سلسلة اشتغالات حول نصوص مميزة في القصة القصيرة (7)
أضع هنا دراستين حول قصة : فواق بنكهة النعناع، للقاص والروائي الليبي محمد الأصفر.الأولى كانت من وجهة نظر خطابية ونصية كنت فيها مهووسا آنذاك بالنظرية وهي للامانة مليئة بالأخطاء، حاولت قدر الإمكان أن اصلحها. بينما الثانية دراسة لنفس القصة ضمن دراسة حول أدب السجن في سنة 2012.
فواق بنكهة النعناع لمحمد الأصفر أحد نصوص مجموعته القصصية (حجر رشيد) وهي مصبوغة بأسلوب محمد الأصفر الذي يتميز بلغته الشعرية وتركيزه على المكون المحلي مع حضور آلام شخصيات ليبية عاشت لحظات متوترة.
بينما كانت القصة القصيرة عند الأصفر محطة في طريق كتابته السردية التي كان للرواية حظ أكبر فيها. حيث سيكتب بعد (حجر رشيد) عديد الروايات لعل الأكثر جرأة فيها (سرة الكون).
في قصة محمد الأصفر (فواق بنكهة النعناع) نتابع تجربة بنغازي التسعينيات، زمن بطش نظام القذافي بالإسلاميين
يرسم محمد الأصفر في نصه المميز فواق بنكهة النعناع تلك الحميمية العائلية في مواجهة عالم السجن المقيت إذ على الرغم من الحضور الجم والقوي للسلطة ولأخيه السجين كمؤسسين للحكاية إلا إنهما لا يظهران، على السطح الظاهر للخطاب، إلا قليلا.
وضعت للفائدة القصة نفسها في اخر الملف المرفق.
أولا.
دراسة قديمة حول قصة فواق بنكهة النعناع لمحمد الأصفر
النص
يمكن تقسيمه لبعض المراحل كما يلي:
المرحلة الأولى : الولد وأبيه
تبدأ قصة فواق بنكهة النعناع من خلال مناصين ، هما:
العنوان، الإهداء. ومن خلال وضعهما في سياق العمل ،نجد للنعناع طابع الحميمية ،
وخاصة عندما يرتبط معه المفهوم الشعبي للفواق (والذي يتصور انه ينتج من كلام أشخاص
عن شخص غائب) يرتبط هو والنعناع الذي هو رمز للحميمية ليجسدا حميمية مفقودة بسبب ذلك المربع المثلوم
الأم /الأب/الولد/ الأخ الغائب المطلوب من الجهات
الأمنية.
كما نجد إهداء العمل لجان جينيه المعروف بنضاله لدى
طبقة من القراء ، يضعنا في سياق الدعوى النصية هنا أو الحدث المركزي.
الحدث : يتمثل الحدث القبض على الأب وأبنه لإحضار
الأخ
كما نجد أيضاً حيرة عائلة أبنها توجه (فيما يبدو)
للحركات الدينية المتشددة واختفىي والشرطة تبحث عنه . إن الحميمية التي ينعشها
النعناع مع حضور تسمية جينيه هنا يبدو غاية في الانسجام مع الدعوى المركزية للحكاية
الأولى .
كما نجد الحميمية من خلال لقاء الوالد وأبنه لأول
مرة منذ أربعين سنة تقريباً داخل التوقيف .
التبئير والصيغة السردية :
نبدأ النص من خلال صيغة الخطاب المسرود الذاتي والتي
يشرخها دخول الشرطي، نلحظ هنا كيف يبئر الراوي أو المتكلم ذاته جوانيا باعتباره جزء
من أجزاء الحدث الحاصل ولكن من خارج الذات مما يضعنا أمام الخارجي من التبئير وهو
مما يميز أعمال الأصفر التبئير الجواني الخارجي.
أن الشخصية
تحدثنا هنا عما يحصل له وليس عما يفعله وهو ما يتناسب مع التبئير الجواني الخارجي،
حيث الفاعل حاضراً ضمن الحدث ومستسلما فيه لقوى أخرى . كما أن نجد ما ترصده بؤرة
المبئر تبادلي بين الشخصية المتكلم والمبئر في الوقت نفسه وبين أبيه .
" كنت قلقاً أحملق في جدران الغرفة
ذات الستائر الغامقة.
كان أبي مستلقياً على السرير ، يحملق في السقف
بعينيه الكفيفتين
ويتلمس بيده الوسادة التي بجانبه ..
ولمّا لم يجد رأسي عليها همس يناديني
فتركت الحملقة في الجدران وهُرعت إليه ، استلقيت
قربه
فضمّني بذراعيه وبكينا!.
في الصباح أسرّ لي : لم ننم في سرير واحد مذ بلغ
عمرك أربعين يوماً ."
إن القفلة الجميلة التي ترك الكاتب مسافة في فراغ
الورقة بينها وبين المقاطع السابقة المنظمة والمقسمة بدقة تأتي لتغلق سيلاً التواصل الروحي بينهما ؛ الذي
عبرت عنه خير تعبير هذه العدسة التبادلية بينهما .
فواعل أخرى تعين الراوي على إبراز المزيد
من الحميمية :
لعكس المزيد من الحميمية المفقودة كما قلنا سباقا
يتأسس الحوار بن الشخصية وأبوه وهو يحكي له عن أيام طفولته الأولى (اليوم الواحد
والأربعين تحديدا) وتدخل هنا كافة الأفعال والفواعل العاكسة لذات البعد الحميمي الذي
يزيد من خلال بعده الخفي من توتر الدراما للنص.
"مهداً خشبياً ، مقضَّب الجانبين،
مجدّر المقدمة والمؤخرة ، فرّشته أُمك بجلد خروف العيد وبعد أنْ أتمت إرضاعك جشأتك
وقمّطتك ولفّتك في عباءة صوف ثم أرقدتك فيه .."
إننا نتابع أمامنا من خلال الوالد المتكلم ما ينتقي
ليوضع ضمن مادة النص ، هنا رسم متميز خارجي - يعتمد علي ترابط الحالة النفسية التي
تعيشها الأسرة واستفزاز الشخصيات من خلال الفواعل المنتقاة سابقا، حيث يستفز النعناع والفواق (المكونين
للعتبة الرئيسية للقصة ) يستفزا الأم وتبدأ في البكاء. نجد الشخصية هنا عن بكاء
الأم ثم عن بكاء الأب تلك الليلة .
البعد الزمني :
نلاحظ من خلال حوار الأب وأبنه أنه قد تمت تغطية مرحلة طفولة صغيرة من حياة
الشخصية، من خلال الملخص الزمني حيث سيتم أمامنا تغطية المسافة منذ الشخصية كانت في
المهد (أربعين يوما) حتى الآن عبر المقطع التلخيصي التالي:
"- وبعد عام ولد أخوك ونقلناك إلى
سرير أكبر في الغرفة المجاورة ، وكبرت وكبر أخوك وكبرنا معكما في طاعة الله ،
وتزّوجت أخواتك الواحدة تلو الأخرى .. وتركت الغرفة المجاورة إلى المربوعة إلى
شقتك في الطابق الثاني ، وانتقل أخوك من الحجرة المجاورة إلى المربوعة حيث صار
يقرأ ويتعبّد !.. وها أنا ذا في المربوعة وحيداً أحكي لك ما أنت قارئة على
تغضّـنات جبيني ."
الحدث: الحميمية
المفقودة من جديد هي و الحدث الذي سيأتي كقفلة للنص وتبدأ مرحلة خطابية ثالثة
محورها ذات الشخصية.
التبئير والصيغة : بعد الحوار مع العزف على وتر
الحميمية من جديد ، مع الأم وهي المرحلة الثانية من تشظي الشخصية، يتركه المتكلم
مفتوحا من خلال أسطر ليس فيها شيء مكتوب، منتظراً قراءة ما بين السطور من قبل
القراء.
المرحلة الثالثة من الحدث :
عند خروج الشخصية متوتراً من عند الأم ، إننا نجد
اشتغالاً على الحدث المركزي والذي طرح فيه مأساة، وهو ذلك المصير المجهول للأخ
المفقود وغياب الحميمية في البيت، وتبدأ في التساؤلات التي لا تنتهي، يدعم ذلك
ببورة مقطعة لمسافات قصيرة ونقط بينها، كذلك نلاحظ كيف يبدو التبئير جوانيا خارجيا
، ولكن من خلل لشخصية متوترة وأسئلتها نجد لوتيرة عالية ، ساهم في ذلك استخدام
المبئر للذت كمفعول به باستمرار يحدث مع
الهدوء يقتلني
والسكينة ترمي بي
والصبر جاثم على توقي
والرتابة تفزعني
إن اغلب
حضور الفعل أو الشخصية الرئيسي هنا كان مفعولا به .
ثم التشظي وهو يستخدم ذات النهج من السرد المعتاد
فيقفل النص من خلال الراوي الملتبس بالشعرية والذي يحكي عن الموت للوالدين وعودة
الأخ .
التبئير : في أخر النص وأقفاله نجد أمامنا الراوي
وهو يقطع البؤر لبؤر صغيرة ويضع نقاط فصل بين كل جملة وأخرى ، وذلك دفع المتلقي
للمشاركة في فعل لقراءة
البنية
السوسيونصية : تبدو القصة وبقوة شاهدة على مرحلة من
التوتر والقلق تعيشها المدينة العربية، وتسببت في خلل اجتماعي كبير،والكاتب هنا
يطرح البنية ويختار- من خلال مناصاته وشخصياته والحدث الذي عرضه - يختار مواقفه
التي تعكس تكوينه وانبناءه الأيديولوجي، حيث أنه يوجد خلل اجتماعي أنتجه انتماء
بعض فراد تلك الأسر لجهات يرفضها المجتمع.
2)
دراسة فواق بنكهة النعناع لمحمد الصفر ضمن دراسة حول أدب السجن سنة 2012
فواق بنكهة النعناع لمحمد الأصفر أحد نصوص مجموعته القصصية (حجر رشيد) وهي
مصبوغة بأسلوب محمد الأصفر الذي يتميز بلغته الشعرية وتركيزه على المكون المحلي مع
حضور آلام شخصيات ليبية عاشت لحظات متوترة.
بينما كانت القصة القصيرة عند الأصفر محطة في
طريق كتابته السردية التي كان للرواية حظ أكبر فيها. حيث سيكتب بعد (حجر رشيد)
عديد الروايات لعل الأكثر جرأة فيها (سرة الكون).
في قصة
محمد الأصفر (فواق بنكهة النعناع) نتابع تجربة بنغازي التسعينيات، زمن بطش
نظام القذافي بالإسلاميين
يرسم
محمد الأصفر في نصه المميز فواق بنكهة النعناع تلك الحميمية العائلية في مواجهة
عالم السجن المقيت إذ على الرغم من الحضور الجم والقوي للسلطة ولأخيه السجين
كمؤسسين للحكاية إلا إنهما لا يظهران، على السطح الظاهر للخطاب، إلا قليلا.
كما
أن اجتماع الراوي/ الابن مع والده، في فراش واحد، لم يحدث إلا في السجن ليعلن بذلك
عن غياب الطرفين الرئيسين الأخرين، ويظل وسط ذلك الأم هي الشخصية المركزية في
النص. تلك الأم التي كانت على طول النص ممزقة ومأزومة بسبب ما حدث لابنها السجين.
يرسم
الراوي/الشخصية عالم والدته وأبيه وحميمية ما بينهم ليكون كل ذلك أداة للحديث عن
السجن والسجين. السجين في هذا النص إسلامي وهو أخ الشخصية الراوي لنتابع هنا صورة
التحولات تلك التي عاشها ذلك الغائب الحاضر
"وانتقل أخوك من الحجرة المجاورة إلى المربوعة حيث صار يقرأ
ويتعبّد !.. وها أنا ذا في
المربوعة وحيداً أحكي لك ما أنت قارئه على تغضّـنات جبيني"[1]
وكيف مارس الراوي ذلك الغياب المدهش في حضوره
له، لنتابع هنا كيف يتم الحديث عن السجان:
بينما
هنا نجدنا مع الإجراءات في السجن كيف تتم:
وتظهر
أمامنا شخصية المحقق. بينما سنجدنا مع حقيقة سبب سجن الشخصية ووالده حيث الهدف هو
القبض على أخيه الإسلامي:
"وبما أننا أُخذنا كرهينتين فقد
تمَّ إطلاق سراحنا في
قيلولة اليوم التالي ، دون أنْ نعلم هل تمَّ القبض على أخي ؟
أم أنَّ قلبه رقّ لاحتجاز
والده الضرير فسلّم نفسه "[4].
إن تواتر ذكر أنهما لم يناما في فراش
واحد منذ طفولة الشخصية يعطينا شعورا بحجم تلك الحالة النفسية التي يستمدها والد
الشخصية من تلك اللحظة لنتابع هنا في بداية القصة :
لقد نتج عن تدخل السجان في حياة تلك
الأسرة ذلك التخلخل الذي لحق بالشخصيات ففي حين خرج الإبن من حياتهما ليدخل مع
السجان في رباط خاص، نجد رباط جديد تأسس بين الوالد وأبنه لهذا السبب:
"مرّ زمان ولم ندرِ عن أخي شيئاً .. أحيٌّ .. أميت .. أسجين .. أم طليق .. كل أصيل أُجالس أبي في
المربوعة . كان يبدأ حكايته كعادته بجملته الشهيرة : لم ننم في سرير واحد مذ بلغ عمرك
أربعين يوماً ! وإذ بي
أستغل السياق واستدرجه إلى شَرَك السرد.
ما يميز هذا النص هو تلك الألاعيب السردية التي مارسها الراوي وهو
يحضر مكونات البيت الليبي ويرسم صورة الطفل كما هو معتاد في البيئة الشعبية
الليبية، لنتابعه هنا :
"في الواحد والأربعين اشتريت لك مهداً خشبياً ، مقضَّب الجانبين، مجدّر المقدمة والمؤخرة ، فرّشته
أُمك بجلد خروف العيد وبعد أنْ أتمت إرضاعك جشأتك وقمّطتك ولفّتك في عباءة صوف ثم
أرقدتك فيه .. ما أجمل هيأتك وأنت تطل شبعاناً ، وجهك وردي ، عيناك ناعستان"[7]
كما وضعنا في تلك العلاقات
الحميمية ليزيد من حجم البكاء على ذلك الفقد للولد الغائب. وكذلك ليضع كل ذلك
الرصيد في مواجهة تلك القوة الغاشمة للسجان، حيث تأتي هذه المكونات المحسوسة،
لترتبط مع الثيمة الرئيسية للعنوان التي تحتوي على البعد التذوق (نكهة النعناع):
"كان البخار الشهي يتصاعد من وعاء الحساء المنكّه بالزعتر والحلبة ، وكنت أسكب الماء الدافئ على يدي
أبي ثم أناوله المنشفة النظيفة بينما أمي منهمكة في تفتيت رغيف التنور المتفحم
الحواف"[8]
على المستوى النصي نجد القصة قد أهديت لجان جينيه وهو أديب ومناضل
معروف بنصرته للقضايا الإنسانية، فالقاص بهذا الشكل، يضعنا أمام الثيمة الرئيسية
للنص وهي ثيمة السجن والألم والكفاح.
بينما سيكون انغلاق النص في النهاية بواسطة تلك اللغة الشعرية التي
تعكس ألم الشخصية المأزومة، والخوف الكامن داخلها، من المستقبل، والبكاء بصمت على
الغائب السجين. لنتابعه هنا وهو يرسم صورة النسيان غير الممكن:
"آه من حياة كهذه ... الهدوء يقتلني والسكينة ترمي بي في جُبٍّ من سعير . والصبر جاثم على توقي للارتعاش
.. والرتابة تفزعني تجعل جنوني مفروغاً منه .. مللت العيش في الانتظار . قطعة مني
تائهة .. مجتـثّة
قبل ذبحي ..جرحي غائر .. متمرد على الاندمال ..النسيان أثبت فشله .. غض
الطرف صار عملة نادرة ..
الذاكرة لبلاب يرشف روح المطر .. يتساقط جدار متى .. فتنتعش متى وتتطاول .. جذرها يوخز العصب .. أبي يتألم .. أمي تتألم..."[9]
إننا إذن أمام ذلك البكاء في نص تسلح كاتبه بالمكون الشعبي والشعرية
ليرسم ألم مجموعة من الشخصيات وليعكس في الوقت نفسه تلك الحالة التي عاشتها مدينة
بنغازي زمن تسعينيات القرن الماضي عندما مارس نظام المقهور تلك الحملة الرهيبة
للقضاء على المكون الجهادي الذي نشأ فيها.
فُـوَاق بنكهة النّعناع
مهداة إلى جان جُنيه
كنت قلقاً أحملق في جدران الغرفة ذات الستائر
الغامقة. كان أبي مستلقياً على السرير ، يحملق في السقف بعينيه الكفيفتين ويتلمس
بيده الوسادة التي بجانبه .. ولمّا لم يجد رأسي عليها همس يناديني فتركت الحملقة
في الجدران وبكينا!.
في الصباح أسرّ لي : لم ننم في سرير واحد مذ بلغ
عمرك أربعين يوماً .
دون نبس أمدّني الحجّاز بكوبين شاي ونصف رغيف قمح
وكان أبي يصلي الصبح مفترشاً وجه الوسادة بعد نصف ساعة أُدخلنا على المحقق ، انقضت
الجلسة في تعبئة وثيقتي التعارف .. وبما أننا أُخذنا كرهينتين فقد تمَّ إطلاق
سراحنا في قيلولة اليوم التالي ، دون أنْ نعلم هل تمَّ القبض على أخي ؟ أم أنَّ
قلبه رقّ لاحتجاز والده الضرير فسلّم نفسه .
مرّ زمان ولم ندرِ عن أخي شيئاً .. أحيٌّ .. أميت ..
أسجين .. أم طليق .. كل أصيل أُجالس أبي في المربوعة . كان يبدأ حكايته كعادته
بجملته الشهيرة : لم ننم في سرير واحد مذ بلغ عمرك أربعين يوماً ! وإذ بي أستغل
السياق واستدرجه إلى شَرَك السرد.
- وبعد الأربعين يوم يا حاج .. ماذا حدث ؟
كان يبتسم ويستغرق في الحكي بحماس الشيوخ الرزين.
- في الواحد والأربعين اشتريت لك مهداً خشبياً ،
مقضَّب الجانبين، مجدّر المقدمة والمؤخرة ، فرّشته أُمك بجلد خروف العيد وبعد أنْ
أتمت إرضاعك جشأتك وقمّطتك ولفّتك في عباءة صوف ثم أرقدتك فيه .. ما أجمل هيأتك
وأنت تطل شبعاناً ، وجهك وردي ، عيناك ناعستان ، شفتاك بين حين وآخر تفاجئاننا
بابتسامة ساحرة .. كنَّا لا نملُّ من التملِّي فيك حتى خشينا أنْ نعينك ! لم
تزعجنا البتّة ، فلا تستيقظ باكياً إلاّ عند الفجر إذ نكون قد نلنا كفايتنا من
النوم الهادئ اللذيذ !
وتدخل أمي بخلبة نعناع طرية فنبتسم وتبتسم قائلة :
- أثناء قطفي للنعناع فاجأني الفُوَاق ، أكيد كنتما
تتحدثان عني .
- لا نتحدث عنك إلاّ بالخير .
- أعرف .. ولكنك تحب قلب الكلام وإلباسه ! أنت ليس (
على نيتك ) كأخيك .. واغرورقت عيناها بالدموع وشاركها أبي الحزن غير أن أبي لم
يجاريها في البكاء .. لا أذكر أنني رأيته يبكي جهاراً سوى ليلة حجزنا عندما طوّقني
بذراعيه وضمّني إلى صدره بحنو فلم يتمالك نفسه وانهار معولاً ..
تركتهما وخرجت إلى وسط المدينة ، في الطريق تخيلتهما
متعانقين ، يحتسيان شاي الأصيل المنعنع ويتهامسان بالذكرى فاطمأننت عليهما ،
وحالما وصلت تهالكت على كرسي في مقهى رصيف أرشف قهوة ( الاكسبريس ) المّرة وأدخن
مكلماً نفسي : وهل الحزن سيعيده ؟ وهل الفرح ؟ وهل النسيان ؟ وهل .. ؟ وهل ...
سيعيده ؟ وتسمّرت زمناً أتابع أخبار العالم حتى مللت فقفلت عائداً حيث وجدتهما
هادئين . أبي يسبّح بمسبحة العقيق وأمي تقشّر فصوص الثوم وتهرسها في المهراس ثم
تكشط الهريس بملعقة إلى داخل الطنجرة الفائرة .
هامست أبي : لم ننم في سرير واحد مذ كان عمرك أربعين
يوماً !
- وبعد عام ولد أخوك ونقلناك إلى سرير أكبر في
الغرفة المجاورة ، وكبرت وكبر أخوك وكبرنا معكما في طاعة الله ، وتزّوجت أخواتك
الواحدة تلو الأخرى .. وتركت الغرفة المجاورة إلى المربوعة إلى شقتك في الطابق
الثاني ، وانتقل أخوك من الحجرة المجاورة إلى المربوعة حيث صار يقرأ ويتعبّد !..
وها أنا ذا في المربوعة وحيداً أحكي لك ما أنت قارئة على تغضّـنات جبيني .
كان البخار الشهي يتصاعد من وعاء الحساء المنكّه
بالزعتر والحلبة ، وكنت أسكب الماء الدافئ على يدي أبي ثم أناوله المنشفة النظيفة
بينما أمي منهمكة في تفتيت رغيف التنور المتفحم الحواف .
لا شيء يشغل بالي الآن ، وحتى وإن كان فقد عوَّدتني
الأيام على أرجاء المنغصات إلى ما بعد الانتهاء من المسرَّات ..
- هيَّا تفضلا العشاء جاهز .
تعودت أمي على الأكل بمفردها ، مذ صرت أعي لم تسجل
ذاكرتي أي منظر لطبق واحد جمعنا ، حتى في عيد الأضحى كانت تقدم لنا الشواء مع أبي
بينما تتناول حصتها مع أخواتي أو الجارات .. هذه الليلة جربت اختراق الناموس
ودعوتها لمشاركتنا إلا أنها اعتذرت بلطف :
- كُلاَ ولا تهتما بي .. أبقيت حصتي في الطنجرة
سأتناولها فيما بعد .
آنذاك توقف أبي عن اللوك والازدراد وهمس لي :
قد لا تتناولَها .. ألحح عليها أرجوك .. أشعر أنها
بدأت تضعف وتشحب عن ذي قبل ، ما عدت أسمع دندناتها وهي تعجن أو تنقّي أو تكنس .
المرأة إنْ صمتت فذاك عين الخطر !.
وقبلّت جبينها هامساً في أُذنها ( علشان خاطري )
وعاهدتني أنْ تأكل فورما تنتهي من صلاة الشفع والوتر .
............................
.............................................
.................................................................
................................................................................
ئ. الذاكرة لبلاب يرشف روح المطر .. يتساقط جدار متى
.. فتنتعش متى وتتطاول .. جذرها يوخز العصب .. أبي يتألم .. أمي تتألم .. كيف
سيرحلان دون زوَّادة . قد يجداه هناك في انتظارهما .. وإنْ لم يجداه .. كيف
يمكنهما العودة إلى هنا ؟ وهل أبقى بعدهما ؟.. حسناً سألحقهما .. ولكن قد لا
أجدهما هناك .. ولا أجده أيضاً هنا .. ولا يجدنا إنْ هو خلسة عاد !. فنتوه ..
ونتوه .. ونتوه جميعنا في متاهة سرمدية ..
[1] محمد الأصفر/قصة فواق
بنكهة النعناع/ موقع القصة العربي/ صفحة محمد الأصفر
www.arabicstory.net
[2] محمد الأصفر/قصة فواق
بنكهة النعناع
[3] محمد الأصفر/قصة فواق
بنكهة النعناع
[4] محمد الأصفر/قصة فواق
بنكهة النعناع
[5] محمد الأصفر/قصة فواق
بنكهة النعناع
[6] محمد الأصفر/قصة فواق
بنكهة النعناع
[7] محمد الأصفر/قصة فواق بنكهة
النعناع
[8] محمد الأصفر/قصة فواق
بنكهة النعناع
[9] محمد الأصفر/قصة فواق
بنكهة النعناع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق