الاثنين، مايو 07، 2018

                    قراءة في قصة الثعبان لعلي الجعكي
(سلسلة اشتغالات حول نصوص مميزة في القصة القصيرة (2))
هذه دراسة لبعض جماليات الكتابة القصصية عند الأستاذ علي الجعكي من خلال قصته الثعبان ، احد نصوص مجموعته القصصية الأولى : سر ما جرى للجد الكبير.
تمثل تجربة الأستاذ علي الجعكي تجربة شديدة الخصوصية، حيث لديه قدرة مميزة على الوصف وعلى رسم حالات الشخصيات النفسية بلغة خاصة مختلفة عن السائد، وأحد افضل هذه القصص قضة الثعبان التي نحن بصددها. 
قصة الثعبان هي احد قصص علي الجعكي المميزة التي تظهر بوضوح قدرة الكاتب على توظيف الوصف لنقل حالات الشخصية النفسية المتأزمة، كما يظهر فيها قدرته على الانتقال بتصويره من فضاء حاسة لفضاء حاسة أخرى موظفا كل من الحواس المختلفة لأغراض خاصة. القصة يحكيها متكلم يعيش حالة نفسية خاصة وهو يزور باستمرار تمثال رخامي في أحد حدائق مدينة من المدن. يعيش المتكلم في احد الفنادق ويسرد لنا من خلال قصة ذلك التمثال ومشاعره الخاصة تجاهه، تأزم أوضاعه النفسية الداخلية، كما يساهم في ذلك حضور الغرائبي من السرد فنحن نعيش بين الواقعي والغرائبي وبين التعلق بالتمثال واستخدام كأداة لتبئير الذات بشكل غير مباشر، ينتهي الأمر بتأزم أحوال الشخصية وظهور الثعبان الذي عنونت به القصة فاعلا من الفواعل وهو ينهش التمثال الرخامي.
أرفق هنا الدراسة معها نص قصة الثعبان كما هو في موقع القصة العربية.



1-1 مدخل:
قصة الثعبان هي احد قصص علي الجعكي المميزة التي تظهر بوضوح قدرة الكاتب على توظيف الوصف لنقل حالات الشخصية النفسية المتأزمة، كما يظهر فيها قدرته على الانتقال بتصويره من فضاء حاسة لفضاء حاسة أخرى موظفا كل من الحواس المختلفة لأغراض خاصة. القصة يحكيها متكلم يعيش حالة نفسية خاصة وهو يزور باستمرار تمثال رخامي في أحد حدائق مدينة من المدن. يعيش المتكلم في احد الفنادق ويسرد لنا من خلال قصة ذلك التمثال ومشاعره الخاصة تجاهه، تأزم أوضاعه النفسية الداخلية، كما يساهم في ذلك حضور الغرائبي من السرد فنحن نعيش بين الواقعي والغرائبي وبين التعلق بالتمثال واستخدام كأداة لتبئير الذات بشكل غير مباشر، ينتهي الأمر بتأزم أحوال الشخصية وظهور الثعبان الذي عنونت به القصة فاعلا من الفواعل وهو ينهش التمثال الرخامي.
1-2 مكونات حكاية قصة الثعبان
الفواعل:
نركز هنا على جانب الفواعل باعتبار أن هذه القصة قصة فواعل من خلال عنوانها الذي عنونه الكاتب بها وهو الثعبان، ويتمحور الفعل السردي في هذه القصة حول عدة اُطُر تتضمن فواعل هي كما يلي:
1)    إطار التمثال الرخامي. ونجد ضمنه التمثال والنافورة المحيطة والحديقة ، كما نجد ضمن ذلك الماء الذي يسيل من النافورة على التمثال ثم الثعبان.
2)    إطار الشخصية المتكلمة وهو تتحرك بين الحديقة حيث التمثال وبين الفندق حيث النوم.
3)    إطار العالم المحيط بالتمثال والمحيط بتلك الذات في الفندق أو الطريق وهو طالما تم تبئيره بصيغة الجمع والانفصال عن ذات الشخصية المركزية.
الأفضية
1)    فضاء التمثال وحوله فضاء النافورة والحديقة.
