الرابع:
أخترنا المقطع التالي، لما فيه من حضور للبعد المديني وتوظيف مميز لحاسة الشم، حيث تكتض في فضاءات المدن تلك الروائح المختلفة
"في الشارع المزدحم تنشق رائحة الجدران، وروائح المقاهي حيث يجلس العابرون، حمل إليه الهواء الراكد أيضا رائحة المخابز وأدخنة السيارات."[3]

المقطع الخامس
هذا هو المقطع الخامس والأخير في القصة، نلحظ فيه صور خاصة لعملية القتل. المنظر ككل يقترب من البعد التشكيلي حيث يبرز الراوي/الفنان في هذه الصورة البصرية غالبا ذلك البعد الوحشي للجريمة وأستسلام القتيل لنتابعها كما يلي.
(أ‌)     الصورة البصرية ذات البعد التشكيلي
"زحفت على الغراب غيبوبة أيضا. كان الحجر الملعون يرتفع ويهوي على رأس الأخ في حمَّى شيطانية. رآه أحمرا. ثم رآه مسودا. حتى حين انسابت دفقات الدم الساخنة المخلوطة بنتف الشعر على الرقبة الميتة، ظلت يد القاتل متشنجة بارزة العروق وهي تقبض على الحجر. شربت أعواد القش ومسام التراب ما تعصَّر من الطعين المشذوخ من دماء، فيما استمرت الشفتان المغمورتان في وحل الدم تهمسان بالإيماء المخيف المجهول.
ب‌)    دخول البعد السمعي على الصورة المهولة
"سمعه يشهق. شهق الطعين ووجهه في التراب شهقات متتابعة خاوية، تبعتها نفخة طويلة ارتعشت لها بحيرة الدم المكسوة بالفقاعات والقش. تحرك الجسم حركة واهنة، ثم همد. أقبل القاتل عليه. قَلَبَهُ على ظهره. رأى وجهه، ورأى في المقلتين المطفأتين تسليم وخلاص. في العينين لمح أيضا بسمة غموض.
ج) عودة من جديد للغراب الذي طالما أستعار الراوي رؤيته في هذه القصة
نعق الطير نعيقا آخر مفزعا. تحقق الوعد.!
- غاااااق       غاااااق       غاااااق
ردت الجلاميد الحجرية البعيدة الصلدة الولولة المفجوعة. تلقفتها القمم والمغاور العميقة وسط أمواج الحر. خرج الصدي من بعيد كلحن الفناء. تكرر في إيقاع مأساوي:
-       كلنا أنصاب طين ن ن ن ن ن . كلنا أوثان صلصاااااااال ل ل ل ل .
مكث القاتل جامدا .! ، فرت السحالي مبتعدة ، وفي الأودية البعيدة تعالى حفيف أسراب العصافير الخائفة .
د) النهاية الدرامية من خلال صورة بصرية توظف فيعا تقنيات مختلفة منها النفي والإثبات وكذلك التأطير الزمني والمكاني
حين أزف الغروب وتقلصت ألسنة الشمس عن صدر التراب، لم يتحرك الغراب من فوق الصخرة، ولم تتحرك الجثة الممدودة، ولم يسقط الحجر من يد الأخ الواقف، ولكن بركة من دم أسود رائب كستها رغوة جامدة بشعة تجمعت تحت كومة الفروة المتجمعة علىعنق القتيل المنكفئ على وجهه فوق الأرض المتألمة. وظل القاتل واقفا مثل صنم أبدي. أغمض عينيه. حمله وهج الشمس إلى متاهة مرعبة. فقد الإحساس بالزمن. ظل يركض في التيه وحده. برزت له الأصداف الهائلة متلفعة بالسواد. ركض. امتد أمامه برزخ من الضياع لا حدود له. عاد له الصوت المخيف الوحشي. ظل يركض في المتاهة المشؤومة حتى هَدَّهُ التعب. طاردته القواقع الراكضة هاتفة بنواح موصول. النعيب نفسه الذي تردد فوق رأسه وهو يهوي بالحجر على رأس الأخ. تحولت القواقع في ركضها إلى جماجم، حشد هائل من جماجم الموتى . القتلى جميعهم الذين طوتهم الأرض في أعماقها عبر الدهور الغابرة"[4].
أخيرا
 نلحظ من كل ما سبق كيف يمكن إعادة تصورنا لمسألة قراءة النص خاصة عند الوعي المميز بمواضع الإبداع فيه كما نلحظ تميز هذا النص خصوصا ونصوص كتاب النهج الجديد في السرد عموما بهذه المميزات التي تشتغل على تعميق الصور وإعطاء أبعاد اخرى للاحداث أكثر من ظاهرها البسيط كذلك السعي لجعل تنبيه مستمر للمتلقي من خلال بناء صور ذات بعد ذهني خاص.


مقطع في بداية المجموعة

"..قبل أن يحين موعد فتق الرتق العظيم لتنفصل السماوات العالية عن الأراضي الواطئة، وقبل أن تبدأ الأجرام الجبارة شعائر السبح العظيم في أفلاك الزمان، وقبل أن تتعرَّى سَوْءات الكائنات في فجيعة الإنزال من عالم الجَمْع إلى عالم الفَرْق. من عالم الـحُسْن المطلق إلى دنيا الضياع والتشتيت .. قبل ذلك كله، ساءل الزمانُ الزمانَ، وساءل المكانُ المكانَ عن سر الغيب الجديد، عن طلسم الطور الجديد .. تململت الأجرام في طَوَفَانِها، وبدأت ظلال الخليقة المدفونة في العدم شعائرَ الخصف ناظرة ميعاد انكشاف السوأة الكبرى، يوم لا يشرب الإنسان إلا من دم الإنسان، ويوم لا تبني الكائنات أبدانها إلا من لحوم الكائنات. يوم تغضب الأرض الكبرى من طوفان الوجود، ويلوي عنقَها الحنينُ الفادحُ إلى أزل الرتق القديم"
إننا كما نرى أمام عودة زمنية للماضي وصياغة لسؤال المولى للكائن الإنسي الذي يحدث عبر أسطرته هنا أن يصبح مادة لما يريد أن يبرزه الكاتب عبره، الأسطرة كما نرى هنا تتم على مستوى الخطاب من خلال اللغة الخاصة وكذلك على المستوى النصي عبر أبعاد الكلمات المستخدمة في صياغة هذه الصورة.
كما أنها هنا ليست مجرد تعلية لقيمة ما أو شخصية ما إنها أسطرة لكل شيء بحيث يصبح العالم الذي سندخله عالما مختلفا، عالماً غير خاضع لقوانينا العادية ويصبح من الممكن للكاتب أن يقول ما يريده.



                          قصة السـَّـوْأة
.. ما إن امتدت اليد الآثمة بالحجر الملعون تفلق رأس الأخ الذي شهد في ظلمات الرحم عهد الحب حتى تلفع الكون بالنحوس . كُسفت الشمس، واكتأبت الأنجم الزاهرات، تجهَّم وجه التراب وغمر الأرض ظلام دامس. منذ ذلك اليوم ظهرت تلك البقع الحزينة على وجه القمر، وحلت في الأرض لعنة الدم ..

              " من سيرة الكائن "

                                                    ( الخصف الأول )  







بسم الله الرحمن الرحيم

( فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ، قَالَ يَاوَيْلَتِي أَعَجَزْتُ أَن أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوارِي سَوْءَةَ أَخِي ، فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ )

صدق الله العظيم
                  ( المائدة الآية 31 )
 


 
















- 1 -
الصيف ..!
غاااااق     غااااق      غااااق ..
رددت جنبات الوديان النداء الفاجع منذ الصباح الباكر.
 ربض الكائن في ملبثه الخفي يرقب انبلاج أفياض النهار، ويرصد طوفان السراب وهو يسلخ الأرض. يصيح باللحن المكلوم، ثم يصمت. يسكن حينا. يتجمع في صدره الشجن كما تتجمع نقاط النار صانعة فقاعة ساخنة. يفور القاع. يصعد الألم إلى الحنجرة. يحرقها بالأسي. يصبر. يكافح الألم زمنا. يتململ، ثم يمد رأسه مرغما ويولول مرة أخرى خارقا السكون الوحشي بالهتاف الموجع المحزون. تتصايح ألواح الجلاميد الصخرية البعيدة بالصدى، وتردد الكهوف العليا المحفورة في قمم الجبال الأبدية النداءَ الموحش على نحو أشد إيغالا وشناعة في الإيماء المخيف.
مع صعود النهار الصيفي البطئ، توالى النغم المحموم خارقا حرمة الصمت الكئيب الذي يلف الصحراء. استمر النعيق ..
غاااااق     غاااااق      غاااااق ..
يعود الصدى البعيد يتردد في الفضاء المحروق بالشمس. يسرع السراب وتبدأ ألسنته الوحشية في التسكع. يلمع وجه النهار بالوميض، وتمرق سحالي التراب. تهرب سريعا متسحبة فوق الأرض المتلظية لتختفي في الشقوق المعتمة، ثم يعم السكون ليهتكه الكائن الخفي مرة أخرى بالصياح الفاجع المجهول.
حتى قبل أن ترتفع ألسنة الشمس اللاهبة القاسية لتسكب الوميض المصهور، وتشرع في التسلق البطئ، ويعتصر قرصها الجبار بالوهج اللاذع، ما فتئ الهتاف العدمي يتردد بحرقة في الأجواء كدمدمة خفية تخرج من جوف العدم. يظل النغم الأبدي يسبح في الفضاء اللامع، ثم يتضاءل السريان قريبا من السهول. قرب الأرض يتحرك الهواء اللافح المخنوق بلهيب الصيف.
- 2 -
النبوءة الغامضة جاءته منذ أيام. خرجت له من غور الأزل. قرأ إيماءات السر في الهيئة الجديدة التي بدأت أمشاج الشجن واللحون تتخلقها في صدره. لم يكن يعرف لماذا كان كل هذا الألم النهاري ينهال على الأرض. ولم يكن يدري لماذا بدأ اللحن المفجوع في التخلق على هذا النحو المنذر بالفجيعة. قضى أشطارا من الزمن هائما جوالا في الهواء باحثا بمقلتين جزعتين عن آيات النذُّر. يحط حينا. يصيح، ثم يقفز مُحوِّما من جديد. يتوغل نحو الغرب، ثم يتراجع قاطعا مسافات أخرى شاسعة ناحية الجنوب. يظل يصفق بأجنحته حتى يتَنكَّل جنباه، ويستعجل هبوط الليل. ما إن يلتحم الليل بالنهار ويشرع في تطويق الأرض الفائرة ويخنع الكون والكائنات لجبروت الظلام، ولا يعود يسمع سوى وشوشة السكون حتى تستقر الأشياء في مواضعها الأزلية. الليل يستر عورة الأرض. هذا ما ورثه عن السلالة. عندما يهبط الليل، تنسحِب الأضواء. وتتسحَّب الكائنات السائرة في أشعة النهار عائدة إلى مستقراتها تمارس الاختباء والركون الحذر. تقبع الحياة التي ظلت تتنفس الحيرة والغربة داخل كهفها الليلي. تستتر. الحِمْل الذي توراثته السلالة منذ أيام النداء الأول في الأزل، هو الوزر الذي ما فتئ يخرج عبر الدهور في صميم السكون على هيئة نعيق مجهول فاجع، فتهتز صورة القائلة، ويتخلخل ميزان الهاجرة حتى صار سُنَّة دهرية. ينساب اللحن المتوحش من فم المبعوث، تتجاذبه قيعان الأودية المقفرة، ويرتد من على سفوح الجبال العالية الصلدة على نحو أكثر عدمية وفجورا في النواح الموتور. ذلك ليقين الرسول بأن ثمة عورة سوف تتعرى، ثمة انتهاك لحرم الكائنات سوف يصطلي بالشمس، ولذلك يستر الظلام الأرض، كما يستر فيض الحياة في الأجساد الحية السوأة الخفية، تلك العورة التي لا تنكشف إلا حين يخر البدن ميتا بلا حراك. يتهاوى كبرياء البدن، يسقط القناع الموسوم بالواحدية والقهر، ولذلك تتحرك قوافل الدود، وتتنادى حشرات الأرض من أجناب الدنيا الأربع. تنبثق الجحافل من براحها الخفي. تزحف في طوابير حاملة رسالة الأرض. وصية الأم القديمة. تنهش الفيالق الجلد واللحم وتمتص التربة الدماء. يختفي البدن المكشوف في ظلمات الرحم الأول. تواري الأم العورة في أحشائها. تدسها في إشفاق. تاركة للزمن حظ اللهث فوق الأديم.
- 3 -
قبل أيام أقلع الكائن من مكمنه الخفي. ضرب الصخرة الحامية برجليه وارتمى في الهواء. فَرَدَ جناحيه معتزما عبور الفضاء المتلظي بحريق الشمس إلى حيث ترتفع الأبنية قريبا من ساحل البحر. حام فوق الأودية. حام وحيدا لأن السلالة لم تعرفه إلا وحيدا معزولا. حتى حين تهوي جيوش السلالة على الجيف يظل نائيا بعيدا يراقب مناقيرها القاطعة وهي تنهال على اللحم النتن، حائرا في فك طلاسم الأحجية المرعبة كيف يأكل صاحب اللحم اللحم؟ ما أصل السر؟ سر التقاتل، وسر سفك الدم، يربض بعيدا، عائفا، جائعا، ولذلك لم يُرَ منتفخ الحوصلة أبدا.
على رؤوس النخيل المنتشر بين تقاسيم الشوارع تتهافت الغربان، تنتقل من شجرة إلى شجرة، تنعق أيضا، ولكن الكائن بقي معتزلا، نائيا عن القطيع، يحلق وحده غريبا، يهيم فوق الحقول الجديبة، تشده أياد خفية إلى حيث يتسامق العمران. يعود. ويحط وحده على أغصان النخلة الطويلة المرشوقة في بلاط الرصيف قرب بناء البيت. شيء خفي يتمطى في أعماقه منذ أيام يدفعه دفعا لملاحقة شيء ما في البناء. يربض. يرقب، ثم يقلع هائما، جائعا، مرتقيا أمواج النهار الفائر معيدا سيرته القديمة في التحليق البطئ الصامت التي توارثها عبر الزمن.
اليوم أفاق باكرا . قطع المسافات . لمح من الارتفاع الشاهق التشويه المتغلغل في صميم الأرض. الحقول التي زرعها الفلاحون في الخريف على أول هبة سماوية من الماء المقدس تتحول حتى قبل أن يزف موعد خروج الصيف إلى شيء آخر يبعث على الخوف والرهبة. تتشقق الأرض وينجاب سحر الأعشاب. يغيب البشر حاملو الفؤوس. يطويهم المجهول، وترتعش بقايا الهشيم بالعصافير المهاجرة لاقطات الحب. وتسمق المدينة من بعيد بأبنيتها الشاهقة البارقة بالألوان الغامضة. في طيرانه بعد لحظات ظهرت له أبنية المدينة اللامعة، وبعد خفقات أخرى، لاح له امتداد البحر الأزرق على نحو مغرق في الإيماء. تسارعت خفقات الجناحين المرهقين من سطوة الشمس. انحسر طغيان المسافة، وتبدى سريان الزمن مع الطيران البطئ في سيره صوب العدم أشد إيقاعا. تفلَّت اللحن هذه المرة رهيبا كالنواح الأبكم.
غاااااق     غااااق      غااااق 
كم مرة حام فوق أبنية المدينة ؟ كم مرة ناوش الغربان الناعقة فوق غصون النخيل محاولا الإفضاء لها بأحجية تبدُّل اللحن؟ هذه الأبنية تحيره.!، ما سر ذلك البعث المتقد الذي يحرق صدره باللحن المفجوع كلما تراءى له العمران عبر أفياض السراب ؟.  ماذا حدث ؟، هل بدأ الوعد القديم في التحقق ؟. فجأة. كرَّ راجعا إلى البيداء.! شدته المخالب الخفية إلى الملبث. إلى التربص الحذر، شده سر الوعد إلى المكان. تربص فَتَفَلَّت منه اللحن قسرا .
الشوارع خالية. والحوانيت مغلقة. دائما في مثل هذه القائلة الحامية تخلو الشوارع المبلطة بالقار إلا من السيارات المتجهة نحو البحر.
مثل كل مرة يقترب من الساحل. يظهر له اليم العظيم في هيئته الأسطورية. يظل يقرأ في حومانه البطئ سورة المجهول. يختلط المشهد. تعبر فوقه وأمامه وتحته النوارس وطيور البحر. يضطرب طيرانه. على الشاطئ الرملي تأخذ الأرض زينتها، يفترش الخلق العاري الرمال ويعلو الصخب. يحوم فوق الأجساد العارية. يدور قاصدا الجهة الأخرى. يقهر عينيه وميض أبنية الزجاج، يحط على غصن النخلة. يحويه رحاب الغموض. يحرقه وجد مجهول. يتحرك النداء الفاجع في جوفه. ولكن الإيماء الغامض الذي ينبش أعماقه لايفتأ يحرك في أعماقه نارا خفية كلما رأى الأخوين. توجُّسٌ يلسعه كسلك ساخن، يطلق النحيب مرة أخرى ويقلع عائدا إلى البرية الموحشة.
تتفرق الغربان في النهار، تحوم على الجيف المتناثرة في البرية . تنقض. وفي الليل تتجمع الغربان في الكهوف الخفية، ويكمن هو في الليل وحده مراقبا سير الحياة وهي تلتف في حنايا الظلماء. يسكن الليل والكون. يغلق منقاره ويشده نوع آخر من الحنين هو أقرب إلى الخوف والترقب. يستمع إلى صمت الصخور، وإلى دبيب الحياة في الأودية، ويشم رائحة القش، وما خلفه الرعاة من أنغام متوجعة بلحون الشجن الأبدية. يتابع بمقلته المرهقة احتشاد النجوم على القبة الهائلة. مالسر؟
- 4 -
ظهر الكائنان البشريان في لوحة القائلة فجأة. بدت النقطتان المتحركتان اللتان تخرقان طبقات السراب تصارعان الظهور رغم طوفان الألق. ظهرت ملامح النقطتين شيئا فشيئا. ولكن سيل السراب المتألق بالوميض مضى يتسحَّب سائرا فوق الوهاد، ويتسلق التلال المكسوة بالهشيم الممتدة حتى تخوم جدران الأبنية البعيدة فيغمرها بصهير شفيف من الألق المخادع. تموهت الصورة القادمة وغامت. لفتها طبقات من الضباب المشع المتموج. ولكن بدا واضحا أن صاحب القامة الماردة أشد مصاولة وعنفا في مصارعته لسيل السراب. تتحرك أطرافه من بعيد في حركات معاندة ، جسورة. تململ النعيق المأسور في صدر الغراب . أظفار خفية، مؤلمة بدأت تخدش الركام القديم. رآهما قادمين فتزعزع صدر الكائن. صرخ. خرج النداء هذه المرة أشد إيلاما ووحشية.
غااااق      غااااق      غااااق ..
تخلص البشري الضخم أولا من ألسنة السراب الوقحة، وانجابت الغمامة الشفيفة من على جسم البشري الآخر  الهزيل فبدا كطيف شاحب، فارغ التقاطيع، تحوطه غلالة متموجة من الظل. رأى الكائنُ الصورة القادمة. تلوح حينا وتختفي حينا. وجد نفسه يحلق عاليا مباشرة فوق صاحب البدن الكبير. أرشده حدسه المثقل برسالة البعث القديم إليه.
ليس غريبا أن يشاهده على هذه الهيئة من الانتصاب المكابر الكظيم. في رحلاته المحومة في سماء المدينة رآه مكابرا أيضا ، وتناقل حكماء السلالة في رهبة سيرة الفتى المارد.
في صباه فتنته جميع فتيات المدينة اللاتي يهبطن الساحل. يلاحق التماع أفخاذهن الصغيرة في دفق الموج، والتصاق الأثواب الصيفية على النهود اليابسة النيئة. وفي العاشرة اعتلى صبية سمراء عنوة، استدرجها خلف مقبرة المراكب القديمة وحاول اغتصابها، وبعد سنتين وجده الصيادون يزمجر في حر الهاجرة فوق فتاة مكشوفة الصدر وراء أحد المراكب المطروحة على الرمل.
في المدينة الذي عرفته مكابرا، غريبا، يتلاحق الزمن كما تتلاحق السيارات، والصبايا السافرات، وكما يتعالي الضجيج مع مولد كل صبح. تتنفس الشوارع والنوافذ والجدران الدخان الأسود المنفوث من أحشاء العربات. تمتلئ الدروب وتصطرع الأمكنة. تفيق المدينة ، وتفيق معها الحياة الهاجعة في كهف الليل. تسري الأفياض. وخلف الأبنية العالية يعربد البحر، وتتكدس على أغصان النخيل الغربان.
السلالة عرفته أيضا – كما عرفه أهل الساحل - بطريد القواقع. لا أحد لديه اليقين لماذا يفز من وجهه كل ذلك الرعب إذا رأى قوقعة تلتمع تحت ضوء الشمس. حير سلوكه الأنداد، وهمس أهل البحر طويلا في حيرة بمدى الرعب الذي ارتسم في مقلتيه العميقتين عندما استخرج الصبية في يوم آخر صَدَفَةً كبيرة من جوف الرمل الرطب. ولذلك هابه أهل البحر، وصدته الأبواب عندما طاف بالمدينة خاطبا ، وتهامست الفتيات "إن له نظرات ذئب، فكيف يرهب القواقع ؟!" .
خوفه من الأصداف أبعده عن المدينة وعن الحياة السارية على شاطئ البحر منذ أن بدأ عقله يعي الصمت المشع في عظام الجماجم وهياكل القواقع الميتة. خاف وركض هلعا حتى سمي بالطريد.
كان الصبية هم أول من أشاع القصة. اجتمعوا فوق الرمل في الصيف يصنعون قلائد من القواقع اللامعة فسرى في جسده الروع لمرأى الأصداف، ارتعد، وولى هربا وفي عينيه ارتياع مخيف.
 عندما شب هاجر إلى الشرق. عمل بنَّاءً في مرفأ العاصمة الشرقية، ولكنه عاد بعد سنين هاربا. قيل أنه فتك ببحار هناك، رفعه عاليا ثم ضرب به سطح الزورق المسلح بالحديد فقضى عليه. وقيل أن لعنة القواقع لاحقته هناك أيضا. ربض في  المدينة شهورا. فتنته الصبايا ، وصار لا يُرى إلا هائما وراء الفتيات، ولكنه بعد شهور يمم نحو الغرب. غاب في دروب طرابلس، ولكن الجسد البهي الجموح ما انفك يلهب باطنه بنوع كئيب من الحنين للعودة. عاد للمدينة مرة أخرى ففتنته العذراء الفتنة الكبرى. في صخب المدينة، وفوق الضفاف الرملية للبحر رآها تكبر وتتورد. ناداه الحنين منذ ذلك الحين للالتحام القديم، الالتحام بين اللحم واللحم. عمل مساعدا لأحد الحدادين الزنوج في صنع المراكب. يقضي النهار في قرع المسامير بمطارق الحديد لتغوص في أحشاء الخشب، وقبل المغيب يرتقي القمم الصخرية المطلة على مواضع احتدام الموج الداكن يحلم بجسدها المتوجع المورد العطشان. يتأمل في سبحه قامتها الماردة وصدرها الشهي الثري. حلم بها حتى اعتل. يراقبها مراقبة العاشق المعلول. يتبعها في رحلاتها فوق أرصفة الشوارع، وعلى رمل الساحل في الصيف، يلاحقها بقلب واجف، ولكنه وجد في الجسد الرجراج صدودا، وفهم من العينين العميقتين بالسحر خوفا وفزعا وفرارا، ولمح على الشفتين استهزاء وابتعادا ونفورا. اشتدت به العلة فقصد شيوخ الطريقة العيساوية. ولكن الشيخ أومأ إليه بعينين هادئتين ثاقبتين، وشفتين متغضنتين بأحافير داكنة:
-          هل ترى الأصداف في الليل ؟.
ارتعد . أكمل الشيخ القديم:
- لا حيلة لك عندي، أنت مصاب بعلة لا دواء لها، هي ليست لك.!
كان رد الشيخ قاطعا، فاشتدت بالعاشق العلة..
في الليلة نفسها بعد العشاء قصد بيت الأخ، وأخبره في لهجة يومض منها تهديد مخيف بهيامه بالعذراء.
- 5 -
ولكن الصبية هامت بالزاهد. رفعت عقيرتها بلحون العشق عندما قابلته مرة واحدة على الشاطيء في أحد الأصياف. كانت ذاهبة مع الفتيات للبحر. عبثت بقدميها مع الأقدام الناصعة بالزبد، وعبث بها الموج الصافي وخرجت مبتلة النهدين، مصقولة الضفائر. وقفا متواجهين. تبادلا نظرة طويلة. قرأ كل منهما الإيماء الخفي في عيون الآخر. السر الغامض الذي يُبعث ساعة الملاقاة بين الرجل والمرأة عائدا بهما لسر الخلق الأول والعودة. عودة الفرع للأصل. والجنون الذي يكتسح الأصل لاسترداد الفرع والالتحام به من جديد. وقفا ساكنين. بعد تيه طويل في رحلة الشقاء التي تمادت في العيون السارحة بحزن يأس الوصل أحست بالدوار، وحدست بشجن القلب سوء المنقلب، ذلك لأن في عمق عيون الرجل أغوار لا يحسن سبرها وفك مكنونها غير المرأة العاشقة. طأطأت، وطأطأ. لم يستطع أيهما أن يعاود النظر في وجه الآخر. بقيا صامتين. فجأة استدار. قصد الضفة الرملية. تابعته وهو يتضاءل في مواجهة المد العظيم للماء. وعادت هي إلى المدينة. العاشقة لم تكن تدري أي عاصفة عاتية من الأحزان في انتظارها .
لم تره لشهور .!
في صيف آخر، التقته مرة أخرى في الطريق القادم من ناحية الشرق حيث السور. هناك يتوارى جده الأول، وتتوارى أجساد البررة الذين قتلتهم بنادق ومدافع وقنابل الطليان عندما اكتسحوا المدينة منذ قرن من الزمان.
رآها قادمة فانحرف يمينا. هبط الدرب الصخري الملتوي النازل صوب تجمع الصيادين. تزعزع كيانها بأشجان العشق الرميم. انحرف فعرفت سر زهده، وازداد الشقاء في كيانها طغيانا.


- 6 -
في ظل سفح ترابي قرب شجرة ارتمى الأخوان. ارتميا قرب أكوام القش، وأكداس السنابل الكبيرة المجموعة في حزم. أقلع الطائر. دار في الهواء بقلب خافق دورات سريعة، ثم حط فوق قمة صخرية قريبة تشويها الشمس محاولا استراق السمع. رأى وجه ذي القامة الماردة مسودا كظيما، وقرأ في انتصابه فوق القش سورة النذير. نفشت ريشه موجة خفيفة من الهواء القادم من ناحية البحر. هل أزف يوم تحقيق وعد القسم المشؤوم؟ قسم الإغواء القديم الذي أقسمه المعاند الرجيم الأول في الأزل طالبا مهلة الانتظار والتربص.
رآهما الغراب يتحدثان. حلق من فوقهما وصاح مرسلا غناءه المقهور. رفع المارد رأسه متوجعا. الغناء النائح جلب له صخبا كالإعصار المحبوس في غور كهف. زمجر اللحن في الظلمة ثم خرج يتسلل كالأنين البعيد. رفع يديه. مسح وجهه ثم سدد نظرة إلى الأخ. عربد البحر المختفي خلف المرتفعات. خيل إليه أنه الزبد يقصف أذنيه من هذه المسافة . اقترب الغراب المُحوِّم، لمح  في جوف مقلة المارد نظرة كتلك التي تتراءى في عيون طغاة البحر، حمل له الهواء المتدفق حول رأسه: 
-          هل تريدها قرينة ؟
حط الغراب على صخرة. تبادل مع سحلية توقفت في الحضيض الأسفل نظرات صامتة، ولكنها ما لبثت أن فرت مبتعدة واحتواها شق ضيق في الصخر. أرجع رأسه، باغته الهواء بحِمل جديد من المنطق الغامض:
-          لقد سلبتني نعمة الهناء، ستكون السبب في قتلي .!
-        لا يستطيع الإنسان فعل شئ. هل تعتقد صادقا بأنك استدرجتني إلى الحقول؟ ألا تسمع هدير البحر؟  يجب أن تتخلى عن هذا الحمق والأنانية. 
-        يجب أن تتخلى أنت عنها. أنا مفتون بها وأنت تعلم ذلك، اطلب منها أن تستدير ناحيتي.
-        وهذا لن ينفع بشئ، أنت تتبع جمال الطين والحمأ، وهذا الجمال هو مجرد وهم كالسراب.
تحركت الشفتان المصبوغتان بالغل:
-          لأقتلنك.
-        لن ينفعك ذلك بشئ ، أنت تحتاج إلى رجل طاهر ليسكنك، أنت أعمى لأنك تشب على الديانة القديمة، أنا لن أساعدك على إغواء أحد.
-          لأقتلنك .!
قالها بصوت عال مزمجر. في الوادي المجاور تمادت سيول السراب في الإغواء العظيم. علا نحيب الغراب فوق الصخرة. أصدر المارد زفرة . تأمله الفتى بعينين فارغتين. أدار له ظهره ، ومشى خطوات فوق القش. رد بصوت خافت:
-          إنما تقتل نفسك.! هل تظن إنني أقيم وزنا لما تسميه عشقا .؟
ابتسم في حزن. أشاح إلى الفراغ حيث يتردد النحيب فوق الصخرة المسطحة، ثم أضاف في إشفاق محزون:
-        إنها لا تلقي لك بالا لأنك لا تريد أن تفهم بأن القربان لا يتعلق إلا بصاحبه. المرأة قربان الرجل، والرجل قربان نفسه. إذا قتلتني فهذا ليس ما أريده أنا، وليس ما تريده أنت. هذا ما يريده القدر . لقد قلت لك، لا يستطيع الإنسان فعل شئ .!
خرجت السحلية من الشق. أطلت برأسها الحذر. رآها الغراب تمد رأسا لحوحا في الهواء ناحية الزاهد الذي أضاف في نبرة غامضة حائرة:
-          يولد الإنسان عريانا، ويموت عريانا.!
-          لا أفقه شيئا مما تقول .! قلت لك ابتعد عنها، أو لأقتلنك .!
رأس المارد ظل عرضة لفيض الشمس.
مكث الطير جاثما. كافح ليمنع انبثاق اللحن الفاجع مرة أخرى. خيل إليه أن أشياء مدببة كالحسك تجرح حشاشته ، فتح منقاره ملتقطا ما يحمله له الهواء من حديث، وامتد اللسان اليابس يلعق ما علق بالهواء المسرع من ماء خفي تنفسه البحر البعيد. أشاح بعيدا إلى حيث تتراءى تمزقات الزبد الأبيض على مخالب الصخر. لعق الهواء المرطب ثم لوى عنقه. دس رأسه في كسوة الريش. ولكن الوجيب المخيف تسلل من الجسم المحموم وتخلل الريش ودخل إلى رأسه. أخرج رأسه بمنقار يرتعد . يلهث. تذكر ما تناقلته الأجيال الحكيمة عن السيرة الأولى. سر التعلق، وسر الخطيئة، وسر الوزر!. حتى أفراد القطيع الذين ورثوا بعض الحكمة عن الأسلاف لم يدركوا وهم يتناعقون في فضاءات البر والبحر، وعلى قامات النخيل في المدينة بأخبار سيرة المارد لم يدركوا كنه السر. لماذا يقتل الرجل نفسه من أجل المرأة!، ولماذا يقتل الرجل الرجل.!، لماذا يتقاتل الإخوة !.،ولماذا يتبادل الذكر والأنثى الذل والكبرياء.! ، لماذا على الوعد القديم التحقق في كل مرة.!، ولكن النعيق المتململ في الصدر حمل نبوءة الاضطراب الوشيك الحدوث الذي سوف يعم الأرض.
علا الهرج في الأسفل فاستدار الطائر.!
نظر إلى الفتى الزاهد. التقت نظراتهما في شعاع خفي. قرأ كل منهما الإيماء في عيون الآخر. ابتسم الأخ بحزن جليل، وأشار بيده إشارة خفية. دار الغراب دورة في الهواء وعاد لمستقره على الصخرة. عاود النظر من بعيد في أغوار عين الأخ ، خيل إليه أنه سمعه يتمتم. وخيل إليه أنه لمح خطوطا تتحرك في الحدقة السخية بالأسرار. فهم. ظل قابعا.  
استدار إلى حيث يقف المارد كالحجر. اشتد ألم الوخز في الحشاشة الضامرة. أغمض عينيه وفتحهما فشاهد الرجل الضخم يرتعد. رأى عينيه تشخصان إلى شيء خفي في الفراغ، ويده تتلمس شيئا مخفيا في الثياب. فتذكر العذراء.
- 7 -
بعد يومين من لقائه شيخ الطريقة، لمحها في الليل تتسلل مسربلة بثوبها الفضفاض الأسود مسرعة نحو بيت الأخ. لحقها. صدها الباب. عادت أدراجها. التقاها في الشارع تحت النخلة. في أضواء الشارع الكليلة قابلها بوجه متضرع، وواجهته بصدود حليم، ولكن لم تفلح محاولاتها ليلتها في إقناعه بالعدول عن رأيه.
ركن إلى الحيلة ، فاستدرجها إلى الحقول.!
كانت البرية تسبح في أنهار الأرجوان. تبعته خائفة. أشياء تنغرز في جوفها كالخطاطيف الحديدية الحادة المؤلمة، وتجوس خلال عقلها المضطرب. ولكنها استنصرت بتخوم الأبنية الجنوبية القريبة، وإلى قرب موعد عودة الرعاة الزنوج بالأنعام من الوديان. 
-          اجلسي، أريد أن أحدثك بأمر .!
رصدت ارتعاشة فيها نذير خلف الصوت العميق. دَاخَلَها الروع. اتكأت على حجر. تربصت، فيما ظل هو واقفا. كافح ببصره ليخترق القماش المنتفخ على الصدر الشهي. عبث النسيم بجديلة نفرت من تحت لحافها وانعكست عليها حزمة من ضياء الشمس الغاربة. صنعت الأشعة المنعكسة من على خديها الأحمرين ألقًا موردا فتجلت آية البهاء على المُحيَّا الفاتن كله. نظر إليها فازداد شقاء. اقترب منها. انحنى. رفعت رأسها إليه وهمت بالكلام فانتشر على صفحة وجهها كله مويجات خفية منعمة موردة. لاحق رفيف الحياة الخفي الذي لاح خلف صمتها المتردد بعينين خاويتين واستشعر الحمى تلسعه. أكمل جسده الملدوغ إفاقته حين رفع الهواء الجديلة النافرة لتخفق خفقات متتالية أمام وجهه. ضرب الشعر الفائح بالعطر مقدمة أنفه. خيل إليه أنه يسبح في غياهب مجهولة من الحسن والشجن معا. غاب في السبح. ثم أفاق فزعا .
-          لم أخبر أحدا بأنني قادمة إلى هنا.! لن أستطيع المكوث هنا طويلا، ما الذي تريده مني ؟
باغتها :
-          هل تعلمين كم ليلة انتظرتك؟.
بدأ الحديث هادئا رغم الاختلاج في البدنين، جادلها. ولكنه قرأ في هذه المرة صدودا غير الصدود، ونفورا غير النفور، واستخفافا متماديا في العناد والابتعاد. قرأ أيضا ذلك الكبرياء الذي يشع إلا في عيون الحسان. وذلك الذل الذي لا ترضى به إلا المرأة التي أسلمت قلبها لرجل آخر ، ولكنه عاند أيضا بالذل، عاد وطرح نفسه تحت قدميها. جثا على ركبتيه أمامها. زحف على ركبتيه، أمسك بأطراف الثوب، وتضرع ببكاء مُر :
-          فقط أصيخي إليَّ ، ..
دفعته بكلتا يديها باحتقار. صرعته. انطرح جسمه إلى الوراء. نهض مغبر الشفاه والشعر. تشبث بتلابيبها البائسة. برقت عيناها، وازداد تدفق الدم إلى وجهها. ناضلت لتحرير ثوبها من يديه. قست عيناه فجأة بوميض مرعب، ثم خبا بسرعة. أكمل متضرعا: 
-        بين الكهوف ذكرتك، وفي ظلام غرفتي عبدت طيفك، وعلى أمواج الماء رأيت النور في صورة وجهك. أطيعيني وسأرتقي بك إلى عالمي. أزيحي الغشاوة عن نفسي، ناوليني يدا من صفاء.
علا صوتها أكثر: 
-        أنا لست لك، وأنت لست لي، أنا لا أستطيع الوثوق في هذا العالم الذي تتحدث عنه.!
انعكس الوهج القادم من الشمس المحمرة وراء غمامة فارغة على وجهه حتى صار بلون الدم المسفوح. بلغ به اليأس ذروته. قرأ في عينيها استنجادا بأخيه الغائب.
-        أشعر بالنار تحرقني كلما رأيت نظرة عابدة ترسلينها إليه، يا إلهي، ما أغباك.! إنه لا ينظر إليك، أنا وحدي من دمُه يتنشق عطرك. أنتِ شمسي وضيائي حين أتوحَّد مع الليل وتطاردني القواقع، أنتِ لي هل فهمت .؟
-        ولكنني اخترت أن أصدق شقيقك.! وشقيقك اختار غيري، ألا تفهم؟ عد إلى رشدك، أنت تؤلمنا جميعا.! 
أنشب الحقد في رأسه مخالب محمومة. بدأ تحوُّل آخر في الظهور ويطفو على صفحة وجهه الكظيم كالغمامة المعتمة فازداد سوادا. اشتد به الجنون للثم الدم المتألق في الشفتين. صرخ الذئب المحبوس في الأعماق. زام في وحشية. طفق يدور كما يدور سبع مأسور. صفعت دفقة هواء الجدائل فحجبت عنها الرؤية. أزاحتها سريعا بالأنامل الغضة الخائفة فعبق الفضاء برائحة الدم. أنشاق الدماء التي تبعثرها الجدائل أيقظت في نفسه مزيدا من السعار. طفق ينتفض. تملكها وجل من ذلك الإشفاق المرعب الذي تعتصر به عيونه الغائمة وراء سواد مخيف. هجم على العذراء بعينين استعاراتا لون الدم اليابس المتجلط . تقهقرت خطوات صارخة: 
-        كم أمقتك .. آااه ، ما أشد غبائي.. كيف صدقتك هذه المرة، كيف سولت لي نفسي أن أتبعك، منذ أن كنت صبيا وأنت لا تحمل بين جنبيك سوى الكراهة، ابتعد عني.
-          قلبك متعلق بي، فقط دعيه يلفظ إسمي بصوت عال.
-        إن عينيك كريهتان.. أشاهد فيهما عالما رهيبا تلطخه الدماء. ألا تفهم؟ انظر إلى عينيك في المرآة، ألا ترى إنك تبدو كمسخ كريه؟. إن لك قلبا لا يتنفس إلا في حريق الموت.
هب النسيم المعابث على نحو أكثر قوة. التصقت الجديلة الكبيرة النافرة بوجهها فأوثقت فمها. ألقت برأسها ناحية المدينة البعيدة مستنجدة. هامات الأبنية العالية المصقولة بالزجاج الأزرق تلونت بلون أحمر فاجع، وهدير العربات القادم بدا رهيبا. بعيدا. موحيا بالفجيعة. توسلت إليه بعينين فزعتين، ولكنه شرع يضحك كالمهووس. تغلغلت ضحكته الكريهة في أعماقها كالمدية الحادة . شعرت بها تغوص في جنبها وتشطر جسمها شطرين. نظرت إليه نظرة تلونت بالهلع والاحتقار والخوف. وقف يزفر، ولكنه ما لبث أن شن هجوما آخر أشد ضراوة. صرخت. ارتمى فوقها. تحطمت أكوام السنابل. غابا معا في الفجوة التي حفرها ثقل الوزن وغطتهما الأعواد الهشيمة. قاومته بيديها وساقيها بعنف حتى تعرَّى الفخذان. استنشقت الغبار، ومضغت القش. كادت تختنق. خرج صوتها مكتوما. ولكنها قاتلته كذئبة ضارية، استلت نفسها من ركام القش وعبث يديه الحانقتين وولت هاربة بساقين مليئين بالخدوش. ركض وراءها بهوس. ثم جمد في مكانه يلهث. تابعها بصيحة عاتية:
-          لأقتلنه ..!
من بعيد، خيل إليه أن الأصداء ترددت في الفضاء زمنا طويلا.
- 8 -
تسكع بين الحقول كالأعمى. هبط الأحاضيض، وارتقى التلال في الوادي. رأى الرعاة يهشون الأنعام المنتشرة شطر تخوم المدينة الجنوبية. مشى فوق الهضاب المفروشة بالحصباء. سحق سحلية رمادية من سحالي البر بين حجرين، ورجم بالأحجار العصافير المنتشرة تلتقط ما خلفته البيادر الحصيدة لتنهي رحلة الأوب منتفخات الحواصل. أطاح أحد أحجاره بعصفور أزرق فأحاله إلى كومة بائسة من الريش واللحم المعجون. فزعت الأسراب، غزت الفضاء في فيالق طائرة هائلة كالجراد. صنع حفيف أجنحتها الخائفة هسيسا ضخما كهسيس النار. عاد منكسرا، حانقا. يلوثه القش والغبار والتعب والعرق. قصد الساحل. غفا إغفاءة مشحونة بالهواجس على ظهر القارب المتأرجح بين انعكاسات حمراء على صفحة الأمواج الهادئة. أفاق عند الغسق. بقي ممتدا بجسمه على ظهر الزورق المصفح بالحديد حتى ظهرت ملامح الظلام. في طرف اللجة البعيد ظهر قرص القمر بطيئا، مموها وهب نسيم المساء. هدأ البحر هدوء غريبا، ظلت لطخة الأضواء المنسكبة من جوف القمر تترقرق على سطح اللجة المائتة كأفعوان جبار هائل يتحسب ببطء صوب الأفق المجهول. في الضياء المنعكس على حراشف الأفعوان اللامعة برقت صور متتابعة متحركة للعذراء. ارتد على عقبيه شطر الأبنية التي بدأت تومض من بعيد.
- 9 -
في الشارع المزدحم تنشق رائحة الجدران، وروائح المقاهي حيث يجلس العابرون، حمل إليه الهواء الراكد أيضا رائحة المخابز وأدخنة السيارات. سار مع نفسه مثل غيمة شاردة ، رائحة إلى أرض مجهولة نائية. عاد على البيت. لم يكلم أحدا . حاول النوم. هاجمه الأرق، ثم طادرته الأصداف في النوم. سلت القواقع الأبدية المنكفئة على وجهها في الرمل أجسامها الصلبة من أسر الملح. تراصت قسرا في صفوف طويلة أمام ضجة الخضم العظيم المتململ في الظلام، وصبَّ القمر جرعا أخرى من الضوء المسحور على الأمواج وهدرت الريح. كانت المطاردة هائلة هذه المرة. ركض في جوف الظلمات فوق الرمال. الريح تقصف أذنيه ووقع ركض الأصداف الميتة يلاحقه. استنجد بالساحل الذي صلَّبه تدفق الموج المتراجع. جاس بقدميه في الماء. تناثر. غرق وجهه في الرذاذ واستطعم الملح الأجاج. من السديم المظلم برزت أمامه الصدفة العملاقة فجأة كالقدر. ارتد على أعقابه مصعوقا. ركض في الاتجاه الآخر كالمحموم . الصدفة الهائلة تلاحقه. تدب دبيبا سريعا، صامتا، موحشا يقرع سمعه كألف مطرقة من حديد. التفت بعينين زائغتين. القوقعة الجبارة تجري بجنون أيضا فوق الرمال اللامعة المنتهكة بالزبد. تغسلها الأمواج. يزداد لمعانها اضطراما. يستمر الدبيب العظمي المخيف. في ركضه المفجوع انحرف يسارا. ابتعد عن البحر ومصب الموج. لاحت له أضواء المدينة. جرى بجنون أكثر. سلك الهيكل الطريق نفسه. شعر الهارب بانحسار المسافة بينيه وبين القوقعة المجنونة. أطاح برأسه إلى الوراء. لمح التجويف المظلم في القبة العظمية المتحركة يقترب منه بسرعة مخيفة. اكتنفه الشلل. مضى الخدر يرسي في أوصاله كما يسري السم في العروق. أحس بأنفاس الصدفة الهائلة تلفحه. تحولت الصدفة العملاقة إلى العذراء. خيل إليه أن صوتا مبحوحا يلاحقه خارجا من جوف الكائن العظمي. أفاق هلِعا ، مكث ينتفض . استشعر جلده المغسول نوعا جزعا من البرد. زفرت مسامه في النوم المخيف عرقا سخيا. طفق يرتعد. أدار عينيه في الغرفة. استرق السمع بعقل مضطرب خائف. مكث جامدا يحدق إلى لاشئ، ثم قادته قدماه إلى الشارع المقفر الصامت. مشى بجسد مكدود. ثم قصد الساحل. تناقلت أركان عقله صيحته التي صاحها في الحقول. لسعه الفحيح المتنامي في أعماقه "لأقتلنه".
- 10 -
في الحقول تمركزت بؤرة الشمس في قلب السماء، انحسر الظل عن السفح. شعر الغراب بباطن رجليه تحترقان. وبلغ التوتر بالمارد حدا هائلا. استل الخنجر ووقف يواجه ظهرالأخ الواقف في سكون. لوَّح به في حركة خاطفة تحت الشمس. انزلق النصل على جانب العنق . قطع العرق. فز الدم سريعا في خيط ساخن مبعثر، استدار المغدور. لوَّح به بقوة مرة أخرى إلى الوراء معتزما تسديد طعنة أخرى إلى الصدر فانفلت من اليد القاتلة. مضى يدور ويبرق بريقا بشعا في الهواء. غاب النصل في أكوام القش وبقي المطعون واقفا يخرخر بالدماء. بحث الطريد بجنون بين أكوام القش عن النصل. لم يجده. عبث بحزم السنابل بجنون أكثر. أزاح الأكوام بعيدا، ثم شرع يبعثر القش والتراب. ذرتها الرياح. ركض خطوات في البر ثم عاد ينكش القش. اصطدمت يده بحجر له رأسان محرشفان غائص في لحمة الأرض. قبضت اليد المتشنجة على السلاح. استلته من التراب عنوة.
من موقعه المستور مكث الغراب يرقب المشهد الدموي المخيف. أخذه المشهد بعيدا عن ألم الحرق في رجليه. ظل منقاره مفتوحا من سطوة الحر والذهول.
مع أول لطمة بالحجر المدبب الملوث بالطين، رأى جزءًا من فروة الرأس تنسلخ في مشهد مروع وتظهر من تحتها الجمجمة اللزجة. ترنح الزاهد. مع الضربة الأخرى حميت الشمس أكثر. واشتد وميض النهار والجمود. انفجرت تيارات الدم إلى أسفل وخر الأخ إلى الأرض. خر الطعين على ركبتيه. أطاحت ضربة أخرى بالحجر برأسه من الخلف. انكفأ على وجهه في التراب. جن جنون الشمس. تعصَّرت بؤرتها الحارقة على رأس القاتل ببقعة من نار، فازداد جريان الدم الحارق في العروق السامة. سددت اليد الهائجة لطمة رابعة على الرأس المسلوخ المنطرح على القش. زحفت على الطعين غيبوبة. تمتم  بشفتين واهنتين تجوسان الطين المنقوع بالدم:
-          يولد الإنسان عريانا ويموت عريانا .!
سرت نار خفية ملعونة في عروق اليد الآثمة. انهالت باللطم الشرس المتوالي على مؤخرة الرأس. طرقعت عظام الجمجمة فاهتز السكون، تهشمت العظام، فزَّ معها هُلام المخ، وتدفق الدم غزيرا فوق الوجه، ولكن الشفتين استمرتا تتمتمان بصوت متقطع:
-        يولد الأنسان عريانا ويموت عريانا.. كلنا أنصاب طين . كلنا أوثان صلصال. يولد الإنسان عريانا ويموت عريانا .!
مع ازدياد انسلاخ الفروة المنقوعة بالدم وقطع الهُلام تعرَّت العورة. انكشفت في مشهد موصوم بالعار. خسفت الأشياء أما ناظري الغراب وغامت. امتد الجسم الميت المكشوف يخرخر بالدم.
زحفت على الغراب غيبوبة أيضا. كان الحجر الملعون يرتفع ويهوي على رأس الأخ في حمَّى شيطانية. رآه أحمرا. ثم رآه مسودا. حتى حين انسابت دفقات الدم الساخنة المخلوطة بنتف الشعر على الرقبة الميتة، ظلت يد القاتل متشنجة بارزة العروق وهي تقبض على الحجر. شربت أعواد القش ومسام التراب ما تعصَّر من الطعين المشذوخ من دماء، فيما استمرت الشفتان المغمورتان في وحل الدم تهمسان بالإيماء المخيف المجهول. سمعه يشهق. شهق الطعين ووجهه في التراب شهقات متتابعة خاوية، تبعتها نفخة طويلة ارتعشت لها بحيرة الدم المكسوة بالفقاعات والقش. تحرك الجسم حركة واهنة، ثم همد. أقبل القاتل عليه. قَلَبَهُ على ظهره. رأى وجهه، ورأى في المقلتين المطفأتين تسليم وخلاص. في العينين لمح أيضا بسمة غموض.
نعق الطير نعيقا آخر مفزعا. تحقق الوعد.!
- غاااااق       غاااااق       غاااااق
ردت الجلاميد الحجرية البعيدة الصلدة الولولة المفجوعة. تلقفتها القمم والمغاور العميقة وسط أمواج الحر. خرج الصدي من بعيد كلحن الفناء. تكرر في إيقاع مأساوي:
-        كلنا أنصاب طين ن ن ن ن ن . كلنا أوثان صلصاااااااال ل ل ل ل .
مكث القاتل جامدا .! ، فرت السحالي مبتعدة ، وفي الأودية البعيدة تعالى حفيف أسراب العصافير الخائفة .
حين أزف الغروب وتقلصت ألسنة الشمس عن صدر التراب، لم يتحرك الغراب من فوق الصخرة، ولم تتحرك الجثة الممدودة، ولم يسقط الحجر من يد الأخ الواقف، ولكن بركة من دم أسود رائب كستها رغوة جامدة بشعة تجمعت تحت كومة الفروة المتجمعة علىعنق القتيل المنكفئ على وجهه فوق الأرض المتألمة. وظل القاتل واقفا مثل صنم أبدي. أغمض عينيه. حمله وهج الشمس إلى متاهة مرعبة. فقد الإحساس بالزمن. ظل يركض في التيه وحده. برزت له الأصداف الهائلة متلفعة بالسواد. ركض. امتد أمامه برزخ من الضياع لا حدود له. عاد له الصوت المخيف الوحشي. ظل يركض في المتاهة المشؤومة حتى هَدَّهُ التعب. طاردته القواقع الراكضة هاتفة بنواح موصول. النعيب نفسه الذي تردد فوق رأسه وهو يهوي بالحجر على رأس الأخ. تحولت القواقع في ركضها إلى جماجم، حشد هائل من جماجم الموتى . القتلى جميعهم الذين طوتهم الأرض في أعماقها عبر الدهور الغابرة.
- 11 -
واصل النهار المحتضر رحلته في السماء وهو على حاله. ظل منتصبا متحجرا كتمثال من صخر. في عينيه المكسوتين بالبياض لمح الغراب دموعا حارة تتحلب. تتهاوى على صدره في سخاء مثل قطرات المطر الكبيرة. تتهاطل في يأس يوحي بالرثاء. في غيبوبته القاسية سفح دمعا سخيا . قبل أن يوقظه الهتاف المكلوم. صياح الكائن رده إلى حدود المكان. أفاق. مشى خطوتين. ولكنه سقط على الأرض. نهض كالمستفيق من غشية. مشى خطوات بائسة مترنحا، ولكنه خر إلى الأرض من جديد. زحف على يديه ورجليه. أحس بقطرات جامدة تلتصق بوجهه. كشطها بعينين زائغتين فوجدها دما متيبسا. داهمه هلع أشد. زحف مبتعدا. فجأة، أحس بالحجر ملتصقا بيده. ملتحما بلحمة الكف التحاما تاما. خيل إليه أن نتوءات الحجر تغلغلت في الجلد، وضربت بجذورها في اللحم والعظم. صار الحجر واللحم قطعة واحدة. مد يده الأخرى مصعوقا يعالج الحجر النابت في الكف. طبقة الدماء اليابسة ألصقت الحجر باللحم. عالجه بعنف. تكسرت طبقة الدماء الجامدة. سقط الحجر. عاد وريث الدم إلى الأرض. واحتواه غيهب الأوب الأبدي، واحتوى هو الجثة المطروحة على القش بيديه. عانقها وهو ينشج نشيجا قاسيا ، مرا. خرج صوته مبحوحا متقطعا كصوت طفل أعمى تفقأ عيناه بسيخ ساخن. كلما نظر في العينين الميتتين وطرق سمعه النواح المجول كلما علا صوته بالنحيب الفاجع.   
قطعت الشمس في رحلتها براحات بائسة أخرى نحو الغرب.
اعتصر المغيب بأصباغ واهية حمراء. لطخ مضطربة بقيت ملتصقة بلوحة الأفق كبقايا فلول حريق كبير.
 أظلمت السماء ..
 هبط الليل هبوطا وحشيا. ولكن النداء المخيف ظل يتردد من مكمنه الخفي فوق الصخرة.
    -   غااااااق      غاااااق       غاااااق
فترد ألواح الحجر الصلدة المرصوصة على سفوح المرتفعات المشوية بنيران الشموس الأبدية، وتُرجِع أغوار الغيران في الجبال البعيدة النائية الصوت:
-        كلنا أنصاب طين ن ن ن ن ن  . كلنا أوثان صلصاااااااال ل ل ل ل .
رددت الأفلاك النداء وتنقلت النجوم بين الأبراج. دخلت المواضع النحسة. وخسف القمر. مسح الغراب بقايا تراب علق بجناحيه. قفز بجناحيه البطيئين المُتربين إلى السماء الرمادية، وضاع لونه في لونها.





[1]عبدالله الغزال ، مجموعة السوأة، جامعة مصراتة –مصراتة، ط,1، 2013/ قصة السوأة.
[2]عبدالله الغزال ، مجموعة السوأة، قصة السوأة.
[3]عبدالله الغزال ، مجموعة السوأة، قصة السوأة.
[4]عبدالله الغزال ، مجموعة السوأة، قصة السوأة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق