الجمعة، مايو 11، 2018

الرؤية في أعمال بشير الهاشمي القصصية

سلسلة اشتغالات حول نصوص مميزة في القصة القصيرة (14)
بشير الهاشمي أديب ليبي من جيل التأسيس، كتب القصة والمقالة وغيرها من الأعمال الأدبية. بدأ كتابته منتصف الخمسينيات الثاني وله عديد المجموعات في القصة وفي مجالات ادبية مختلفة. اعماله في القصة مميزة بل له اعمال ازعم انها من روائع القصة الليبية القصيرة. اضع هنا دراسة حول جانب الرؤية في قصتين من قصصه.
مدخل
يتميز اشتغال بشير الهاشمي القصصي بالإضافة لما سبق ذكره فيما يخص الراوي باشتغال متميز على مستوى الرؤية حيث نجد ضمن بعض نصوصه اشتغالات غاية في التميز كان فيها الهاشمي مبدعا ومبتكرا.
أولاً/  توظيف فواعل غير إنسية كقنوات للرؤية:
لنتابع هنا اشتغاله في قصة شيء في قريتنا حيث نجدنا مع قناة للرؤية غاية في التميز:
"وثمة كلب صغير آثر أن يعبر عن احتجاجه لما انتزعته الشمس شئ ظلال كان يستمتع بها تحت شجرة الليمون فاندفع في نباح متواصل محاولا الفكاك من قيده المثبت بوتد قرب الشجرة وهدأ قليلا وكأنما شيئا كذا  أثار انتباهه فبقي منتظرا في تحفز"  
في المقاطع التالية من النص نجد الرؤية تمضي شيئا فشيئا لتصبح من خلال وعي فاعل خاص وهو (الكلب)، ويصبح هذا الكلب قناة وممرا للسرد ويرسم الراوي - في مقاطع بسيطة-  بعين ذلك الفاعل صورة للعالم، ويبدو خلف كل تلك الصور سخرية خفية من الراوي وخلفه القاص من كل ما يحصل، سنجد البداية برصده ما يحصل بين الكلب وصاحبة البيت:
"فقد (أ) "استقبلها بحفاوة واقفاً على قدميه الخلفيتين محركاً ذيله محدثاً همهمة مرحة.. ثم انقض على الإناء ملتهماً طعامه.. (ب) وليس ثمة ما يشعره بالزمن وهو يمضي من حوله فالغروب يزحف بهدوء محتضناً القرية وقد صبغها بلونه الداكن(ج) وبدأت أصوات الفلاحين تزداد ارتفاعاً وتباعداً.. هناك من يستحث عماله في إحضار البقرة وآخر يصرخ في ابنه طالباً إغلاق عين الماء.. (ج) واستكان الكلب بدوره إلى الهدوء مع اشتداد ظلمة الليل ونسائم ربيعية باردة تتسلل من بين أوراق الأشجار (هـ) محدثة حفيفاً وخشخشة تتلاقى كثيراً مع أصداء بعيدة"  
في المقطع السابق نجد في (أ) صورة (الكلب) وهو يستقبل صاحبة البيت فرحاً بطعامه، ثم في (ب) يدخل الراوي في وعي هذا الكلب (بشكل غير مباشر) ليطرح أمامنا عدم إحساسه بالزمن، مدللا على ذلك من خلال صور يراها ذلك الفاعل (الكلب). ثم في (ج) نجد اشتغال على حاسة السمع عبر الصوت وفي (د) نجدنا مع الكلب وما يشعر به من نسائم وهو اشتغال على مستوى اللمس. ثم في (هـ) نتابع تلاقي الصوت مع الأصداء البعيدة.
إن هذه الاستكانة واللحظات المميزة بالاستقرار والهناء الذي يعيشه هذا الفاعل سيتحول إلى العكس حيث أكتشف صاحب المزرعة سرقة اللصوص للحمار فانهال عليه ضرباً في (لحظة التنوير النهائية):
"لم يكن يدري أن ما سمعه ليلة البارحة من حركات ووقع أقدام كانت لأشخاص.. وأن الحمار قد سرقوه.. واندفعت الأيدي وانتزعت العصا منه ولكنه أقسم أن لن يتركه لحظة عنده.. وتقدم إلى قيده المحيط برقبته وفكه وضربه بقدمه.. ودار الكلب دورتين من أثر الضربة ووقع على الأرض.. ونهض مقترباً من صاحبه وأخذ يتمسح به ويهز ذيله ويهمهم.. ثم انطلق يجري متوارياً عبر أزقة القرية"  
إن الراوي يرسم كم رأينا حالة الكلب التعيس، وتحول وضعه سريعا من السعادة للتعاسة، وتمثل هذه القصة أحد أهم قصص الهاشمي تميزا من جانب الرؤية.
ثانيا/ الصورة واشتغال الرؤية والدخول لتبئير الوعي العميق في قصة (الليالي)
سيكون من الغريب أن نكتشف أن الهاشمي لديه اشتغالات فيها شيء من نهج تيار الوعي حيث يضعنا الراوي الخارجي في عمق الشخصية الداخلي ويجعله يتكلم. 
لنتابع هنا قصة (الليالي)، حيث يرسم الراوي شخصية شاب يعيش قلقه وألمه وحيرته الداخلية وهو يسأل ذاته عن سبب ممارسته للسكر. في آخر النص نجد حواره الداخلي:
"(أ) وارتسمت أمامه صورة رئيسه في العمل وعلاقة الروتين التي تشده إليه وصوته المترنح وهو يوبخه وينذره لآخر مرة بأن لا يتغيب أو يتأخر عن العمل (ب) – كفاية البنت ضاعت.. (ج) وتسهر مرة ثانية ونحكي على الخبزة اللي ضاعت.. (د) واتخذ هذه المرة وجهته إلى البيت وخيوط من العتاب تتسلل إلى أعماقه.. (هـ) سحقاً لأشجاننا ونحن نطلق لها العنان وسحقاً لمن يحمل الدموع وعاء يسقيه للناس.. وعلى بعد خطوتين منه عسل الحياة ورحيقها الملتهب.. (و) ودخل في هدوء إلى بيته ودون أن ينتبه إليه أحد أوصد باب حجرته (ز) وعلق أشجانه إلى أوهام الظلام (ح) – نام يا أخي نام.. تعيش وتصبح.. وتحب غيرها" 
حيث في (أ) نجد صورة الرئيس في العمل من خلال وعي الشخصية. بينما في (ب) نجده يطرح أمامنا كلمة من عمقه تعكس ما يدور في صدره من شجون. هذا الكلمة تأتي كحوار داخلي ضمن سرد خارجي (بضمير الغائب حيث نصبح بهذه النقلة أمام ما يمكن ان يعرف باشتغال تيار الوعي، وفي (ج) نجد أمامنا رد الشخصية – من عمقه الداخلي أيضا -حول ما نطق به في (ب) بينما في (د) نجد العودة -للداخل الأكثر عمقا- عبر الصورة الخارجية ذات البعد التشكيلي حيث الشخصية وخيوط العتاب التي تتسلل إلى أعماقه. ثم في (هـ) نجدنا بشكل سريع (من جديد) في الوعي العميق للشخصية وهو يعيش حالة صراع داخلي، وفي (و) نجد صورة خاصة من الراوي للشخصية ترسمه خارجياً ويتم فيها التركيز على أشياء داخل وعيه العميق، حيث يرسم الراوي دخوله مع عدم انتباه أحد إليه. بينما في (ز) نجد صورة ذات بعد رمزي تعكس الشعور بعدم جدوى أي شيء. بينما تختم القصة في المقطع (ح) عبر حوار الشخصية المباشر وهو هذيان أقرب ما يكون لاشتغال  تيار الوعي وهو يحكي عن مواضيع تهمه منها موضوع البنت التي ضاعت منه.
إننا كما نرى أمام تنظيم خاص للرؤية مع سرد منظم تمكن عبره الراوي (من خلال تلاعبه السردي) من الدخول للوعي العميق للشخصية، وجعلها أكثر تجسما وحضورا .
 ثالثا /انعكاس الرؤية العميقة للشخصية من خلال التصوير الخارجي قصة مبروكة أم الصغار نموذجا:
يبدأ القاص في هذه القصة منذ البداية في طرح الوعي العميق للشخصية (مبروكة) وإحساسها بدورها كزوجة من خلال العنوان الذي انتقاه بدقة (مبروكة أم الصغار) وإذ يمضي السرد نجد الراوي شيئا فشيئا يبدأ في تجسيدا إحساس الشخصية بالذات، وإحساسها بتكوينها الأنثوي المميز.
 لنتابع هذا المقطع الذي يجسد عبر البعد السمعي ما قلناه سابقا
"ومضت لحظات قبل أن يرتفع بعدها صوت قرقعة القبقاب على أرض السقيفة في دوي مثير وبتوقيعات متفاوتة وسبق فتح الباب حركة احتكاك ورنين سريعة أثارت انتباه مبروكة وذكرتها—الحدايد الكبار على ذراعها" 
إن الراوي و هو يصور ببطء غريب الحركة الخاصة بالشخصية (مبروكة) ينطلق ليدخل لعمقها حيث الجسد هو سر شعورها بالسعادة. كل ذلك التصوير كان يتحقق على المستوى السمعي بحيث يسمع الراوي ما تنتشي الشخصية بسماعه فكل الأصوات التي تنتج عن حركة الجسد تعكس ذلك الإحساس الخاص العميق بالذات وبالسعادة وهي تتحقق كما رأينا من خلال أشياء بسيطة تخصها كالقبقاب في الأرجل و(الحدايد) في اليد.
لنتابع هنا كيف يمضي الراوي في ممارسة المزيد من تبئير وعي الشخصية العميق عبر نفس اللعبة التي يمتزج فيها التصوير السينمائي مع البعد السمعي مع وعي الشخصية العميق وهو يطرح بكل فن. 
" (أ) ودفعت مبروكة الباب بمرفقيها بينما أحضنت الخبز بذراعيها(ب)  وعاد صوت قرقعة القبقاب محدثاً دويه من جديد مبدداً جو السقيفة الساكن. (ج) والجسد الممتلئ يهتز ويتمايل مع حركات المرفقين..(د)  ونشوة غامرة تنفعل بها تحس فيها أن الحياة زاهية(ه) ..ولعل ذكرى خاطفة مرت بها وعلى شفتيها ترتسم ابتسامة وتحدث بصوتها همهمة جذلة وهي تتذكر الفقي عبد السلام زوجها على غير ما تعود الناس أن يعرفوه " .
إننا كما نرى في المقطع (أ) مع اشتغال مبروكة بعمل الخبز حيث الراوي يركز عليها خارجيا بينما سيكون التلميح للعمق الداخلي من خلال الحضن والذراع، بينما يعود الصوت وقرقعة القبقاب التي تدل على التكوين الجسدي للشخصية في (ب) ثم في (ج) يدخل مباشرة لها ويصور خارجيا ما يفترض إن الشخصية تفكر به، ثم في (د) نجدنا مع الحالة النشوة التي تعيشها نتيجة لكل ما سبق.
 بينما نجد التلميح لطبيعة العلاقة الكائنة بينها وبين الزوج (عبد السلام) الذي يبدو مختلفا عن كل تصورات الناس حوله.  
إن الراوي وقد أخذ يرسم الجانب الأكثر فعلا على عمق الشخصية وهو إحساسها بوجودها كأنثى، سينطلق الآن ليرسم ما تفكر به، وهو إذ يقوم بذلك فإنه يمارسه دون الوقوع في المباشرة أو السطحية في السرد التي كانت تسم غالب كتابات القصة ذلك الزمن. 
" (أ)  وانحنت على المكنسة من جديد وهي تحاول أن تتذكر آخر مرة اشترى فيها الفقي عبد السلام قفطان لها وابتسمت/ بعد أن أدركت أن المدة طويلة.. من العيد اللي فات خلاص..(ب) مستحيل أن يرفض هي تعرف كيف تقنعه"  
في (أ) الراوي يمارس التصوير السينمائي لحركة الشخصية البطيئة، وهي تمارس أشياء منزلية عادية يومية، بينما يدخل للعمق ويعبِّر عما تفكر فيه في (ب) من خلال تلك الثقة التي تمتلكها الزوجة في ذاتها (هي تعرف كيف تقنعه).
بينما ستكون نهاية القصة مع تعانق البعد السمعي للصورة الذي يتجسد من خلال ارتفاع صوت الزوج بالآذان، مع البعد الداخلي العميق للشخصية، وما تفكر به، لتكون قفلة النص هذه متوازية مع بدايته، حيث كان القاص قد بدأ النص من خلال صوت (مبروكة) وما تفكر به.
"(أ) صوت الفقي عبد السلام ينطلق من مئذنة المسجد منادياً لصلاة الظهر.. (ب) وأسندت ظهرها  إلى الحائط (ج) وعيناها تتطلعان إلى أعلى لعلهما تحلقان بعيداً(د) مع صوت الفقي لعلها تحاول أن تحمل له أمنيات .. قد يكون من بينها قفطان .. ردي أو حتى تستمال" 
  إننا نتابع في المقطع السابق كيف يمارس الراوي تلاعبه السردي وهو يطرح رؤية الشخصية وينجز فعل بناء عمقها أمام المروي له ويجند لذلك تقنيات سردية مختلفة فهو يوظف الجانب السمعي في (أ) مع حضور شخصية الزوج وتعالي صوته في الفضاء، مما يعكس إحساس الزوجة الطاغي بتميزه، ثم في (ب) صورة الزوجة (مبروكة) وهي تمارس فعل استعداد للتأمل، ثم في (ج) تبدأ تلك الزوجة التحليق مفكرة ليمتزج التفكير في (ج) بالبعد السمعي في (د)، ونكون بذلك أمام نفس الاشتغال الذي أسس به القاص بدايات قصته، وهو ينطلق من البعد السمعي للبعد الداخلي العميق ليطرح الأمنيات والأفكار التي تهجس بها تلك الذات.
لعل ما يميز هذه القصة إضافة لكل ما سبق أن القاص وظف فيها صورة البيت الليبي العادي وفي يوم عادي حيث لا أحداث كبرى باستثناء حدث زواج الجيران  الذي يمثل في وعي المرأة الليبية الشعبية قديما وحديثا حدثا مميزا ومهما. 



التفاعل النصي في نصوص خليفة الفاخري



سلسلة اشتغالات حول نصوص مميزة في القصة القصيرة (13)
التفاعل النصي في بعض نصوص الأستاذ خليفة الفاخري: موسم الحكايات. 
يتميز خليفة الفاخري -على الرغم من كون كتابته تنتمي غالبا لمرحلة الستينات وأول السبعينات- بوعي فني مميز، فهو يوظف بدقة تقنية العتبة السابقة للنص التي توجه الدلالة لأفق غير الأفق الظاهر على المستوى السطحي. تابعنا في هذه الدراسة توظيفه للعتبات كلك ما يعرف بالنص السابق والنص اللاحق في السرديات.



أولا.عتبات نصوص (موسم الحكايات) لخليفة الفاخري[1]

يتميز خليفة الفاخري  -على الرغم من كون كتابته تنتمي غالبا لمرحلة الستينات وأول السبعينات- بوعي فني مميز، فهو يوظف بدقة تقنية العتبة السابقة للنص التي توجه الدلالة لأفق غير الأفق الظاهر على المستوى السطحي، لنتابع ذلك في قصة الرجال.

عتبة قصة "الرجال":

سنجد في قصة الرجال لخليفة الفاخري العتبة التالية المنقولة عن هيمنجواي
"ولكن الإنسان لم يخلق للهزيمة، الإنسان قد يُدمَّر ولكنه لا يُهزَم!" همنجواي"[2].
       يتم استخدام العتبة السابقة المنقولة من همنجواي المعروف برسمه للشخصيات الإنسانية لغرض خلق شخصية إنسانية داخل قصة الرجال لـ"خليفة الفاخري" حيث نجد شخصية "خالد" السائق الذي يبدو نمطاً لشخصية البطل ويتم رسمه عبر عين مرافقه الذي يدخل للصحراء لأول مرة. لنتابع هنا نهاية القصة وصورة البطل:
"الصحراء مجرد جحيم ليس غير.. جحيم على مدار السنة!!.
ثم حك رأسه متطلعاً إلى مركبة قادمة من بعيد، وقال:
-  لقد تهت من قبل ثلاث مرات.. وامتلأ وجهي بالقروح من أثر الشمس، وتشققت شفتاي.. وغامت كل الأبعاد في عيني.. وتقلصت حتى لم أعد قادراً على الرؤية.. ولكنني كنت حسن الطالع.. على أي حال تأكد أن الحظ المسعف يكون بجانبك مدى الحياة برغم كل ما يقال.. إلا إذا مت، فعندئذ تدرك – بطريقة ما– أنه تخلى عنك فجأة!!
وسوّى قلنسوته فوق رأسه.
كان ثمة عقرب سوداء الرأس تسرح عند قدمي المساعد الصغير، وقد داس عليها خالد، وشرع يسحقها بعنف، حتى إذا واصلنا المسير أشار إلى المركبة القادمة قائلاً:
-  هؤلاء هم العمال العائدون إلى المعسكر من إجازاتهم! ولقد لوحوا لنا جميعاً فيما كانوا ينشدون أغنية مبهجة"[3].
إننا كما نرى أمام تمازج بين العتبة السابقة للنص وبين حكاية هذه القصة هذا التعاضد يؤكد على الرؤية التي يؤسس لها الكاتب –باعتبار أن المستوى النصي يحيل دائما على الكاتب.

عتبة قصة "غربة"

       نجد في هذه القصة المقطع المنقول عن "دستوفسكي" الروائي الروسي المشهور بشخصياته المتأزمة نفسيا نجده في قصة غربة:
"أتفهم يا سيدي؟.. أتفهم معنى ألا يجد المرء مكاناً يلجأ إليه على الإطلاق؟!" ديستوفسكي."[4].
       نجد في قصة غربة استفادة من النقلة من التراث الأدبي حيث "ديستوفسكي" يحيلنا على الشخصيات التي تشعر بألم الغربة. لنتابع هنا نهاية هذه الحكاية:
"وأقبل الليل..
أقبل الليل بلا قمر.. وتشاغل الأولاد بتصيد الفئران المارقة من تلك الفرجة في باب دكان العجوز عثمان.. كانوا يحملون عصيا ًومكانس.. وكلما سحقوا فأراً تعالى صياحهم.. ولقد شعر باستياء وتقزز، وكان يلوي عنقه تجاه نوافذ العمارة المقابلة.. النوافذ الوردية المضيئة، إلى أن تقادم الليل.. وانفض الجميع، على حين بدأت النوافذ تنطفئ.. وتنطفئ، حتى بقيت تلك النافذة العليا التي عندما قام من مكانه وسار بضعة خطوات، انطفأت هي الأخرى.
وإذ غيبه الطريق المظلم بعدئذ، أيقن أنه مجرد غريب.. غريب ليس غير!!"[5]

قصة عيون الكلاب الميتة:

       ينقـل الكاتب هنا مقطعاً لـ"ألبيـر كامو" في قصة (عيون الكلاب الميتة)
"قد يبكي الرجال لكثرة القبح في الحياة.."[6].
وهو هنا يحقق عبر إحضار هذا المقطع وضعنا في ملخص حقيقي لبؤرة القصة وما تحكيه، كما أنه يجهزنا لتقبل الشخصية التي عانت باستمرار.     لنتابع المقطع الأول هنا من هذه القصة:
"كان القمر يخوض حتى ركبتيه في مستنقعات السماء.. وكانت العيون مفغورة الشفاه.. راكدة مثل عيون الكلاب الميتة.. وكان الليل موحشاً كمقبرة قديمة.. والنهار كذلك.
وفيما امتلأ زجاج نافذتك بعروق المطر.. وارتفع صوت الضفادع عبر الغدران.. والنباح الضال، ظللت يا سيدي تقرض الكتب مثل فأر شره مثابر.. وتزرع الكلمات في قلبك مباشرة أمام الضوء الواهن المنبث من مصباحك العتيق ورغرغة الشاي فوق الجمر المغلف برداء ضبابي في زاوية الغرفة"[7].
       إن الكاتب يدخلنا عبر صوره الخاصة السابقة في عمق الشخصية، ويرسم بطريقة غير مباشرة آلامها عبر كلمة (مستنقعات، عيون الكلاب الميتة، موحشاً كمقبرة).
       إن كل ذلك يضعنا أمام ذات الفنان المتأزمة، فيما يستخدم العتبة المقطوعة من الأدب العالمي لعقد اتفاق حول طبيعة النص والشخصيات مع القارئ، وحتى يكون العنف والألم الموجود والظاهر عبر الكلمات مقبولاً. وينتهي التماهي بين المقطع المنقول من كتابة لـ"ألبير كامو" الروائي الفرنسي ليظهر في آخر القصة ألم الشخصية الذي فشل في أن يكون متآلفاً مع مجتمع الرفض والقبح:
"وعلى هذا فإن كلماتك ستذروها الرياح إلى قاع السعير مثل الخطاة تماماً. ستظل باردة جوفاء مسودة كخنافس من الخزف.. ستظل مطفأة راكدة مثل عيون الكلاب الميتة وسيظل القمر يخوض حتى ركبتيه في مستنقعات السماء.. وستظل أنت مجرد فأر ينتفض في منقار بومة!!
فاطفئ مصباحك..
يا سيدي، اطفئ مصباحك إلى الأبد.. ودع الخفافيش تذرع الأجواء كما تشاء!!" [8].
       إن المقطع التراثي هنا وُظِّف لجعل الشخصية مقبولة وكل ما يقع منها جائز.

ثانيا: التفاعل بين النص السابق والنص اللاحق ضمن نصوص خليفة الفاخري

سنجد في نصوص خليفة الفاخري حضور مقاطع من السرد القديم العجائبي كما في قصص ألف ليلة وليلة وكذلك حضور التاريخ وغيره لنتابع هنا هذه القصة المكونة من السرد العادي مع السرد العجائبي الذي يمتح من حكايات ألف ليلة وليلة وسنلاحظ كيف ساهم السرد القديم في بناء النص الجديد

قصة "ليالي شهرزاد":
       ركّب الكاتب هذا النص من قصتين وكان يقوم بعرضهما بالتناوب، الأولى قصة شهرزاد وما تحكيه للملك شهريار، والثانية قصة ولد وأمه ثم حكاية إصرار أمه على زواجه.
       استفاد الكاتب من المقاطع التي كتبت بنفس نمط قصص ألف ليلة وليلة أن يجعل تجانساً بين المحكي القديم الموجود في قصص ألف ليلة وليلة والمحكي الجديد الذي يتميز خطابه ضمنه بالنمط الساخر. لنتابع هنا بداية القصة على لسان شهرزاد التي تحكي عن ابن السلطان الذي أغرته (الغولة) للدخول لبيتها:
"وقالت شهرزاد في الليلة الخامسة:
.. وخرج ابن السلطان في رحلة صيد..
كان بمفرده، ولقد لمح وعلاً ضخماً فيما كان جواده الأشقر يذرع به ذلك السهب المترامي الأبعاد.. وما أن انطلق خلفه حتى فر الوعل مثل سهم"[9].
وتمضي شهرزاد في حكايتها عن لقاء الأمير بالفتاة الجميلة التي أخذها لبيتها وعَلِم هناك أنها ستأكله:
".. وقالت شهرزاد:
وحملها ابن السلطان على جواده، حتى إذا وصلا إلى طاحونة مهجورة عتيقة، استأذنته الفتاة في أن تغيب لحظات هناك. وإذ استبطأها بعدئذ، اقترب من الجدار المتآكل، ورآها تحدث أطفالاً ذوي آذان طويلة.. وقرون محمرة!. كانت تقول لهم:
-      أتيتكم  اليوم بفتى سمين.. سوف تلتذون كثيراً بأكله!.
وذهل ابن السلطان، ذلك أنه أدرك فجأة أن الفتاة التي تخيل منذ قليل أنه سيتزوجها، كانت مجرد غولة حقيقية مفجعة!!"[10].
ثم ننتقل من حكاية شهرزاد للراوي الذي يستلم زمام السرد ويحكي للشخصية مخاطباً إياه بما في عمقه من أشياء:
".. وأدرك شهرزاد الصباح!.
فماذا كنت أريد أن أحكي لك؟
حسناً، لقد تمنيت طويلاً أن تتزوج.. أن تحتضن جدران غرفتك الباردة فتاة دافئة، ذات حديث شيق.. طري الحروف مثل شهرزاد تماماً.. وكانت والدتك أيضاً تترقب ذلك، متعهدة بأن تجعل من عرسك مهرجاناً فخماً باتساع البلاد كلها.. وكانت تطلق زغرودة حينذاك إلى حد يكاد ينصفق فيه باب الغرفة!"[11].
       إن التماهي الحاصل بين قصة الحاضر، وبين قصة التراث سيتضح عندما يكتشف الشخص الرئيسي أن الأنثى تشبه تلك الأميرة في القصة أو أن الزواج مصيبة، ستبدأ الأم في دعوته للزواج حتى يتزوج وقد أصبح منهكاً بالدَّيْن وتزوج، ويبدأ في تجرع الخيبات.
       سنعود لقصة التراث أو لشهرزاد وقصة القصر والرجال العور – من العين اليمنى– ويظل هاجس البحث عن سبب ما حصل لعيونهم هو الذي يدفعه حتى يصل لقصر الأميرات وهناك يخترق المحظور:
"كان في القصر أربعون فتاة، وقد قلن له على الفور:
-  نحن نود أن تمكث معنا.. إننا نتغيب أربعين يوماً كل سنة، وأنت ستبقى حينذاك وحدك في القصر إلى أن نعود.. إنك ستجد كل ما تريد معنا!.
وعندما أطلت السنة الجديدة، قلن له أن ثمة في القصر أربعين غرفة ثرية. وأن الغرفة الأخيرة هي الوحيدة فقط التي يجب ألا يدخلها.. وحذرنه كثيراً، ثم طرن تباعاً عبر النافذة المقابلة.
وقالت شهرزاد:
أنه فتح كل الحجرات ما عدا تلك الغرفة، ولقد أكله الفضول فيما كان واقفاً في حيرة قاهرة أمام الباب، ومن خلال لحظة نزق مفرطة الحمق، أدار المفتاح في الثقب بوجل.. وتسرب إلى الداخل.
كان ثمة فرس سوداء عليها سرج موشّى بالذهب، وكان أمامها إناءان كبيران من البلور، أحدهما به سمسم مقشر والآخر به ماء ورد، وما أن امتطى تلك الفرس العجيبة ولكزها حتى صهلت كالرعد، ثم أفردت جناحين هائلين.. وطارت به.
وقالت شهرزاد:
.. وحين هبطت به بعد ذلك، صفعته بذيلها على وجهه حتى فقأت عينه اليمنى.. وأسالتها على خده!
.. وأدرك شهرزاد الصباح!!"[12].
       ننتقل من المقطع السابق العجائبي المنقول من قصص ألف ليلة وليلة لنجد الراوي هنا يخاطب الشخصية بنفس نمط مخاطبة شهرزاد لشهريار. ويتم سرد وضع البيت بعد دخول الأنثى وبعد اكتشاف الشخصية (المروي له) لحقيقة العلاقات الأسرية وبعد أن يجد نفسه منهكاً من الدَّين. يأتي هنا الراوي ليشبّه حالته هذه بواقعة من تراث شهرزاد أيضاً.
       هنا الراوي يخاطب الشخصية ويحدثه عن وضعه الحاضر، إنه بذلك يرسم أمامنا عبر السرد حالته في سخرية عميقة لا تخفى:
"وتنهار كل الأحلام.
فأنت لا تستطيع بأي حال أن تترك والدتك لتعيش في بيت بمفردها مثل بومة.. كما لا تستطيع أن تنام ليلة واحدة دون أن تحرق قلبك أقساط ديونك.. وسياط أمك.. وشكوى زوجتك.. ونحيبها المتصل.. وكلماتها الشائكة إلى حد شعرت فيه مراراً كأنك تنام مع قنفذ!!"[13].
ثم بعد ذلك نجد من التراث (التاريخي/ الأدبي) قصة تروى على لسان شهرزاد تكون خاتمة الحكاية:
".. قالت شهرزاد:
-  إن الرجل الذي أراد أن يعيش في جزيرة المرجان، قد طابت له الريح بضعة أيام، ثم وفدت على قاربه بعدئذ ريح معادية من ناحية الشرق.. أجل، من ناحية الشرق.. ومزقت الشراع وطفقت تثير الأمواج على نحو حاقد إلى أن أخذت تلطم القارب تجاه جبل (المغناطيس) الرابض تحت سطح البحر..
وقالت شهرزاد:
-  إن الجبل شرع يمتص كل المسامير من جسد القارب حتى ظل في وسع الرجل أن يلمح قاربه بهلع مفجع، قد أصبح بعد قليل مجرد ألواح تطفو خلال تدافع الأمواج الهمجية!.. وقالت أن الرجل كان يغيب بين حين وآخر في قاع البحر، ثم ينبثق مزرق الوجه شره الأنفاس..
.. وقالت أنه لم يكن في إمكانه أن يبكي..، ولقد بدا مثل عصفور يطير عبر المطر!
وأدرك شهرزاد الصباح!!"[14].
       إن المقطع السابق يرسم نهاية قصة ليالي شهرزاد ونلحظ فيه كيف تمّ إيراد مقاطع كاملة من النص السابق ووضعها داخل النص وتوظيفها في تحريك بنية الحكاية وجعلها متماسكة وأكثر فعلاً على قارئها وهذا النمط من التداخل النصي يعد نادراً في رصيد القصة الليبية إذ أن غالب التوظيفات كانت تأتي من خلال دخول شخصية أو حكاية ضمن النص أو أن تكون عتبة (كلمات في مدخل) لقصة أو لفصل من فصول رواية.

قصة "فخاخ على طول الطريق":
       يُحضِر الكاتب في قصة فخاخ على طول الطريق حكاية السندباد والمدينة التي تحجرت. هذه الحكاية تأتي هنا لتكون مادة لختام القصة وهي ذات بعد السياسي، حيث التماهي بين فعل الساحرة في قصة السندباد التي حولت المدينة لأنصاب حجر وحولت نصف الرجل الصارخ لسمكة، بحيث أصبحت مع الحاضر وتصبح الحكاية السابقة أداة لرسم حقيقة الدولة وما تفعله. لنتابع بداية القصة:
"   - أنا يا سيدي لست كذلك.. كل ما هنالك أنني كنت ذاهباً بعربتي مع صديقي هذا إلى المصيف.
هكذا قلت للشرطي الذي بدا مزهواً للغاية حين سألني على الفور:
-      وماذا تفعل في هذه الشركة الآن..اه؟
وخيل له أنه اقتنصني، ولكني أجبته بصدق:
-  إن صديقي يشتغل هنا وقد أضاع مفتاح بيته منذ قليل، وجئت به إلى هنا بعدما أخبرني أن لديه مفتاحاً آخر بدرج مكتبه.. في وسعك أن تسأله أيضاً.
وصرخ فوق أنفي مثل لذعة سوط:
-  لن أسأل أحداً، إنني أعرف تماماً أنكم جئتم إلى هنا من أجل الإضراب وتوزيع المناشير.. سترون.. سترون!
-      ولكن اليوم يوم أحد، وليس بالشركة أي موظف أو عامل سوى الخفير، فكيف أدعو إلى الإضراب؟
-      أسكت!
-      تستطيع أن..
-      قلت لك: أسكت!
كان ذلك في يوليو.. في السنة الماضية.
ولقد قدمت بعدئذ عربة مكتظة برجال الشرطة على إثر المكالمة التليفونية التي أجراها الخفير.."[15].
       وبعد أن تورط الرجل وصديقه في السجن السياسي، سنجد أن السبب في السجن هو الإضراب والمنشورات التي توزع ضد اليهود:
"وفي الطريق قال لي أحدهم:
-      هل تتوقعون أنكم ستهزمون اليهود حين تدعون إلى غلق المتاجر؟
وما أن واصلت صمتي دون أن أرد عليه، حتى اقتنع تماماً بأنني مجرم حقيقي، وقد تطوع بدفعي من السيارة بعنف حين وصلنا المركز، ثم أهداني لكمة أخرى في ظهري ليريني الطريق إلى الداخل"[16].
       إن السرد سيستمر فيما يقطعه من الحين للآخر الحوار الذي يرسم وضع السجن وما يلقاه السجناء، حتى نجد يتحرك وعي الشخصية نحو قصة السندباد الأسطورية وجعلها مادة يتم عن طريقها توجيه أفق دلالة لخطة التنوير النهائية في القصة:
"وخيل لي أنه ابتسم ابتسامة مريرة خلف ستار الظلمة قبل أن يقول:
-      أشعر كأنني دجاجة معبأة بالقمل في قفص ضيق متسخ.
وبدا لي أن أعماقه قد انفرجت قليلاً، فقلت له:
-      ما رأيك في هذا المصيف الذي جئنا إليه؟
-      رائع.. رائع، تمتع بهذه الرمال الدافئة!!
كذلك هتف من الركن المقابل.. ثم سكت، على حين انطلق خاطري على جناح أسطورة:
وتهالك قارب السندباد في مرفأ مدينة بعيدة.. وإذ ألقى مرساته هنالك، ودخل المدينة، وجدها قد مسخت حجارة: كل الرجال، والصبايا والأسواق، والسلع، والفواكه كلها.. كلها أصبحت حجارة. وفيما عقدت الدهشة أهدابه العليا بحاجبيه، سار عبر الطريق بخطى فزعة إلى أن وجد نفسه أمام قصر مذهب، واشرأب عنقه داخل الباب ثم قادته قدماه إلى الساحة المترفة بالضوء والهدايا، ووجد رجلاً قابعاً هناك، مقيداً بالأغلال داخل قفص، بينما تحول نصفه الأسفل إلى سمكة. وما أن لمح السندباد حتى طفق يبكي قائلاً:
-  إن زوجته تخونه مع عبد أسود ضخم مثل دب هائل، وإنه لما اكتشف ذلك وحاول قتل العبد، اجتاح الغضب زوجته فجأة، ومسخته بسحرها على هذا النحو، ثم حولت المدينة إلى كوم من الأحجار.
وبكى من جديد بدموع من دم، وقال إن زوجته تأتي إليه كل مساء، وتمزق جلده بسوط حاقد.. ثم ترحل"[17].
       إن المقطع السابق يتم عبره رسم قصة الزوجة الساحرة وزوجها ونجد في لحظة التنوير (ونهاية القصة) كيف تصور الشخصية أحد رفاق السجن (السكران) الذي كان يصرخ في هستيريا:
"كان سكراناً..
ولقد نهض مرة أخرى محاولاً أن يحطم القضبان بقبضته، صارخاً بأعلى صوته:
-      تعيش إسرائيل.. تعيش.
ونثر ذراعي جانباً حين أردت تهدئته، وواصل صياحه:
-      آه.. أين أنت يا موشي ديان؟
وجاءوا إليه بالأحزمة الخشنة، إلا أنه لم يكف عن الزعيق، فيما بدا أمام عيني كأنه مقيد داخل قفص شائك وقد مسخ نصفه الأسفل سمكة.. سمكة ممزقة من أثر السياط"[18].
       هذا الرفيق كان سكراناً ورؤيته بهذا الشكل ممسوخاً تجعل في الأذهان للتأويل آفاق شتى، فالتراث هنا وُظِّف لجعل آفاق التأويل مفتوحة، فمنها أن الدولة بوقوفها ضد المظاهرات المناوئة لليهود تبدو مثل تلك الساحرة ومنها أن هذا الرجل بسكره وامتداحه لليهود صار مَسخاً.




[1] خليفة الفاخري: موسم الحكايات، الدار العربية للنشر والتوزيع والإعلان، ط2، 1994.
[2] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص55
[3] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:66 ، 67
[4] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:91
[5] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:98
[6] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:191
[7] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:191
[8] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:199
[9] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:165
[10] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:166
[11] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:167
[12] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:170،171
[13] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:172
[14] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:172 ،173
[15] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص: 304، 305
[16] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:305
[17] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:308، 309
[18] خليفة الفاخري / موسم الحكايات/ص:310، 311