2)    فضاء الشخصية بين الحديقة والشارع والفندق.
3)    فضاء الذات الداخلي وهواجسها.
الأزمنة:
 يتم تحديد الأزمنة في إطار الزيارة وهي غالبا توصف بكونها مسائية ولكنها تتحول في لحظات ما إلى زيارة صباحية. بينما لا تتضح معالم تاريخ محدد لزمن الحكاية.
الأحداث:
يمكن للمدقق في القصة أن يرصد الأحداث التالية
1)    الزيارة المستمرة من الشخصية للتمثال وحالته الغريبة التي يعيشها نحوه.
2)    سيلان الماء على جسد التمثال مما يجعله أداة لتصوير أبعاده من قبل الشخصية الرائية.
3)    سكن الشخصية في فندق من فنادق المدينة المزدحمة التي تعج بأصوات مختلفة.
4)    حالة غرائبية تعيشها الذات أحد الليالي وهي تتصور نفسها قطرة ماء تسيل على التمثال.
5)    سيلان الشخصية ضمن فضاء المسافة بين الفندق والحديقة التي بها التمثال.
6)    هالة لبخار حول جسد التمثال.
7)    سيلان هالة البخار حول جسد التمثال وتحولها لثعبان ينهش الجسد.
8)    مسيل الدماء من الرخام/الطين.
9)    الدماء تنتقل من التمثال إلى الذات.
2-1 تحليل القصة والعلاقات السردية فيه
أولا. مدخل القصة
سيعيش قارئ قصة الثعبان تلك الحالة من الإحساس بتجسم ذلك الفاعل المركزي (الجسد الرخامي) وهو سيكون المرتكز لإظهار كل التفاعلات النفسية داخل ذات الشخصية المتكلمة أولتبئير تلك الذات وما تعيشه من احوال خاصة، تلك الذات التي تتساقط أمامنا شيئا فشيئا بهدوء وبساطة.
يدخل الراوي معنا هنا منذ البداية محدثا ايانا عن مشاعرة لنتابعه هنا كيف يمارس البوح :
 " كثيراً ما كنت أختلي بهذا الجسد الرخامي الجميل .. أمعن النظر في لمعان تفاصيله ..."
الرواي/الشخصية هنا يحدثنا عن ذاته وتواتر حضوره لهذا الجسد الرخامي ممعنا فيه النظر حيث القصة تتمحور حول صورة المرئي (الجسد الرخامي) وحول الذات لنتابع هنا كيف يتم الدخول والبدء في الوصف من خلال معلن الوصف/النظر:
أمعن النظر في لمعان تفاصيله ... في خطوطه ودقة صنعه ... في انعكاس الضوء على هيكله .. في شموخه بين الأغصان المرتعشة ..
التواتر يحكم طبيعة السرد من خلال تكرار (كل مساء) مع السرد الذاتي بضمير المتكلم
كل مساء أجدني منساقاً إلى تلك الحديقة التي تحضنه،
ثم ينتقل لوصف طبيعة المكان العامة: " كانت تقع في الشارع الخلفي لمحطة القطار الرئيسية"
وخلال ذلك يربطنا باستمرار بذاته: "حيث أقطن فندقاً يعج بالمسافرين .."ثم يعود من جديد للوصف وهو وصف مقبول حاليا بحكم حديث الشخصية المشوقة عنه:نافورة قديمة تتربع تحت قدمي التمثال الشاهق .. رذاذ الماء البارد يغسل القدمين الرخاميتين، ويندلق عبر القاعدة ليرجع إلى حوض النافورة .
نلاحظ مما سبق كيف يمارس الراوي فن الإقبال ثم الإدبار على الموصوف المركزي وهو التمثال فهو يؤطر ما يحيط به ثم يصفه بأوصاف الحدود القصوى (الشاهق) ثم يعود ويرسم ليرسم حركة الموصوف وهو إذ يصف ذلك يضعنا من خلال حركة الماء التالية في إطار التكوين الخاص لذلك التمثال.لنتابع هنا وصف الشخصية للمحيط الذي يسكنه وللعالم الذي يحيط به
".. لم أُعر أي انتباه للزوار الكثيرين، ولم أُقم أية رابطة مع الذين يترددون بشكل يومي على الحديقة .. كان بعضهم يتخذ من الكراسي الحجرية أسرّة لهم، يقضون الليالي الطويلة بين أحضانها، مع زجاجات الخمر وإلقاء السباب والشتائم على الحياة .. لكني كنت منشغلاً مع حُلمي الخرافي .. أعيش لحظاتي المتصوفة على طريقتي الخاصة .. مع خمرتي التي تنعشني .. تشعل حريقاً هائلاً في حطامي ..
المتكلم/ الراوي هنا حريص الحرص كله على جعلنا ننتبه للمرئي التمثال ثم ينتقل بنا من ذلك التمثال إلى ذاته المشوهة التعيسة واضعا ايانا في صلب الخلل الذي يعيشه وما يمكن تسميته بالاغتراب الذي يعيشه.
ثانيا. توظيف الحواس المختلفة كادوات لرسم أفضية مختلفة
لنتابع هنا المزيد من تشظي وألم تلك الذات مرسوما أمامنا بكل حرفية:
مع نفس الدورة السردية المعتادة صورة تمثال ثم صورة فعل ذلك التمثال على الذات ثم الانتقال للذات التي يتم إبراز مكامن ألمها وهواجسها و هواجسها:
يبدا الراوي بتأطير الحدث:
كنت أعيش حالات ملونة من المتعة الوحشية التي تخترق صلادة الرخام ..
ثم ينتقل في جملة تعكس غرائبية الذات التي يبدو أن فعل النحت يتكرر أبدا في أعماقها كلما صوبت النظر نحو التمثال لنتابع ذلك في المقطع (أ) ثم نتابع أثر ذلك الفعل الانعكاسي على الذات داخليا في (ب) ثم أثر ذلك على الذات في الواقع في (جـ):
"(أ) إزميلها الحاد يمزقني بلذة، ينحت مسارب مجهولة بداخلي ..(ب) كنت أتألم دون أن أعرف لماذا .. أتأوه دون أن أفتح فمي .. أتقوّض كبنيان قديم تجتاحه مخلوقات أسطورية مدمرة .. عناكب هائلة تسكن زواياه المظلمة الرطبة ..(جـ) لم أتناول عشائي هذه الليلة، بل دلفت إلى سريري بكامل ثيابي ..."
الصورة السابقة يتم فيها الإنتقال من البعد اللمسي يلي كل هذا الحال تصوير مزيد من الانفصال بين الذات الرواية/الرائية وبين المحيط مع صور ذات بعد سمعي:
"أنين مفصلات الأبواب، وصراخ المخمورين تختلط بجلبة السكان ، والأحذية الثقيلة على درجات السلم الحجرية .."
هذه الصورة السمعية تعكس لنا حجم الانفصال بين الشخصية وبين العالم المحيط بها ويدعم فكرة الوحدة، سنلحظ فيما يلي كيف يكون البعد الصوتي دليلا على الانفصال ثم تعيدنا الصورة التي تستعير من البعد اللمسي إطارها للعلاقة المركزية بين الذات وبين التمثال لنتابع المقطع التالي من القصة:
"(أ) بخرير النافورة القديمة ورنين الصحون المعدنية تحت رذاذ الماء .. بزعيق السيارات تخترق الأسفلت بجنون،(ب) لترسم لوحة من الفسيفساء على طبلتي أذنيّ ..(جـ) إبرٌ حادة تخترقني من كل أطرافي ..(د) شواظ من النشاز يشعل جلدي .. يمزقني... يفجر دمي .. يحملني عالياً حتى السقف ..
في المقطع (أ) نحن نتابع صورة تشتغل على مستوى الصوت توضح آلام تلك الذات وما تعانيهثم نتابع في (ب) صورة تجسيمية للبعد السمعي حيث تتحول الأصوات للوحة فسيفسائية على مستوى السمع ثم في (جـ) نتابع بدء الشعور على مستوى اللمس من خلال تحول الصوت لأداة لمسية ثم نتحول في (د) إلى البعد اللمسي الظاهر المباشر.
 في (ه) نجد صورة بصرية يتحول بها السرد من الشعور ممكن الحدوث السابق إلى البعد الغرائبي مع تصور وجه التمثال مواجها في الشباك، حيث يتم في (و) العودة من جديد للصورة التي تستعير البعد اللمسي مجالا لها من خلال تصور اختراق الشعاع الغامض لضوء للزجاج أو تغلغله في الجسد المحموم.
"(هـ) لوجه الصنمي بنظرته الخاطفة .. ببسمته الهادئة على جانب فمه يطل من وراء زجاج النافذة ..(و)  الشعاع الغامض يخترق ألواح الزجاج ... يحرقني .. يتغلغل عبر جسدي المحموم ..
بينما ستكون العودة للواقع من خلال حاسة السمع من جديد حيث يقوم المتكلم من النوم راصدا لنا عبر الدقات الإطار الزمني للحدث.
"جلجلة الساعة الضخمة بالمحطة تخترق الكون .. توقظني من حالتي . الدقة الخامسة ... السادسة ... السابعة .."
هذه الديمومة من الجلوس إلى التمثال ومن تلقي أشعة عينيه الغامضة والانفعال الحاصل مع متابعة سيلان الماء على مرمره الملس كلها تمضي بشكل طيب جميل حتى نجدنا مع نتابع ظهور الثعبان. هذا الفاعل الرمزي الذي جاء ليجهز على التمثال/الذات وينشئ مع حضوره الحرائق والرماد لنتابع مقطع ظهور الثعبان:
" (أ) ثعبان ضخم يتلوى حول النهدين .. يلتف حول العنق المرمري، عضلاته تنفر بقوة ... تجحظ العينان .. تتحرك القدم المحررة صوب النافورة .. يلتف الذيل الهائل حولها بقوة .. تتحطم الأضلاع تحت الضغط الرطب .. حشرجة مبحوحة تخرج من الشفاه المطبقة .. الرأس الوحشي يلعق الأنف، الأذنين ... الوجنتين الباردتين .. ينحدر إلى العنق فيغرز أنيابه في اللحم . في الرخام .. في الحنجرة الناتئة .. تصفر الحشرجة من خلالها .. ينبثق الدم من العنق .. يسيل عبر الصدر .. يرسم خطوطاً حمراء على الجسد الرخامي الأبيض .(ب) . ينسكب اللعاب الحارق إلى صدري .. إلى جوفي، فينتشر الحريق في كل مكان .. أتحول إلى كثيب من الجمر .. الجحيم اللاهث والفحيح .. العطش يشقق لساني .. يفتت لحمي كالطين المشوي .. أنكب على وجهي في الحوض .. أترنح تحت الماء .. أجدّف إلى النبع ...
نلاحظ هذا المقطع الطويل الذي يأتي ليحقق ما يعرف في القصة التقليدية بلحظة التنوير حيث يلق الثعبان على الجسد الرخامي ونلاحظ أغلب الأفعال التي تدل على البعد اللمسي بشكل مباشر أو غير مباشر (يتلوى حول، يلتف حول، ينحدر إلى، يسيل، يرسم خطوطا على الجسد)
ثم ننتقل في (ب) إلى اوجاع الذات المتعلقة بهذا التمثال، إن ما يحصل للتمثال هو ما يحصل لها وإن كان في صورة حرائق ورماد.
خلاصة حول النص
لاحظنا تلك القدرة المميزة على الوصف لنقل الحالات النفسية كما لاحظنا ذلك الانتقال المميز بين بؤرة سرد وأخرى وبين حاسة وأخرى لغرض وضعنا باستمرار في تلك الحالة المتأزمة لتلك الذات التي تعيش لحظة غربة طالما وجدناها في نصوص الجعكي. الغربة والألم والشمس المحرقة ولهيب الصحراء أو الجمر المتقد في الذوات هي قدر الشخصية/ الليبية التي احسن الكاتب رسمها وهي تتلظى بجحيم أيام مريرة. بينما تميز هذا النص بذلك النظام السردي حيث المنحوت الرخامي وهو فاعل خارجي تحول لمرتكز لإبراز حالات داخلية ضمن ذات المتكلم، كما احسن الراوي تنظيم النص من خلال تخصيص الصورة (السمعية) للتفاعل مع العوالم الخارجية بينما جعل من الصورة (اللمسية) أداة للتعبير عن عالم المنحوت الرخامي وتعبيرا عن حالات الذات تجاهه.



قصة الثعبان
كثيراً ما كنت أختلي بهذا الجسد الرخامي الجميل .. أمعن النظر في لمعان تفاصيله ... في خطوطه ودقة صنعه ... في انعكاس الضوء على هيكله .. في شموخه بين الأغصان المرتعشة .. كل مساء أجدني منساقاً إلى تلك الحديقة التي تحضنه، كانت تقع في الشارع الخلفي لمحطة القطار الرئيسية، حيث أقطن فندقاً يعج بالمسافرين .. نافورة قديمة تتربع تحت قدمي التمثال الشاهق .. رذاذ الماء البارد يغسل القدمين الرخاميتين، ويندلق عبر القاعدة ليرجع إلى حوض النافورة .
تتناثر قطرات الماء إلى نعومة الساقين الجميلتين، وتتكسر مع شعاع القمر في شكل نقط ضوئية .. نهدان بكران يشمخان عالياً .. كأن لبن الحياة يسري فيهما، ويقطر على البطن ليستقر في السرة المحفورة بدقة .. شعاع خاطف ينطلق من عينيه ليخترق أضلاعي .. زاويتا الفم الصغير تنفرجان عن بسمة تترك أثراً غامضاً في نفسي .. تشقّ أخدوداً عميقاً في صدري .. لم أُعر أي انتباه للزوار الكثيرين، ولم أُقم أية رابطة مع الذين يترددون بشكل يومي على الحديقة .. كان بعضهم يتخذ من الكراسي الحجرية أسرّة لهم، يقضون الليالي الطويلة بين أحضانها، مع زجاجات الخمر وإلقاء السباب والشتائم على الحياة .. لكني كنت منشغلاً مع حُلمي الخرافي .. أعيش لحظاتي المتصوفة على طريقتي الخاصة .. مع خمرتي التي تنعشني .. تشعل حريقاً هائلاً في حطامي .. في هذا الجو الليلي مع الأضواء الشاحبة المنعكسة على الرخام .. كنت أعيش حالات ملونة من المتعة الوحشية التي تخترق صلادة الرخام .. إزميلها الحاد يمزقني بلذة، ينحت مسارب مجهولة بداخلي .. كنت أتألم دون أن أعرف لماذا .. أتأوه دون أن أفتح فمي .. أتقوّض كبنيان قديم تجتاحه مخلوقات أسطورية مدمرة .. عناكب هائلة تسكن زواياه المظلمة الرطبة .. لم أتناول عشائي هذه الليلة، بل دلفت إلى سريري بكامل ثيابي ... أنين مفصلات الأبواب، وصراخ المخمورين تختلط بجلبة السكان ، والأحذية الثقيلة على درجات السلم الحجرية .. بخرير النافورة القديمة ورنين الصحون المعدنية تحت رذاذ الماء .. بزعيق السيارات تخترق الأسفلت بجنون، لترسم لوحة من الفسيفساء على طبلتي أذنيّ .. إبرٌ حادة تخترقني من كل أطرافي .. شواظ من النشاز يشعل جلدي .. يمزقني... يفجر دمي .. يحملني عالياً حتى السقف .. الوجه الصنمي بنظرته الخاطفة .. ببسمته الهادئة على جانب فمه يطل من وراء زجاج النافذة .. الشعاع الغامض يخترق ألواح الزجاج ... يحرقني .. يتغلغل عبر جسدي المحموم .. أتأرجح بين الأغصان .. بين ذراعي التمثال الصخري .. أتحول إلى ورقة مهترئة .. الجفاف يغزوني .. أصبح هشاً كالرمل .. كالرماد .. أنزلق حول الساقين الجميلتين .. حول النهدين .. أغوص في السرة المحفورة بنعومة .. الأوراق الطرية يحركها الهواء .. سريري يتأرجح كالموج .. مصباح الغرفة يرتفع إلى السماء .. يخبو .. يصبح كنجمة خافتة .. جلجلة الساعة الضخمة بالمحطة تخترق الكون .. توقظني من حالتي . الدقة الخامسة ... السادسة ... السابعة .. الزحام يحيطني من كل جانب .. أكتشف أني أسير حافياً .. أترنح عبر الشارع برأس مثقل .. كانوا يسرعون .. يهرعون في اتجاهات مختلفة .. أسيل بينهم .. أتدحرج بفوضى عبر الشوارع المكتظة .. أصطدم ببعض الأجساد الرخوة .. الناعمة .. أعترض وجوهاً حليقة لامعة .. وأخرى مصبوغة تعبق بألوان طيفية .. أغرق في لجة اللحم الهائلة .. أنغرز بين الزوائد المتهدلة، المترجرجة ... بين القامات الشاهقة المرسومة بعناية . بين خضم اللون والروائح المختلفة أضيع .. أتوه ... أجدّف صوب نقطتي الوحيدة .. صوب المرفأ المتربع في عمق الحديقة .. أضرب الأمواج بلا كلل ... كانوا ينظرون في عينيّ ببرود .. إلى قدمي الحافيتين .. في اضطراب خطواتي .. أتعثر كالجريح .. كمن يصعد سلماً لا نهاية له .. أنحدر عبر الشارع الجانبي المؤدي إلى الحديقة .. إلى المرفأ .. أجتاز البوابة المشرعة .. طريق النافورة يبدو دائرياً عبر الشجيرات المزهرة .. الطريق مغطاة بالحصى المبلل والأوراق الجافة .. رطوبة الصباح تنعش المكان .. تدثر الأوراق بضباب دخاني .. أتخذ نفس الوضع على حافة الحوض .. لا أهتم بالبلل . قبالتي الرخام الناصع، تغطيه غلالة شفافة من البخار .. الأقدام دائماً مبللة . الرذاذ حول الساقين يتكسر وترجع قطراته إلى القاعدة .. البخار يتكاثف حول الصنم .. يتحول لونه إلى الرصاصي الداكن .. إلى غابة من الأصباغ ... أكتشف أنه يخرج من السرة وينتشر حول الجسد .. يلتف في حركة لولبية يتحول إلى جسم اسطواني لين .. تظهر بقع داكنة على جلده .. شقوق عميقة تظهر على القاعدة الصخرية .. حول القدمين العاريتين .. بريق العينين يزداد توهجاً .. تنطبق الشفاه بقوة .. ثعبان ضخم يتلوى حول النهدين .. يلتف حول العنق المرمري، عضلاته تنفر بقوة ... تجحظ العينان .. تتحرك القدم المحررة صوب النافورة .. يلتف الذيل الهائل حولها بقوة .. تتحطم الأضلاع تحت الضغط الرطب .. حشرجة مبحوحة تخرج من الشفاه المطبقة .. الرأس الوحشي يلعق الأنف، الأذنين ... الوجنتين الباردتين .. ينحدر إلى العنق فيغرز أنيابه في اللحم . في الرخام .. في الحنجرة الناتئة .. تصفر الحشرجة من خلالها .. ينبثق الدم من العنق .. يسيل عبر الصدر .. يرسم خطوطاً حمراء على الجسد الرخامي الأبيض .. ينسكب اللعاب الحارق إلى صدري .. إلى جوفي، فينتشر الحريق في كل مكان .. أتحول إلى كثيب من الجمر .. الجحيم اللاهث والفحيح .. العطش يشقق لساني .. يفتت لحمي كالطين المشوي .. أنكب على وجهي في الحوض .. أترنح تحت الماء .. أجدّف إلى النبع ... أمتلئ حتى الحافة، لكن الحرائق تشتعل بداخلي .. تحولني إلى رماد .. إلى كومة من الحجر المحروق .. إلى أطراف متفسخة تذوب تحت الرذاذ الرخامي الجميل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق