الاثنين، مايو 07، 2018

السخرية والأسطرة في بعض قصص مجموعة بكاء الصراصير لأحمد يوسف عقيلة


سلسلة اشتغالات حول نصوص مميزة في القصة القصيرة (4)
السخرية والأسطرة في بعض قصص مجموعة بكاء الصراصير للأستاذ أحمد يوسف عقيلة .
تتحقق السخرية لدى أحمد يوسف عقيلة ضمن نسق علاقات المجتمع النصي الخاص الذي يبنيه دائما، ولكننا سنلحظ أنها غير دائمة الحضور ضمن نصوصه، حيث يشتغل أحمد يوسف عقيلة على أكثر من خطاب نوعي بحيث يشكل عالمه ويستعين بفواعل غير بشرية لبناء عالمه الحكائي. ونجد السخرية تتحقق على مستوى الحكاية، حيث يقوم الراوي بتأجيل الجزء للأكبر من المفارقة التي تثير السخرية حتى (لحظة التنوير) ، بينما يضع الراوي بعض التلميحات التي تعبِّر عن المفارقة ولكن بشكل مبهم غير واضح. لنتابع هنا هذا الأمر في قصته (المِشْوَار) أحدى قصص مجموعته القصصية (بكاء الصراصير) حيث يحكي لنا الراوي قصة ذلك الفارس على فرسه، ويتلون أمامنا ذلك الفارس بكل صور الفروسية الممكنة. كما نتناول بالدراسة ايضا مع قصة المشوار ، قصة القطة وقصة المهر. القصص تم إرفاقها ايضا مع الدراسة لمزيد الفائدة.

تتحقق السخرية لدى أحمد يوسف عقيلة ضمن نسق علاقات المجتمع النصي الخاص الذي يبنيه دائما، ولكننا سنلحظ أنها غير دائمة الحضور ضمن نصوصه، حيث يشتغل أحمد يوسف عقيلة على أكثر من خطاب نوعي بحيث يشكل عالمه ويستعين بفواعل غير بشرية لبناء عالمه الحكائي.
 ونجد السخرية تتحقق على مستوى الحكاية، حيث يقوم الراوي بتأجيل الجزء للأكبر من المفارقة التي تثير السخرية حتى (لحظة التنوير)[1]،  بينما يضع الراوي بعض التلميحات التي تعبِّر عن المفارقة ولكن بشكل مبهم غير واضح. لنتابع هنا هذا الأمر في قصته (المِشْوَار) أحدى قصص مجموعته القصصية (بكاء الصراصير)[2] حيث يحكي لنا الراوي قصة ذلك الفارس على فرسه، ويتلون أمامنا ذلك الفارس بكل صور الفروسية الممكنة.
"... يقف بخيلاء الفرسان .. يُطوِّح برجله اليمنى من فوق ظهر الفرس .. يُمسِّد على عنقها الأملس بحنان .. يُمسك اللجام بيده اليسرى .. يلتفت إلى الجموع الحاشدة على الجانبين .. يُحس بالزهو وهو يسمع صيحاتهم"[3]
ثم بعد هذه الصورة التي تبدو محايدة وهي ترسم صورة ذلك الفارس على فرسه نجدنا أمام تلميح من الراوي عن طبيعة الشخصية التي يرسمها في المقطع الثاني
 "( 2 )
ينظر (خليفة) إلى جهة النساء .. يسيل اللعاب خيوطاً على صدره .. يمسح أنفه بطرف كُمِّه .. يحشر سبابته في أُذنه مُغمِضاً عينيه .. يقترب الأطفال .. يتحسسون جسد الفرس الأملس."[4]
بينما سنجد في نهاية المقطع الثالث الصورة الحقيقية لذلك الفتى المسكين وهو يمارس لعبه على مكنسته بحيث تتضح أمامنا الصورة الحقيقية له
".. يرفع ذراعه مُلوِّحاً .. يبصق في يده اليمنى .. يضرب بكفِّه على مؤخرته .. و .. ينطلق في مشوارٍ لاهـث .. بينما عصا المكنسة تُثير خلفه زوبعةً من الغبار..! "[5]
الصورة السابقة كما نرى برغم كل ما فيها من سخرية إلا أنها جاءت منسجمة مع طبيعة السياق العام لاشتغال "أحمد يوسف عقيلة" القصصي حيث القرية أو القبيلة هي مادته الخصبة كذلك تصوير رؤية الكل (أهل القرية وهم يصرخون للولد "اخلوفة" لكي يقوم بنفس الهرولة التعيسة فوق ذلك العود الخشبي) إنها كلها تعكس ذات اللقطة التي انهمك "احمد يوسف عقيلة" ومن زوايا مختلفة بالتقاطها بحيث يرسم بواسطة هذه اللقطة السريعة رؤيته في الكون والعالم والحياة، سنجد اشتغالا مشابها لنفس الكاتب ضمن قصة أخرى من قصص المجموعة ذاتها هي قصة "القطة". سنلحظ في البداية وجود تناص بين هذه القصة وبين المثل الشائع المعروف عن القطة التي تأكل أولادها.
تبدأ القصة بصورة القطة وما تعانيه من خوفها على أولادها من أعداءها خارج التجويف الصخري الذي ضعتهم فيه
"في الصباح .. ألْقتْ نظرةً على صغارها العُميان .. لقد ارتوتْ .. وهي الآن مستغرِقة في نومٍ عميق .. كل واحد يدسُّ رأسه في حضن الآخر.
خرجت لاصطياد ما يمكن اصطياده .. تطلَّعت حولها .. إنها في مأمنٍ من شقاوة الأولاد .. اختارت هذا التجويف الصخري البعيد .. حتى لا تكون هدفاً للمقاليع.
الْتفتت إلى بيتها ..
ـ ولكن ماذا لو تسلَّلت إحدى الأفاعي..؟
ارتعشت وهي تتصوّر ذلك.
أخذت تُضيِّق الفتحة .. كوَّمت التراب في المدخل" [6]
  تتحرك تلك القطة وتبدأ هواجسها وهي تتابع العالم الخارجي حيث الثعلب يستعد لاقتناص كل ما يمكن والثعبان متحفز والبوم وغيرها من الكائنات جاهزة كلها للافتراس ويستمر النص وأمامنا تزداد وتكبر هموم ومعاناة تلك القطة لينتهي بها الأمر وتخرج من جحرها صباحا وقد و قد أكلت أولادها سنجد الأمر أمامنا مبهم حتى اللحظة الأخيرة (لحظة التنوير) حيث نجدنا أمام تلك الكائنات المعادية وهي تكتشف بنفسها ما فعلته القطة
"... تسابق المُترصِّدون..
الأفعى أول الداخلين .. كانت أقربهم..
توغَّلت .. أحسَّت بدفء التراب .. أخرجت لسانها تلتقط الرائحة الشهية .. ولكن ... لم يكن هناك أَثرٌ لشيء .. لا شيء سوى نُتَفٍ من الوَبَر .. وبُقَعٍ من الدَّم..!"[7]
إننا كما نرى أمام هذه السخرية المريرة من القطة ومن كل الغابة هذه السخرية تمّ رسمها بواسطة لغة كثيفة ودراما متصاعدة لهواجس ذات ذلك الكائن حيث الراوي يعبرها ويرسم أمامنا صورة تفاعلها، كل ذلك ضمن نطاق اشتغال احمد عقيلة القصصي حيث القصة تطرح رؤية ما أو تأمل ما.
السخرية المباشرة
سنجد السخرية المباشرة ضمن قصة (المهر) التي تبدأ منذ البداية علامات الخطاب الساخر من خلال تفاعل الراوي (المشكوك فيه) مع المصطلحات الملكية كلفظ (جلالته) في المقطع التالي
"... ذات عشيَّة .. ركب جلالة الملك حصانه الأشقر .. وطلب من مستشاره أن يرافقه في نزهة إلى الغابات المجاورة .. جلالته يحلو له كثيراً التنزَّه في العَشَايا الرطبة .. وحينما هبطا وادياً عميقاً .. وأصبح من الصعب على الفرسين السير فيه .. ترجَّل جلالته .. وأخذ يخطو على قدميه .. يتبعه مستشاره .. ثُمَّ جلس فوق صخرة مُشرفة على مجرى السيل."[8]
فنحن كما نرى أمام الراوي وهو يحكي لنا عن خروجه (أي الملك) بلغة الرواية مع التمادي في ألفاظ التفخيم (المشكوك فيه) التي سبق الحديث عنها، وسنجد مع مضي السرد رسم صورة عبر (الحكاية) عن واقع العلاقة بين الملك ومستشاريه وعن حالة النفاق والغش التي يعيشها الكل معه، كل ذلك يقدم أمامنا بطريقة غير مباشرة حيث يتفاعل الكل مع الوضع الموجود والراوي باستمرار يتحدث عن (جلالته) بالتفخيم ذاته.
لنلاحظ هنا كيف يتم الحديث عن إصابة جلالته بالخوف والهلع بعد أن نعق البوم
"وسط صمت الوادي .. نعقت بومة في السفح الأيمن .. فجاوبتها بومة أخرى من السفح الأيسر.
أجفل الملك .. تغضَّن وجهه .. فجلالته يتشاءم من البوم .. لكنَّ حوار البومتين استمر .. نعقة من هذا السفح .. تردّ عليها نعقة من السفح المقابل"[9]
إننا كما نرى أمام تحريك الحدث الراكد عبر البوم باعتباره مصدرا للشؤم ضمن الثقافة الشعبية، كما يستمر الراوي في رسم الشخصية الرئيسية التي يتم السخرية منها (الملك) بنفس الطقوس، هو ومستشاره الذي يمثل صورة عن واقع النفاق السائد للسلاطين
"لكنَّ جلالته قال بصرامة:
ـ لا تراوغ.
ـ حسناً يا مولاي .. سأُترجم ما قالت البومتان حرفياً .. حرفياً يا مولاي .. ولن أزيد حرفاً واحداً من عندي .. فهذا ليس من الأمانة العلمية.."[10]  
ويستمر الراوي بنفس النمط في تشكيله للخطاب حتى نجدنا أمام اللحظة النهائية التي يرسم  فيها أمامنا بنفس الطريقة التهكمية ملامح مستقبل المملكة
"وسنجد في أخر النص استغفال المستشار لملكه فهو هنا يحدثه عن المهر الذي طلبته البومة من الأخرى لأبنتها
"ـ نعم يا مولاي .. لقد قالت لها .. قالت لها...
ـ ما بك اليوم .. تُكثر التلعثم .. وتُفأفئ .. ماذا قالت..؟
ـ اعذروني جلالتكم .. أنا أُترجم حرفياً .. لقد ضحكت البومة ـ أعني أُمُّ العريس ـ وقالت هذا شرطٌ سهل .. إذا دام عهد جلالة الملك ـ أطال الله بقاءه ـ فسأمنحكِ .. ليس قريةً واحدة فقط .. بل عشرات القُرى الخَرِبة..!
انظروا جلالتكم .. البوم ليس جَحوداً كالبشر .. فهو يدعو لكم بطول البقاء."[11]
إننا كما نرى أمام السخرية المباشرة من الملك ومستشاره وهذه السخرية تمثل رؤية في مفهوم المُلك وعوالمه، وتطرح رؤية الكاتب ضمنه بطريقة غير مباشرة.
 نلحظ هنا أن احمد يوسف عقيلة يخرج في هذا النص من عوالمه الحكائية التي طالما نسجها وفضاءاته الخاصة التي طالما تلاعب ضمن سفوحها، لعوالم أخرى ولكنه مع ذلك يحتفظ بالدور دائما كما هو للفواعل غير البشرية ضمن نصه، كما حدث هنا مع البوم ونعيقه ودوره في تحريك الحدث وفتح أفاق الحوار الذي تأسست عبره وبطريقة غير مباشرة (رؤية الكاتب).


النصوص مادة الدراسة
المشوار، القطة، المهر
المِشْوَار
( 1 )
... يقف بخيلاء الفرسان .. يُطوِّح برجله اليمنى من فوق ظهر الفرس .. يُمسِّد على عنقها الأملس بحنان .. يُمسك اللجام بيده اليسرى .. يلتفت إلى الجموع الحاشدة على الجانبين .. يُحس بالزهو وهو يسمع صيحاتهم:
ـ هيَّا .. مشوار يا ( اخْلُوفة ) .. مشوار.
ـ مشوار يا راعي الحَمْرَا.
( 2 )
ينظر (خليفة) إلى جهة النساء .. يسيل اللعاب خيوطاً على صدره .. يمسح أنفه بطرف كُمِّه .. يحشر سبابته في أُذنه مُغمِضاً عينيه .. يقترب الأطفال .. يتحسسون جسد الفرس الأملس.
( 3 )
ترتفع الزغاريد مُلعلِعة .. يفور الدم الحامي في عروقه .. يُغضِّن جبهته .. يَزمُّ شفتيه .. يكتسي هيأةً جادَّة تليق بالفرسان .. ينظر أمامه مباشرة إلى الطريق الترابي الممتد .. الذي يتلاشى عند حافة السماء .. يرفع ذراعه مُلوِّحاً .. يبصق في يده اليمنى .. يضرب بكفِّه على مؤخرته .. و .. ينطلق في مشوارٍ لاهـث .. بينما عصا المكنسة تُثير خلفه زوبعةً من الغبار..!
( 1999 )
القِطَّة

( 1 )
... أحد المساءات الربيعية .. في تلك اللحظة التي يكون فيها قرص الشمس في متناول كفَّيك .. اللحظة التي تتوهَّج فيها التنانير .. وتنعقد حُزَم الدخان فوق الوادي .. كانت القِطَّة تتمدَّد في تجويفٍ تحت الصخرة .. غائبة عن الوعي .. بلغ الألم مُنتهاه .. حتى تلاشى الإحساس بالألم.
أفاقت .. استدارت .. غمرها إحساس جارف بالأُمومة .. هذه أول مرَّة تعرف طعم هذا الإحساس.
تأمَّلت أُسرتها .. خمس قُطيطات .. أربعٌ بِيض .. وواحدٌ أسود.
تشمَّمتْهم ..
ـ البياض لي .. والسواد له .. تُرى أين هو الآن ..؟ لا هَمَّ له سوى النزول من فوق قِطَّة .. واعتلاء أُخرى .. ثُمَّ يتلهَّى ويصطاد .. إنه لا يعرف حتى مذاق الألم .. ولكن .. لا بأس .. دعونا نتذوَّق اللحظة الراهنة.
لحستْهم .. واحداً واحداً .. ثُمَّ استلقت من جديد .. ومنحتْهم أثداءها الطافحة بالحليب.
( 2 )
في الصباح .. ألْقتْ نظرةً على صغارها العُميان .. لقد ارتوتْ .. وهي الآن مستغرِقة في نومٍ عميق .. كل واحد يدسُّ رأسه في حضن الآخر.
خرجت لاصطياد ما يمكن اصطياده .. تطلَّعت حولها .. إنها في مأمنٍ من شقاوة الأولاد .. اختارت هذا التجويف الصخري البعيد .. حتى لا تكون هدفاً للمقاليع.
الْتفتت إلى بيتها ..
ـ ولكن ماذا لو تسلَّلت إحدى الأفاعي..؟

ارتعشت وهي تتصوّر ذلك.
أخذت تُضيِّق الفتحة .. كوَّمت التراب في المدخل .. ثُمَّ...
ـ ماذا يفعل هذا الثعلب الملعون هنا..؟ إنه يتشمَّم كل شيء .. لا يجب أن يراني.
عادت .. حشرت صغارها في أعماق التجويف .. وأخذت موقف الدفاع..
فكَّرت:
ـ إننا قريبون من المدخل .. في متناول المخالب.
شرعت تحفر إلى الداخل .. تحفر .. حتى توغَّلت .. ولم تعُد ترى صغارها.
عادت .. أخذت تلتقطهم من أعناقهم .. يتأرجحون بين فكَّي الأُمومة..!
ـ والآن أصبحتم في مأمن.
مكثتْ قليلاً .. تلتقط أنفاسها .. ثُمَّ أطلعت رأسها من الفتحة..
ـ اختفى الثعلب .. لكنَّ رائحته لا تزال قوية.
رفعت أنفها في كل الاتجاهات..
ـ آه .. المخادع يترصَّد من خلف الصخرة .. يظنُّ أنه يخدعني .. صغاري لن يكونوا لُقمة سهلةً لأحد.
... وبقيت تسدُّ المدخل ..
... في المساء .. حطَّت بُومة على الخَرُّوبة المجاورة .. ونعبت نعيباً فاجِعاً.
ـ لم يعُد ينقصني سوى البومة .. إنها أخطر من الثعلب .. لن تجد صعوبة في الدخول .. لكنني لن أترك صغاري الآن .. سأرى مَن منَّا ستصبر أكثر ..؟ هل ستبقَين فوق الغصن إلى الأبد..؟!
( 3 )
...في آخر الليل أخذت القطيطات تموء .. وتتحسَّس الأثداء.
لم يغمض للأُم جفن ..
ـ ماذا أفعل لحمايتهم ..؟ ماذا أفعل لدفع الخطر عن العائلة ..؟ إذا خرجتُ الْتهمهم المُترصِّدون .. إذا بقيتُ قتلهم الجوع .. ذلك السافل .. يغرز أسنانه في عنقي .. يقذف في أحشائي عائلة كاملة .. ثُمَّ يختفي .. كأنَّ الأمر لا يعنيه .. لو أنه يأتي الآن لتناوبنا الحراسة .. ولكن لا مناص من الخروج غداً .. لابُدَّ من الخروج في نهاية المطاف .. لن أسمح لهم بدفننا أحياء.
أطلعت رأسها .. تأملت القمر الحائم فوق الوادي .. وظِلال الأشجار الباهتة .. أطلقت البومة ثلاث نعبات متتالية مُؤكِّدةً وجودها .. ومسحت سحابةُ ضوءَ القمر.
( 4 )
في الفجر .. رفعت نفسها بوهن من بين صغارها .. التي لم تَكُفّ عن المواء طوال الليل .. زحفت ناحية المَخْرَج .. جفَّت الأثداء .. الجوع ينهشها .. كانت تسمع تكسُّر البَيض في الأعشاش الدافئة .. والزقزقات الأولى للعُصَيفيرات الوليدة.
أخرجت رأسها .. استرابت..

ـ كالعادة .. الأمور على أسوأ ما يُرام .. الثعلب فوق الصخرة .. والبومة في أعلى الشجرة .. ولا شك أنَّ الأفعى تكمن في الجِوار .. إنهم يترصَّدون صغاري من فوق ومن تحت.
أغمضت عينيها .. ثُمَّ .. قررت أن تعود .. لا يزال هناك خِيار.
سدَّت المدخل بكومة من التراب .. وغابت في ظلمة الصخرة.
( 5 )
... عند ارتفاع الضحى .. بدأت كومة التراب تتحرَّك .. انتصبت أُذنا الثعلب .. أدارت البومة رأسها .. تكوَّرت الأفعى .. انزاح التراب .. برز المخلبان .. الرأس .. الكتفان .. انضغط الجسد مقذوفاً إلى الخارج .. مُنتفِخة .. تتمايل .. أثداؤها تنزُّ بالحليب .. انحدرت مع الوادي .. تمشي بهدوء .. لا يبدو عليها أثر للخوف .. أو القلق.
... تسابق المُترصِّدون..
الأفعى أول الداخلين .. كانت أقربهم..
توغَّلت .. أحسَّت بدفء التراب .. أخرجت لسانها تلتقط الرائحة الشهية .. ولكن ... لم يكن هناك أَثرٌ لشيء .. لا شيء سوى نُتَفٍ من الوَبَر .. وبُقَعٍ من الدَّم..!

( 1997 )
المَهْر

... ذات عشيَّة .. ركب جلالة الملك حصانه الأشقر .. وطلب من مستشاره أن يرافقه في نزهة إلى الغابات المجاورة .. جلالته يحلو له كثيراً التنزَّه في العَشَايا الرطبة .. وحينما هبطا وادياً عميقاً .. وأصبح من الصعب على الفرسين السير فيه .. ترجَّل جلالته .. وأخذ يخطو على قدميه .. يتبعه مستشاره .. ثُمَّ جلس فوق صخرة مُشرفة على مجرى السيل.
وسط صمت الوادي .. نعقت بومة في السفح الأيمن .. فجاوبتها بومة أخرى من السفح الأيسر.
أجفل الملك .. تغضَّن وجهه .. فجلالته يتشاءم من البوم .. لكنَّ حوار البومتين استمر .. نعقة من هذا السفح .. تردّ عليها نعقة من السفح المقابل.
قد تطول النعقة أو تقصر .. تبعاً لمقتضيات الحديث .. لكنَّها في جميع الأحوال نعقات حادَّة صارخة .. بسبب أزمة الحوار .. وظروف التخاطب عن بُعد.
وتوقَّف الحوار..
عاد الوادي إلى سكينته .. لا شيء يُعكِّر الصمت سوى نخير الحصانين وهما يقضمان العشب النامي على حافة السيل.
الْتفت جلالته إلى المستشار..

ـ على علمي أنك خبير في منطق الطير .. فماذا قالت البومتان..؟
بلع المستشار ريقه .. اسودَّ وجهه واصفرَّ .. علَتْه كل الألوان .. وقف ثُمَّ جلس .. وردَّ بصوت مرتعش:
ـ إنه مُجرَّد هذيان بومتين .. تطردان الضجر .. تستطيع أن تُسمَّيه : (الصياح في الوديان).
لكنَّ جلالته قال بصرامة:
ـ لا تراوغ.
ـ حسناً يا مولاي .. سأُترجم ما قالت البومتان حرفياً .. حرفياً يا مولاي .. ولن أزيد حرفاً واحداً من عندي .. فهذا ليس من الأمانة العلمية..
ـ متى تكفُّ عن الثرثرة..؟
ـ إنهما ـ يا مولاي ـ بومتان...
ـ عرفنا هذا .. وماذا بعد..؟
ـ بومة السفح الأيمن تطلب ابنة البومة الأخرى لولدها .. تطلب يدها ـ كما نقول نحن البشر في مثل هذه المناسبة ـ أو يمكنني أن أقول تطلب جناحها ..! فأنا أُحاول أن أُقرِّب لك المعنى .. فقواميس البوم يا مولاي مليئة بألفاظ غريبة .. تستعصي ترجمتها.
ـ دعني من ثرثرتك .. واعطني زُبدة الحوار.
ـ الزبدة يا مولاي .. حسناً .. دعني أمخض قليلاً .. نعم .. لقد وافقت البومة ـ أمُّ العروس ـ على الطلب .. واعتبرت ذلك شرفاً .. لكنَّها اشترطت مَهراً غريباً لابنتها.
تلعثم المستشار .. وسكت..
ـ كنت أعتقد أنَّ المهور الغريبة لدى البشر فقط .. فما هو هذا المهر الغريب..؟
ـ لقد اشترطت لابنتها قريةً خَرِبة..!
ـ قريةً خَرِبة..!؟
ـ معلوم يا مولاي .. فالبوم لا يحلو له النعيب إلاَّ فوق الخرائب .. حتى قالوا بأنَّ الخرائب هي عُروش البوم.
ـ وهل قبلت المَهر..؟
ـ نعم يا مولاي .. لقد قالت لها .. قالت لها...
ـ ما بك اليوم .. تُكثر التلعثم .. وتُفأفئ .. ماذا قالت..؟
ـ اعذروني جلالتكم .. أنا أُترجم حرفياً .. لقد ضحكت البومة ـ أعني أُمُّ العريس ـ وقالت هذا شرطٌ سهل .. إذا دام عهد جلالة الملك ـ أطال الله بقاءه ـ فسأمنحكِ .. ليس قريةً واحدة فقط .. بل عشرات القُرى الخَرِبة..!
انظروا جلالتكم .. البوم ليس جَحوداً كالبشر .. فهو يدعو لكم بطول البقاء.
( 1998 )


[1] تسمى لدى بعض نقاد القصة القصيرة اللحظة النهائية التي تتضح فيها المفارقة التي تنهي القصة بلحظة التنوير.
[2] أحمد يوسف عقيلة /بكاء الصراصير/ /قصة المِشْوَار
[3]أحمد يوسف عقيلة /بكاء الصراصير/ قصة المِشْوَار
[4] أحمد يوسف عقيلة /بكاء الصراصير/ قصة المِشْوَار
[5] أحمد يوسف عقيلة /بكاء الصراصير/ قصة المِشْوَار
[6] أحمد يوسف عقيلة /بكاء الصراصير/  قصة القطة
[7] أحمد يوسف عقيلة /بكاء الصراصير/ قصة القطة
[8] أحمد يوسف عقيلة /بكاء الصراصير/قصة المهر
[9] أحمد يوسف عقيلة /بكاء الصراصير/قصة المهر
[10] أحمد يوسف عقيلة /بكاء الصراصير/قصة المهر
[11] أحمد يوسف عقيلة /بكاء الصراصير/قصة المهر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق